خارطة طريق إماراتية شاملة لإنهاء أزمة «الفاشر» شمال دارفور    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق إلى الاستقلال .. بقلم: محمد خير البدوي
نشر في سودانيل يوم 09 - 06 - 2013

تحول نظام الحكم في السودان بحلول ثلاثينات القرن الماضي من ثنائي إلى ثلاثي أطرافه بريطانيا ومصر وما أسماها المرحوم أحمد يوسف هاشم ( حكومة المفتشين ) بقصد الذم لكنه لم يذهب بعيدا عن الحقيقة بينما ظهر في بريطانيا للتعريف بها مصطلح الموج الأزرق يحكم السودان ( بلوز رول سودان ) . الأزرق هو لون الأزياء الرياضية في جامعتي أوكسفورد وكيمبريدج أعرق الجامعات البريطانية ويشكل خريجوها معظم الإداريين البريطانيين الذين التحقوا بخدمة حكومة السودان منذ أول الثلاثينات . يتوخى في تعيينهم تميزهم أكاديميا إلى جانب أن يكون الواحد منهم بطلا لا يشق له غبار في واحدة من ضروب الرياضة التي تمارس في الجامعتين . سير جيمز روبرتسون ( السكرتير الإداري) كان بطلا في كرة الرغبي وسلفه ماكمايكل – ماكميك – بطل جلمعة أوكسفورد في المبارزة وهناك أبطال في الملاكمة والمصارعة والعدو والسباحة إلى آخر القائمة . أصبح هؤلاء الزرق منذ الثلاثينات وحتى اعلان استقلال السودان طرفا في الحكم االذي كان ثلاثيا في الواقع لا ثنائيا كما يتوهم كثيرون . وهم أقوى نفوذا وأشد سطوة من الطرفين الآخرين : مصر وبريطانيا. أبلغ دليل على ذلك موقفهم عام 1946 ضد معاهدة صدقي - بيفن التى أقرت فيها الحكومتان البريطانية والمصرية وحدة وادي النيل وأيدها المعسكر الذي يشكل الأغلبية داخل السودان بزعامة المرحوم اسماعيل الأزهري الذي رافق صدقي باشا رئيس الوزراء المصرى في رحلته إلى لندن لإجراء المفاوضات هناك . أتصل صدقي باشا هاتفيا فور التوقيع على المعاهدة بالديوان الملكي في القاهره ليبلغه بأن : " تاج الفاروق إزدان بدرة جديدة هي السودان وأن الوحدة بين مصر والسودان أقرت بصفة نهائية " . هذه المعاهدة - التي وقع عليها في لندن رئيس وزراء مصر وارنست بيفن وزير خارجية بريطانيا وأيدتها الأغلبية داخل السودان - طويت كطي السجل بعد أيام معدودات وقبل أن يجف مدادها حين غرس " الموج الأزرق " أقدامهم بقوة في الأرض ورفضوها رفضا باتا إلى حد التمرد بل أن الحاكم العام هدد بالاستقالة مع كبار أعوانه ما لم تعدل الحكومة البريطانية عن موقفها وتؤكد تمسكها بحق السودان في تقرير مصيره . كما أخطروها بأنهم غير مسئولين عن ما سيقع من اضطراب في الأمن في سائر أنحاء السودان جراء المعاهدة وقد ظهرت بوادر ذلك في الاشتباكات التي وقعت خلال المظاهرات التي نظمها الاستقلاليون الرافضون للمعاهدة ومعسكر دعاة وحدة النيل في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى . يجب أن يذكر للحقيقة والتأريخ أن واشنطون كانت تقف بكل ثقلها وراء معاهدة (صدقي- بيفن) لاقناع مصر بأن تكون مقرا رئيسيا للحلف المزمع في الشرق الأسط ضد الاتحاد السوفييتي وهو الحلف الذي عرف لاحقا باسم حلف بغداد . كما يجب التمييز على ضوء ما ذكرنا بين الإداريين البريطانيين ( الموج الأزرق) والحكومة البريطانية بسياساتها الاستعمارية . لا ننكر أن لبعض أولئك الإداريين تجاوزات فرضتها عليهم طبيعة الحكم الأجنبي لكن حق السودان في تقرير مصيره كان عندهم "بقرة مقدسة" لا يتهاونون فيه أو يفرطون . قال سير جيمز روبرتسون لي مرة أثناء توليه منصب السكرتير الإداري : ( إننا نتمسك بحق السودان في تقرير مصيره ونتطلع لاستقلاله لكن ذلك لا يعني بالضرورة أننا سوف نرفض وحدة وادي النيل إذا كانت تلك إرادة شعب السودان ) .
