[email protected] 1. مُفتتح: لن تكون هذه الورقة دراسة أكاديمية محضة، ولن أحيلكم إلى مراجع يسيرة كانت أو عصية، ولا هي تمرين في التحليل النقدي ، بل ولا يسعى كاتبها أن يجعل منها طرحاً يستدعي النقد أو الجدال حول مطروحاتها. غاية ما ترمي إليه هي إلقاء تساؤلات، أشبه بالاضاءات الخافتة، حول رؤية تبناها كاتبها في تمرينٍ فكري لاستجلاء انتسابات الكتابة السردية، من واقع كتاباته ورواياته التي صدرت بين 2007 و2010، وانطلاقاً من تجربته الشخصية، على تواضعها في نظره، وقصورها في نظر البعض الآخر . 2. سؤال المرجعية واستقصاء الانتساب: هل من ضرورة أصلاً لطرح سؤال عن مرجعية السّرد الروائي، إن لم يكن ثمة روابط وتجليّات تتصل بأسئلة الانتماء والهوية في فضاءاتٍ، حدودها تاريخ معين وجغرافيا معينة ..؟ وقفت قبل التحرّي عن إجابة، لصوغ ما أراه تعريفاً مناسباً للسرد الروائي من واقع الممارسة، ومن منطلق التجربة الشخصية المحضة. في أبسط تعبير أقول عن السرد الروائي أنه فن كتابة القصة المتخيلة عبر أساليب متعددة، وصياغات فيها من أحمال الفكر وتعقيدات التجربة البشرية، ما يهب الكتابة خلودها.. قد تكون الكتابة إعادة صياغة وتحوير وتبديل وإضافات واستشرافات لأحداث واقعية، كما قد تكون خلقا مستقلاً، لغة ومضموناً، كامل الاستقلال عن أيّ حدث واقعي معيّن، أقربها كتابة رواية الخيال العلمي.. في كلا الحالتين تكون هنالك حاجة لوضع الإصبع على المرجعية التي يتكيء عليها الكاتب/السارد، وفي الحقيقة البدهية لن تكون هذه المرجعية إلا العقل البشري في تفاعلاته وانفعالاته (الاختمار)، ثم انعكاساته وتجليّاته (المخرجات). قد لا تكون أكثر من استنطاق الحكمة من تجربة ما في صيّغها الحياتية والفكرية، ومن صراع تولّد إثر وبعد التفاعل ، واحتدام الديناميكية عبر ذلك الاختمار . . 3. حتمية الحبكة وانبثاق الحكاية : يبتدع العقل مرجعيته وقاموسه لصياغة انفعالاته وتفاعلاته ، عبر ثنائية المخاطِب (بكسر الطاء) والمخاطَب (بفتحها) ، فيصل إلى أن يشكل عقلاً جمعياً تتحدّد معه معايير الصراع الذي يولد حيوية المسير في دروب الحياة (معيار الخير ومعيار الشر )، ميزان الأذى وميزان الإحسان.. لكأنّ الحياة إن كانت بلا "حبكة" ستفقد حيويتها وديمومتها.. في مرحلة ما، تتطور مرجعية المعايير لصياغات إبداعية، وتلتقي هنا المقدرة السردية بالأحجية والحكايات الشعبية البسيطة، التي تراكمت عبر تجارب وسيّر وتاريخ . . تشكّل القدرات السردية الشفهية والتي تتفتق عنها ما يختزنه العقل الجمعي عبر التجربة الإنسانية المتجذّرة في التاريخ كما في الجغرافيا، وتشكِّل منظومة مكوّنات الثقافة بتعريفها الانثروبولوجي (كما عند فريزر: الغصن الذهبي مثلا)، ذلك المعين الرئيس الذي ننهل منه للكتابة السردية التي تتقدّم بداهة على الشفهي ولكن قد لا تتناقض معه. من حكمة العقل الجمعي ومن موروثاته من جهة ، ومن مثاقفة الكاتب مع بيئته الثقافية التي لا تنفصل عن المنتوج البشري العام من جهة ثانية، تتولّد تجليّات الإبداع ومخرجاته. 4. أساليب الكتابة: انمحاء الحدود . . من أهمّ المؤثرات في التجربة السردية إلى جانب ما ذكرنا أعلاه، ثورة الاتصالات وما أتاحته من تدفق معلوماتي كاسح، وفَّر أبعاداً في التجربة الإبداعية، بحيث تعقدت أساليب الكتابة برغم ما قد يعد استسهالا في الأخذ بما أتاحت من وسائل، لابتوب - هواتف ذكية– بلوقات– منتديات تفاعلية - رسائل نصيّة. . إلخ، لكن الإضافة الإبداعية الحقيقية لن تكون سهلة أبداً، كما قد يُتصور أوّل وهلة. هذه التطورات لم تقارب بين أساليب الكتابة فحسب، بل اختصرت المسافات بين أشكال الإبداع بتبويباتها السالفة: شعر- قصة قصيرة – رواية- ملاحم- فلسفة- نقد – دراسة فكرية..