غني عن البيان أن مصر حكومة وشعبا ودعاة وحدة النيل الذين يشكلون الأغلبية في السودان بلا نزاع لم يعترفوا بحق السودان في تقرير مصيره إلا في عهد الثورة المصرية بقيادة اللواء محمد نجيب .
أقولها دون لف أو دوران ومشي على الحبال أو حمل الأفيال والأثقال بين الأسنان : أن استقلال السودان تحقق وفقا لمشروع التطور الدستوري الذي وضعه " الموج الأزرق" بحذافيره حرفا بحرف وسطرا بسطر وخطوة بخطوة دون أي تعديل يذكر . افترع تنفيذ المشروع بالمجلس الاستشاري لشمال السودان الذي قاطعه مؤتمر الخريجين وشهد جلسته الافتتاحية السيدان الميرغني والمهدي . أعضاء المجلس معينون من قبل الحاكم العام من كبار الموظفين وزعماء العشائر والأعيان ورجال الأعمال السودانيين بعضهم ينتمون لحزب الأمة والآخرون محسوبون عليه لكنهم ليسوا من أتباع طائفة الأنصار . ولدت في أروقة المجلس – لأول مرة – فكرة استقلال السودان في ظل نظام "جمهوري اشتراكي " . استقال مكي عباس من عضوية المجلس وأصدر صحيفة الرائد التي طرح على صفحاتها بتلك الفكرة لأول مرة في تأريخ الحركة الوطنية في السودان السياسي وذلك قبل خمس سنوات تقريبا من تأسيس الحزب الجمهوري الاشتراكي بقيادة ابرهيم بدرى الذي باع بيته الفاخر الكائن في شارع العرضة بأم درمان لتمويل صحيفة الرائد . هذه حقيقة يتجاهلها عمدا أو دون قصد من يتناولون موضوع الحزب الجمهوري الاشتراكي المفتري وظروف تأسيسه عام 1951 . ترجع استقالة مكي عباس إلى ظهور توجهات في أروقة المجلس الاستشارى تهدف لقيام نظام ملكي في ظل الاستقلال في المستقبل .
تزامن قيام المجلس الاستشاري مع تجدد المفاوضات بين مصر وبريطانيا لإعادة النظر في معاهدة 1936 . لم يكن السودان طرفا في تلك المعاهدة وانما كان بمثابة كعكة تدعى مصر أنها ملك لها بينما تنازعها بريطانيا بحجة حق الفتح وبأنها كبير الطهاة ( الشيف ) الذي صنع الكعكة . كان واضحا هذه المرة أن بريطانيا ومصر تضعان حسابا لمطالب السودانيين كل حسب هواها . توجه إلى القاهرة في تلك الأيام وفد يمثل الأحزاب السودانية الاستقلالية والوحدوية برئاسة اسماعيل الأزهري رئيس حزب الأشقاء ومؤتمر الخريجين . كان تشكيل الوفد واحدة من حالات الاجماع والوفاق الوطني النادرة التي يعود الفضل فيها إلى مرونة حزب الأمة وتنازلاته مقابل تعتت وأنانية معسكر الوحدويين بزعامة الأزهري . تم الاتفاق علي وثيقة ارتضتها الأحزاب المشاركة في الوفد نصت باختصار على قيام حكومة سودانية في ظل اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا دون تحديد لنوع الاتحاد أو التحالف . كما نصت الوثيقة على تكوين لجنة لتصفية الحكم الثنائي تعين مصر وبريطانيا نصف أعضائها على أن يعين مؤتمر الخريجين النصف االآخر . إنها اتفاقية هلامية لكنها حققت الوفاق والإجماع بين أطراف متنافرة وجد فيها كل طرف مبتغاه ولو مؤقتا . صرح ارنست بيفن وزير الخارجية البريطانية كرد فعل على سفر الوفد إلى القاهرة بأن حكومة السودان تعمل علي تحقيق الحكم الذاتي كخطوة أولى في طريق الاستقلال . أضاف الحاكم العام في الخرطوم أن حكومته تسعى لإقامة الدولة السودانية الحرة المستقلة التي عليها تحديد علاقات السودان مع مصر وبريطانيا في غضون عشرين عاما . تصريح أرنست بيفن يعبر عن توجهات الموج الأزرق ( حكومة المفتشين ) أما الحاكم العام فإنه خارج الشبكة إذ ينتمي للجيل الذي حكم السودان قبل حقبة الثلاثينيات وليس محسوبا على الموج الأزرق بأية حال من الأحوال . ثم جاءت الجمعية التشريعية كخطوة أخيرة قبل مرحلة مرحلة الحكم الذاتي وتقرير المصير تنفيذا لمشروع التطور الدستوري الذي وضعه الموج الأزرق . أعضاء الجمعية التشريعية – التي تمثل السودان شمالا وجنوبا – معينون أو منتخبون انتخابا مباشرا أو غير مباشر . كلهم من أتباع حزب أو محسوبون عليهم . معسكر الوحدويين قاطع الجمعية التشريعية بتحريض من مصر تحت شعار (نقاطعها ولو جاءت مبرأة من كل عيب ) . . . منتهى الحماقة والغباء والطاعة العمياء لمصر!! . كنت للأسف واحدا من أولئك الحمقى الأغبياء بحكم موقعي كعضو في حزب الاتحاديين الأبروفيين . انتدبني مؤتمر الخريجين مع المرحوم محمد نور الدين لتنظيم مقاطعة الجمعية التشريعية في مدينة أتبرا . شهدت المدينة يومذاك أعنف وأشرس مظاهرة جرت في السودان ضد الجمعية سقط خلالها خمسة شهداء وعشرات الجرحي وحكم علي بالسجن عامين أمضيتهما في سجن الدامر مع المناضلين قاسم أمين وعبد القادر سالم عملت خلالهما سايسا لحصان الشاعر توفيق صالح جبريل نائب مأمور الدامر القائل في قصيدة له : ( فحصاني أعرج محدودب . . . كان يمشي خطوة أو لم يكد . . . ما رأى حبا ولا رطبا . . . سوى ظل سدر ثم حبل من مسد . . . فتلاشى السدر والظل ولم . . . يبق إلا شبه ظل للوتد ) . ألا بعدا للسياسة فإنها كما قال الإمام محمد عبده " لعن الله السياسة فإنها من ساس يسوس فهو سائس " .!! إذا كان هذا حال الحصان فما بال سايسه الشقي المغبون ؟؟ لعلى الوحيد في دنيا السياسة في أي زمان ومكان الذي انطبقت عليه مقولة الإمام . !!