إلخ.. تتداخل التجربة الإبداعية بين هذه التفرّعات والأجناس. كنت أرى الحدود بين هذه التفرّعات إلى انمحاء. فيما أكتب القصة، تقفز اللغة بين شعرٍ وقصٍّ، على سبيل الايضاح، تتماهى الرؤية السردية مع الرؤيا. كان رهاني على الدوام أن المخاطَب (بفتح الطاء) هو المتلقي الذكي الذي لن يعجز عن القفز معي بين فروع شجرة تجربتي، وإن تعدّدتْ رؤيتها ورؤاها وأسلوب كتابتها، بين سرد وقصيد. أقتبس نصاً من روايتي "حان أوان الرحيل" (بيروت ، 2010)، كتبته في لحظة شعرية في قلب السَّرد: (يمدّ الغريق يداً واهنة ، والموجُ متلاطمٌ لا يرحم . حبلٌ من الحكايات تعبث به الريح ، يبعد رويداً رويداً، عن اليد الواهنة. الأصابعُ لم تعد تقوَى على الإمساك بتفاصيل السّرد. بهتتْ الألوان في قوس قزح. تقطعت أوصال الحكايات والقصص ، إرباً إربا . أجفلتْ من الذاكرة ، والموج متلاطمٌ عنيد . اختلجت عينا العجوز مختار، وما عاد يرى غير أشباح بشرٍ وشياطين ووحوشاً وأطيافاً. ثلة من الإنجليز يهربون في خلاءٍ بعيدٍ ، وأناس يهرعون سعياً للّحاق بقطارٍ يطوي المسافات، تراجعاً إلى حيث ما بدأت رحلته . الأمكنة مزيّفة ومربكة، والقطار يتقهقر إلى الوراء . دخانه - ويا للعجب - يتجه إلى الأمام . الساعات المُعلّقة في عربات القطار توقفتْ جميعها ، وكأنّ الوقت راح في إجازة مفتوحة . ) سيقول المُتلقّى إنّهُ يقرأ قصيدة . ليس بالضرورة أن نرى بحراً خليلياً أو قافية تقليدية. 5. التدارس الأكاديمي مرجعية غير مباشرة : الكتابة الروائية ليست أقدم أنواع الإبداع، وما بلغ تطوّرها الذي أوصلنا إلى الكتابة السردية ونحن نلج إلى الألفية الثالثة، إلا خلال القرون الثلاثة الأخيرة، على أقل تقدير. الكتابة تخرج من بحر التجربة وتستسقي من رصيد إبداعي تراكم عبر التاريخ. لا تنصقل الكتابة إلا بعد تجريب حياتي متدفق، واستنطاق متواتر للرّصيد المعرفي الذي لا تحدّه آفاق، استشرافاً لفضاءات غير الفضاءات الحاضرة، ونشداناً لتغيير كبير مُحتمل. لم تعد الكتابة السردية تمريناً في الحكي، أو نزهة كلامية محورها عقدة وشخصية رئيسة وصراع ينتهي بخيرٍ أو بشرٍ. ملهاة تنطوي على حكمة وابتسامة، أو مأساة تستدرّ الدموع . ليست الكتابة فصلاً في مدرسة ، بل تدارساً وتدقيقاً في التجربة الإنسانية، وصياغات متجدّدة من بعد، في اللغة وفي المعاني. إنْ شرعت مثلاً في إعداد رواية تقع أحداثها في سنار- السلطنة الزرقاء، كيف تكون كاملة الرصانة، والعمق إن لم تكن على اطلاع بتاريخ تلك السلطنة وكل ما تناوله المؤرخون عنها.. عن ملوكها وأفراد شعبها، وسبل كسب العيش فيها، أسواقها والمغنيين، وطقوس العبور، وعادات الأفراح والأتراح ؟ ليست هي قراءات أكاديمية تصلح لأن تورد في هوامش الكتابة، ولكن المطلوب هو "التشبّع" بروح البيئة إن جاز الوصف، ولن يتأتى ذلك إلا بالقراءات الواسعة بلا حدود. ذلك نوع من "التشبّع" يولّد الروح الحقيقية في قلب الكتابة. (كسب الانتساب؟) إقرأ معي مقتطفاً آخر من روايتي "حان أوان الرحيل"(2010)، ستراه قصيراً مختزلا، ولكن كلّفني قدراً كبيراً من الوقت والتقصّي والقراءة المتأنية عن تاريخ وأحوال الجنرال الانجليزي كيتشنر: (وقفتُ على شاطيء النيل الأزرق، ذات مغيب. القصر المهيبُ بلونه الحليبي على يميني . "الفندق الكبير" عن يساري .