في أواخر عمر الجمعية التشريعية وعلى وجه التحديد عام 1951 تبلورت فكرة الجمهورية الاشتراكية التي طرحها مكي عباس عام 1946 في قيامنا بتأسيس (الحزب الجمهوري الاشتراكي) من رجال الإدارة الأهلية الذين شاركوا في تنفيذ مشروع التطور الدستوري منذ البداية ومن جميع السياسيين الجنوبيين في ذلك العهد بما فيهم أعضاء الجمعية التشريعية باستثناء العضو بوث ديو !! كما سارعت قيادة الختمية بتأييد الجمهوري الاشتراكي إذ وجدت فيه حماية لها من تغول الأنصار والحيلولة دون هيمنتهم على حكم البلاد في المستقبل نتيجة التزام الأحزاب الوحدوية الموالية لطائفة الختمية بشعار المقاطعة حتى آخر الشوط . الجمهوري الاشتراكي هو الحزب الوحيد في تأريخ السودان الذي ضم أعضاء مؤسسين إلى جانب الشماليين في زمان لم يكن فيه حتى أعضاء جنوبيين عاديين في الأحزاب الأخرى مما يؤكد حرص الجمهوري الاشتراكي على الوحدة بين شقي البلاد . كان على الساحة السياسية يومذاك معسكران أحدهما يدعو بزعامة حزب الأمة لاستقلال السودان في ظل نظام ملكي محلي والثاني يدعو - بزعامة الأزهري – لوحدة وادي النيل تحت التاج المصري .غني عن البيان أن الشعب ممثلا في برلمانه اختارعندما حلت ساعة تقرير المصير ما دعونا له : نظام حكم جمهوري - لا ملكية محلية مهدوية ولا وحدة وادي النيل في ظل رأس دولة أجنبية . مع اقتراب موعد انتخابات برلمان الحكم الذاتي وقع الانقلاب العسكري في مصر بقيادة اللواء محمد نجيب وتحقق في مكتبه في القاهرة توحيد الأحزاب الوحدوية السودانية تحت اسم ( الحزب الوطني الاتحادي) برئاسة اسماعيل الأزهري . كما اعترفت مصر لأول مرة بحق السودان في تقرير مصيره راضية بالمشاركة في تنفيذ ما بقي من مشروع التطور الدستوري الذي وضعه الموج الأزرق وتبعها في ذلك " صوت سيده" الحزب الوطني الاتحادي ويعني ذلك تخليه عن شعار " نقاطعها ولو جاءت مبرأة من كل عيب " وقبوله خوض انتخابات الحكم الذاتي . رأينا يومذاك أن تنافسنا مع الحزب الوطني الاتحادي في دوائر عديدة سيؤدي حتما إما لفوز حزب الأمة بالأغلبية أو لبرلمان معلق ليس من المستبعد أن يتم تحت قبته تحالف بين معسكر الأزهري وحزب الأمة . كنا نتخوف من ذلك وهذا ما أثبتته الأيام في ما بعد عندما تحالف الأزهري مع الإمام الهادي المهدي من أجل الحكم لا غير ولاح من جديد شبح الملكية المهدوية مما دفع أعضاء الجمهوري الاشتراكي الذين انضموا للوطني الاتحادي إلى الانشقاق عنه والانخراط في حزب الاتحاد الديمقراطي . هكذا استقر رأينا في آخر المطاف على اندماج مرشحينا في الحزب الوطني الاتحادي شريطة التزامهم باستقلال السودان في ظل نظام جمهوري والعمل من أجل ذلك على تحول الوطني الاتحادي من وحدة وادي النيل إلى الاستقلال . بعض مرشحينا انضموا للوطني الاتحادي قبل عمليات التصويت بينما انضم آخرون إليه بعد إعلان فوزهم . كانت إذاعة أم درمان تعلن عن فوزهم في دوائرهم باسم الجمهوري الاشتراكي ثم تعلن بعد ساعات قليلة عن انضمامهم للوطني الاتحادي . من هؤلاء الفائزين على سبيل المثال : محمد حمد أبوسن – محمد الصديق طلحة – مجذوب ابرهيم فرح – طيفور محمد شريف – المرضي محمد رحمة – أبو فاطمة باكاش - محمد كرار كجر – مشاور جمعة سهل . لم يكتب الفوز لإثنين من قادة الجمهوري الاشتراكي في في تلك الانتخابات هما الناظر سرور رملى (دائرة ريفي الخرطوم ) وصاحب الجمرات محمد توفيق أحمد (دائرة حلفا ) .
حصل حزب الأمة على 22 مقعدا فقط بينما حصل الوطني الاتحادي على 51 مقعدا نصفهم تقريبا من مرشحي الجمهوري الاشتراكي شماليين أو جنوبيين . احتفظنا بثلاثة نواب فقط حفاظا على اسم الحزب وأفكاره وتحسبا لما يمكن أن يجبرنا على العودة إلى ما كنا عليه . النواب الثلاثة هم : عبد الحميد موسى مادبو ويوسف العجب ومحمد أحمد أبوسن الذي اكتسح في دائرة رفاعة بأغلبية ساحقة مرشحي السيدين المهدي والميرغني مما أثبت أن الإدارة الأهلية هي القوة الضاربة للقضاء على النفوذ الطائفي السودان . على أية حال نوابنا الذين انضموا للوطني الاتحادي شكلوا قاعدة صلبة وعريضة شدت أزر الأزهري ومعسكره داخل الحزب في تحوله إلى الاستقلال وإعلانه من منبر برلمان الحكم الذاتي وفي مجابهاته الساخنة ضد مصر وقيادة الختمية .
الطريق إلى الإستقلال (2)
نصت اتفاقية الحكم الذاتي بين مصر وبريطانيا على انتخاب جمعية تأسيسية عقب انتهاء فترة الحكم الذاتي الانتقالية لتقرير مصير السودان : الاستقلال أم وحدة وادي النيل . غير أن الأزهري خشي خلال تحوله تدريجيا إلى الاستقلال من اكتساح جمال عبد الناصر انتخاات الجمعية التأسيسية بنفوذه وأمواله وأنصار وحدة وادي النيل الذين كان لهم حتى ذلك الحين وزن كبير ومؤثر على الساحة السياسية . استصدر الأزهرى إزاء ذلك باتفاق مع المعارضة قرارا من البرلمان يقضي بإجراء استفتاء عام لتقرير المصير بدلا من الجمعية التأسيسية اعتقادا منه بأن أتباعه الاستقلاليين سوف يشكلون مع أنصار حزب الأمة الأغلبية المؤيدة للاستقلال حين يجرى الاستفتاء . لكن الأزهري وجد نفسه في مأزق حرج حين علم أن ثمة اتصالات تجري في الخفاء – على حسابه – بين قيادات من حزب الأمة وجمال عبد الناصر . أصبح الأزهري في حيرة من أمره لا يدري ما يفعل . شاءت الأقدار أن نلتقي ذات مساء في تلك الأيام (الناظر سرور رملى وأبورنات رئيس القضاء وشخصي ) في دار صديقنا وليام لوس مستشار الحاكم العام . دار بيننا نقاش حول الموقف السياسي ولدت خلاله فكرة اعلان استقلال من داخل برلمان الحكم الذاتي القائم . طرحها وليام لوس ووجدت قبولا منا . كما أوضح لوس موقف الحكومة البريطانية من الفكرة ودورها في ما قد ينشب من مصاعب وعراقيل إذا اتخذت الحكومة المصرية موقفا معاديا . تساءل وليام لوس : أليس هو برلمان مصر الذي فاز أنصارها بالأغلبية فيه فهللت مصر حكومة وشعبا وجاء رئيسها نجيب لافتتاحه ؟؟