لم يبقَ لي إلّا القسم الغليظ بكليهما، فأنال الجائزة الكبرى. هاهيَ "البارجة" أمامي، راسية حزينة بلا بريق ولا أبّهة. دلفت إلى سطوحها الخالية من كلّ شيء. سرق الزمان بهاءها وبنى طين الشاطيء على جنباتها أشكالاً طحلبيّة سوداء. "ملك" إسمها، بل أطلال إسمها، وبلا مملكة وبلا سلطان . بلا "كيتشنر" . بلا بحّارة وبلا قبّطان. عارية من السلاح. لا مدفع ولا "مكسيم" . عارية من المجد ومن التاريخ، جنرالها غائب وقد شوّهت جثته المحيطات، فكأنّ القدر يحاسبه عسيراً على مغامراتٍ وظلاماتٍ قديمة. مجازرغسلتْ جبل "كرري" في أطراف "أم درمان" الشمالية، بدماءِ أبرياءٍ من أنصار محمد أحمد المهدي وخليفته "التعايشي" . حرب "البوير" وقتال في الجنوب الأفريقي بثمن غالٍ وتضحيات جسام . في نهاية المطاف، استعمر الموجُ جثته حتى لا تكون له عودة إلى حلم التاريخ، وحتى تغيب الشمسُ دون أن تهزّها رعشة ندَم . ) تتكيء الكتابة السردية عندي على تراكميّات لا تحدّها حدود، وحده المتلقّي والناقد يرى فيها ما لا أراه أنا كاتبه. أنام مثل أبي الطيّب، ملء جفوني بعد أن كتبتُ ما كتبت. 6. السرد الإبداعي وبوصلة للتغيير : يأتي السرد من حيث تقف التجربة وإلى حيث تتجه بوصلات التغيير والتحولات، فيستنطق الكاتب مما قد يتسرب من تجربة شخصية، كما قد ينحت من صخر في جبل من تراكمات ما يتحدّر من تاريخه ومن جغرافيته، ويفتح باباً لمخاطبة المتلقي الآخر، هنا أو هناك . يتداخل الفكر عبر بوابة رؤية الكاتب مع رؤاه، ومن ابتداره أشرعة الإبداع لصناعة واقعٍ جديد. فيما أتجاوز بعفوية مفرطة تجارب رواد الرواية مثل خليل عبدالله الحاج وعثمان هاشم وأبو بكر خالد وملكة الدار، فإنّي أنظر في كتابة الطيب صالح الروائية فأراها تنتمي إلى أدب ما بعد التجربة الكولونيالية. لا يبتعد ابراهيم إسحق عن هذا البحر ولكنه مستغرق بكامله في إعادة صياغة "المحلي"، وليس بالضرورة من تماسٍ مع الآخر الغريب. لكن يظل التاريخ في محمولات السرد بتفاوتٍ يقلّ أو يزيد. لا أفصّل، بل أحيلكم لنماذج باهرة مما أنتجه روائيون وروائيات في العشرية الأخيرة: عيسى الحلو، بركة ساكن ، أمير تاج السر، زينب بليل، البكري ، محمود مدني ، بثينة مكي، صلاح حسن أحمد والصويم، والقائمة تطول . . 7. بعد واقع التواصل والاتصال وتعقيداته، لم تعد الكتابة السردية ، نزهة في الحكي وتمريناً مجانياً، بل هي تدارسٌ واستقصاءٌ واستجلاءٌ واستشرافٌ، وتداخلٌ بمتزج فيه المحلي مع الكوني الواسع، ولكن يبقى لكلِّ كاتب روائي أسلوبه الخاص، واستهلالاته في استحداث كيفية انتسابه لهذا النوع من الإبداع . ويكون الإثراء الحقيقي كامناً في ملاقحة مطلوبة واستكشافات فكرية، تشكّل ما يحسب إضافات حقيقية إلى تجربة إبداعية، وتكتب إسهامها وَبَصْمَتها في التجربة الانسانية الواسعة. 8. إضافة ختامية : فيما لو خرج الكاتب من محارته الذاتية، واللؤلؤ قيد التشكّل بين يديه، ألا يسأل محتارٌ: أما للبحر من تأثير على قدرة المحارة على الاحتفاظ بلؤلؤها ، حجمه واستداراته وألوانه ؟ بتعبير آخر وأوضح: كيف يكون للخارج الموضوعي من تأثيرٍ على الداخل الذاتي؟ أما لتحوّلات الواقع السياسي والاجتماعي من تأثيرٍ، سلباً أو ايجاباً، على منتوج الإبداع السردي. .؟ في حالة سطوة النظم الشمولية وطغيان الرأي الواحد، نجد للسرد أشكالاً تجنح في التعبير: 1/ أن تميل إلى لغة الرمز والتخفّي، أو 2/ أن تتوكّأ على عصا التاريخ ، أو في حالات الضيق القصوى. . :3/ تبقى الهجرة خياراً أخيراً ووحيداً أمام المبدع. أنظر معي إلى سموّ الأدب الفرنسي مع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وإلى الأدب الغربي عموماً والرواية خصوصاً، خلال وبعد الحرب العالمية الثانية منتصف القرن العشرين. ولكن - وهذه ملاحظة مهمة - لا يعنى ذلك ضمناً أنّ الإبداع لا يسمو إلا في ظروفٍ سياسية تقهر الرأي الآخر . . عن ورقة منقحة قدمها الكاتب في مؤتمر اتحاد الكتّاب السودانيين، فبراير 2013. الخرطوم - 20 مايو 2013