رويت في مناسبات عديدة باللتفصيل كيف قمت صباح اليوم التالي بتكليف من وليام لوس بنقل تلك الفكرة إلى الأزهري رئيس الوزراء . كان ثلاثتنا يعلمون أن وليام لوس آخر من بقي في السودان من الموج الأزرق ليكتب عليه تنفيذ آخر فصل من مشروع التطور الدستوري ويعلمون أيضا أنه رجل بريطانيا الأول في الخرطوم يومذاك . لعل هذا يفسر ما ذهب إليه المؤرخ الثقة الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه حين أكد قبل أيام - استنادا على الوثائق البريطانية وهو أكثر مؤرخينا إلماما بها – بأن اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان فكرة بريطانية خالصة . والظاهر مما سجله دكتور فيصل نقلا عن الوثائق البريطانية أن وكالة الأنباء العربية ( رويتر) - التي كنت مديرا لمكتبها في الخرطوم – تكاد أن تكون النافذة الوحيدة لتصريحات الحاكم العام ومستشاره وليام لوس حول كل ما دار في تلك الأيام حول استقلال السودان وسبل تحقيقه . أليس في ذلك ما يلقى اضواء على ما أروي في ذلك الشأن ومشاركتي فيه ؟؟ . ويا صديقي اللدود الودود دكتور حسن عابدين " حرقتني المديدة" في انتظار صراع العتاولة الجبابرة : الدكتورين عابدين وفيصل !! . أهي فكرة أزهرية أم بريطانية ؟؟؟ غاية علمي " كعنفالي متواضع وأمي لا ختم له " أنها فكرة وليدة نقاش دار في بيت وليام لوس مستشار الحاكم العام كنت طرفا فيه إلي جانب الناظر سرور رملي ومولانا أبو رنات رئيس القضاء تبنتها الحكومة البريطانية . هذا لا يعني بالضرورة أنها ليست فكرة بريطانية في الأصل ولا يعيب الأزهري احتضانها كما لا ينتقص بأية حال من الأحوال من دوره في تنفيذها بإعلان الاستقلال من داخل برلمان الحكم الذاتي . ومهما كان مصدر الفكرة فلا خلاف على أنه ما من زعيم آخر طائفي أو سياسي غير الأزهري كان في امكانه تنفيذها إذ كان في تلك اللحظة الزعيم القومي الأوحد الذي ساقته العناية الإلهية والتفت حوله الأمة جمعاء على نحو لم يشهده السودان المعاصر من قبل أو بعد باستثناء الإمام محمد أحمد المهدي رضي الله عنه . عندما فاجأ الأزهري الجميع بعزمه على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان قوبل بمعارضة عنيفة من جانب السيد على الميرغني وأنصار وحدة وادي النيل داخل الحزب الوطني الاتحادي بقيادة محمد نور الدين وبينهم مجموعة كبيرة من النواب كما أبدى نواب حزب الأمة رفضهم لكنهم اضطروا للعدول عن موقفهم إثر تأييد الإمام عبد الرحمن المهدي لإعلان الاستقلال من داخل البرلمان في التصريح الذي ظفرت به منه بوصفي مديرا لوكالة الأنباء العربية( رويتر) في الخرطوم وما كان يعلم أني جئته لهذا الغرض بتكليف من الأزهري . لقد أثبت الإمام عبد الرحمن المهدي هذه الواقعة في مذكراته المنشورة في كتاب بعنوان (جهاد في سبيل الاستقلال ) . هكذا تم اعلان استقلال السودان من داخل برلمان الحكم الذاتي . لعل من المفارقات الصارخة أن من رفعوا علم الاستقلال أول يناير 1956 كانوا إلي ما قبل عام أو عامين ينادون بوحدة وادي النيل بل ظلوا ينكرون حتى قيام الثورة المصرية حق تقرير المصير للسودان !!
إذن من هم صناع الاستقلال الذي ظلوا يكافحون في سبيله منذ عشرات السنين ؟؟ الإجابة باختصار هم ثلاثة : (1) الموج الأزرق – خريجو أوكسفورد وكيمبردج - الذين هيمنوا على إدارة الحكم في السودان منذ ثلاثينيات القرن الماضي ووضعوا مشروع التطور الدستوري الذي افترع بالمجلس الاستشاري وانتهي باعلان الاستقلال عام 1956 (2) الجمهوريون الاشتراكيون الذين ارتضوا مشروع التطور الدستوري وشاركوا مشاركة فعالة حتى قبل تأسيس حزبهم في تنفيذ منذ صفارة البداية(المجلس الاستشاري) وحتى الشوط الأخير حين نزل الأزهري من صف الاحتياطي في الدقائق الأخيرة ليسجل الهدف الذي حسم المباراة . (3) قوة دفاع السوداان التي أقنعت بدورها في الحرب العالمية الثانية الحكومة البريطانية بحق السودان في تقرير مصيره والاستقلال . أما حزب الأمة فقد كان همه الأول تنصيب الإمام عبد الرحمن المهدي ملكا على السودان المستقل وإذا تعذر ذلك فلا مانع في أن يكون نائبا لملك مصر أو رئيسها في ظل وحدة وادي النيل مع تبييت النية على شق عصا الطاعة في المستقبل مثلما فعل محمد على باشا الذي جاء إلى مصر واليا عليها من قبل الخليفة ثم شق عصا الطاعة وانفرد بحكم مصر ملكا عضوضا له ولأسرته . لقد كان للصحافة السودانية أيضا دور مؤثر في إعلان الاستقلال من داخل البرلمان . إلى جانب وكالة الأنباء العربية كانت هنالك صحيفة الأيام التي أصبحت شبه الناطق الرسمي باسم الأزهرى ومعسكر الاستقلاليين داخل الوطني الاتحادي في وقت هيمنت على صحافته الأقلام المأجورة المتمسكة بوحدة وادي النيل وتولت مصر تمويلها بسخاء غير مجذوذ. بقي سؤال أخير : لمذا لم يعد الحزب الجمهوري الاشتراكي إلى الساحة السياسية بعد اعلان الاستقلال ؟؟؟ رأينا تصفية الحزب الجمهوري الاشتارا كي لأن الساحة أصبحت غير مواتية عقب الاستقلال بسبب التمرد في الجنوب ولقاء السيدين(المهدي والميرغني ) الذي قضى على الديمقراطية فلم تقم لها قائمة حتى اليوم . ثم أن وظيفة رجال الإدارة الأهلية المتمثلة في توفير الخدمات لمناطقهم تفرض عليهم التفاهم الودي مع الحكومة القائمة دون أن يعني ذلك تاييدها أو مكايدتها مهما كان لونها لأن الحكومة هي التي توفر تلك الخدمات علي اختلافها من صحة حيوانية وبشرية والتعليم وتوفير مياه الري والشرب النقية وسائر ضروب التنمية الأخرى . على أية حال يكفي أننا حققنا النصف الأول من أهدافنا : الاستقلال في ظل النظام الجمهورى . . . لا ملكية أو تبعية لدولة أجنبية . أما الاشتراكية فقد كانت قائمة بالفعل في عهد ماقبل الاستقلال على نحو لا مثيل له حتى في الاتحاد السوفييتي باعتراف الرئيس بريجنيف خلال زيارته لمشروع الجزيرة في عهد حكومة الرئيس ابرهيم عبود .
من الواضح أن هنالك تعتيما مقصودا وشاملا على الجمهوري الاشتراكي في وسائل الإعلام وما يكتب أو يقال عن مسيرة السودان في طريق الاستقلال لان أي ذكر له من قريب أو بعيد سوف يكون على حساب الحزبين الرئيسيين الآخرين : الأمة والوطني الاتحادي ( الاتحادي الديمقراطي حاليا ) . من التقاليد المتعارفة – مثلا – أن يشار لمؤسس الصحيفة عندما يعاد اصدارها كالصحافة( عبد الرحمن مختار ) والأخبار ( رحمى سليمان ) . لكن عندما أعيد إصدار صحيفة الرائد التي لها السبق في طرح فكرة الجمهورية الاشتراكية عام 1946 لم يذكراسم مؤسسها المرحوم مكي عباس كما لم يذكر اسم مؤسس صحيفة الوطن الناطقة باسم الجمهوري الاشتراكي عندما أعيد إصدارها . ربما لا يكون هنالك إلزام قانوني لكنه الزام أدبي بموجب الأعراف والتقاليد . غاية القول إنه تعتيم شامل ومقصود ينطوي على تجن مع سبق الأصرار على التأريخ . يذكرني ذلك بقصة صاحب مزرعة البطيخ ( مقاة) الذي يمر عليه شاب غرير كل صباح ويتبادلان التحية والسلام . ينتهز الشاب الفرصة فيلتقط بطيخة ويلتهمها ويستحي صاحب المقاة من منعه لأنه صديق أسرته . جاء الشاب كعادته ذات صباح وألقى السلام على صاحب المزرعة الذي تجاهله هذه المرة خوفا على بطيخه . سأله الشاب : لماذا لا ترد على السلام هل أنت زعلان مني ؟؟ فرد صاحب المقاة : لا يابني لكن السلام يجيب الكلام والكلام يجيب البطيخ !! . هكذا يخشى الحزبان الرئيسيان الأمة والوطني الاتحادي على " بطيخهما " متى جاء ذكر الجمهوري الاشتراكي أو الإشارة إليه من قريب أو بعيد . والباب الي يجيب الريح سدوا واستريح . أذكر أن أستاذا مرموق للعلوم السياسية في جامعة الخرطوم كتب مقالا في احدى صحفنا عن الأحزاب السياسية في عهد الحكم الثنائي لم يشر فيه البتة إلى الحزب الجمهوري الاشتراكي الذي يكفي أنه أحد أحزابنا السياسية الرئيسية الثلاثة الموقعة على اتفاقية الأحزاب التي أبرمت على ضوئها اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير بين دولتي الحكم الثنائي .
إلى من يهمه الأمر سلام :
لقد وفرت السلطة الحاكمة للصحافة قدرا معقولا من الحرية لا غبار عليه إذا وضعنا في الاعتبار ما يواجهه السودان من مؤامرات في الداخل والخارج . لكني لا أخشى على صحافتنا- بحكم تجربتي - من السلطة الحاكمة بقدر ما أخشى عليها من رؤساء تحريرها لا لأنهم لا يؤمنون بحرية الصحافة فحسب وإنما يصادرون حتى حق المجني عليه في الرد على ما ينشر في صحفهم من تشهير يعيبه واعتداءات صارخة على شرفه وسمعته . ظللت منذ نحو عشر سنوات كاتبا مشاركا في عدد الجمعة من صحيفة السوداني بالمجان ودون مقابل مادي أو أدبي . نشرت السوداني رغم ذلك أكثر من مرة ما يسيئ إلى شخصي إساءة بالغة كان آخرها مقالا بقلم أستاذ جامعي يحوي تكذيبا لما رويته في الصحيفة عن دوري في اعلان استقلال السودان من داخل البرلمان .
إنه طعن صريح في مصداقيتي وتشويه فاضح للتأريخ تدحضه الوثائق البريطانية التي نشرها البروفيسور فيصل عبد الرحمن على طه على صفحات الراكوبة . امتنعت صحيفة السوداني – للأسف - عن نشر الرد الذي ارسلته إليها وهذا لعمري قمة العقوق واحتقارشرف المهنة على أعلى المستويات من جانب الذين عليهم الدفاع عن حرية الصحافة والالتزام بأخلاقيتها ومواثيق شرفها . إنني لا أطمع في جزاء على ما قدمت للسودان في مسيرته في طريق الاستقلال ولكن يحز في نفسي أن يكون ذلك موضع انكار وعدم اعتراف وتقدير . إنني أربأ بابن أخي الأستاذ (جمال) أن يكون على رأس صحيفة تكفر بكل ما عرف به والده شيخ الوالي حكيم الجزيرة من مكارم الأخلاق وحسن المعشر وانتصار لمبادئ الحق والفضيلة والحرية . كما لا يشرفني الانتساب إلي صحيفة كالسوداني لا تحترم حرية الرأي ولا تحتفل بحقوق الزمالة وعليه أطلب من رئيس مجلس إدارتها (جمال الوالي ) شطب اسمي فورا من قائمة كتاب عدد الجمعة الاسبوعي ففي بقاء اسمي عليها تشهير بي وتدنيس لقلمى وسمعتي . وسوف اتخذ الإجراءات القضائية اللازمة في حالة عدم الاستجابة والله المستعان وهوعلى ما أقول شهيد .
( محمد خير البدوي )
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.