بقلم: عبد الملك محمد عبد الرحمن نصر أحرز طلاب من كليتي الهندسة والطب في جامعة الخرطوم بطولة المسابقة الدولية للمناظرات بدولة قطر. سرى الخبر في أروقة الجامعة العريقة سريان النار في الهشيم فعزز ثقة إدارة الجامعة و أساتذتها وطلابها وكافة منسوبيها في طلابهم النجباء وتدافع الفرحون ينظمون مهرجانات الفرح: إدارة الجامعة، مركز الفيصل الثقافي، سوداتل ممثلة في شركة "سوداني" للاتصالات، وزارة العلوم والتقانة ممثلة في وزيرة الدولة بها ابنة الجامعة الدكتورة تهاني عبد الله عطية، وآخرون اصطفوا ينتظرون دورهم في تكريم الفريق. خاض الفائزون منافسات شرسة في تصفيات بجامعة الخرطوم شارك فيها طلاب من مختلف كليات الجامعة و أشرفت عليها لجنة ضمت نائب عميد كلية الآداب د. عصمت محمود، ثم خاض المختارون منافسات أشرس في الدوحة توجت بفوزهم بالمرتبة الأولى بإجماع الحكام التسعة بفارق في الدرجات لم يحدث من قبل ، و فاز طالب الهندسة الميكانيكية بجامعة الخرطوم أمجد عبد الرحمن عثمان بجائزة أفضل مناظر في البطولة من مجموع 167 مناظراً. كانت أصعب مباريات فريقنا ضد فريق الجامعة الأردنية المكون من مناظرين من المحاسبة، والعلوم السياسية، و أصول الدين. وفي العام الماضي فازت الجامعة العالمية الإسلامية في ماليزيا بالبطولة و كان جل مناظريها من كلية الهندسة بها، وفاز بالمركز الثاني، فريق جامعة الخرطوم، من العلوم السياسية، والعلوم الإدارية و كلية الصيدلة. تذكرت أبطال الدوحة وأنا أحضر مسابقة مناظرات باللغة الإنجليزية نَظَّمها في أسبوع المهندس قبل أسابيع طلابُ كلية الهندسة بجامعة الخرطوم. عقدوا المناظرات تحت شجرة كبيرة وأتوا بمحكمين، سيدتين من سفارتي الولاياتالمتحدةالأمريكية و بريطانيا. أدهشني مستوى الطلاب العالي في المناظرات الإنجليزية. لا بد أن طالبا كان يقف بجانبي لحظ دهشتي وقرأ ما جال بخاطري . أخبرني أن كثيرا من هؤلاء الطلاب طلاب شهادة سودانية. في الماضي كان مستوى مُعظم الطلاب في اللغة الإنجليزية عاليا، حتى في المدارس الثانوية والوسطى. لم يكن ذلك خصما على اللغة العربية. كان مستواهم فيها أيضا عاليا، قائما على قاعدة متينة وفرها لكثيرين منهم في طفولتهم تعليمهم في "الخلوة". علو كعب المناظرين باللغة الإنجليزية في كلية الهندسة ذكرني بحدث في حنتوب الثانوية يبدو الآن نادراً. كان كلُ من التنظيمين السياسيين الكبيرين في المدرسة (الجبهة الديموقراطية والاتجاه الإسلامي) يُصْدِرُ بانتظامِ صحيفتين حائطيتين، واحدة باللغة العربية و أخرى باللغة الإنجليزية: "العروةُ الوثقى" وصحيفة " The Mirror " يصدرهما الاتجاه الإسلامي، و "الملايين" وصحيفة إنجليزية، لا أذكر اسمها الآن، تصدرهما الجبهة الديموقراطية. في ذلك الزمن الجميل، عندما كان الوعيُ حاضراً في كل مكان في السودان، كان طلاب التنظيمات السياسية أصدقاء. الغَلبةُ في قضايا الفكرِ والمعرفةِ وندوات الثقافةِ سجال بينهم، والتنافس على التفوق الأكاديمي على أشده. في مطلع أحد الأعوام الدراسية شرع الاتجاه الإسلامي يختار رئيس تحرير لصحيفته الإنجليزية خلفا لرئيسها المنصرف الذي غادر المدرسة إلى جامعة الخرطوم. ربما تصيبك الدهشة الآن إن علمت أن اختيارهم وقع على طالب جديد في السنة الأولى (نعم طالب في السنة الأولى الثانوية! ) ضليع في اللغة الإنجليزية اسمه الصادق محمد عبد الله الوالي، من " فداسي" بولاية الجزيرة. بعد عام واحد رحل الصادق، توفي غرقا في بلده أثناء العطلة الصيفية. والده محمد عبد الله الوالي كان سكرتيرا لاتحاد مزارعي الجزيرة. والده نَظَم قصيدةً عصماء في رِثاء ابنه. والدهُ أيضا كان أديبا مثقفاً. توهمت للحظة وأنا في مناظرات كلية الهندسة أني واقف وسط طلاب جامعة أكسفورد في قاعة جمعية مناظرات اتحاد جامعتهم. في مطلع كل عام دراسي، على امتداد قرون، تستهل تلك الجمعية نشاطها بجدلية واحدة: " هذا المجلس لن يحارب من أجل المَلِكة (أحيانا الملك في الماضي) و بريطانياThis House will not fight for Queen and Country ". إعلان يثير حفيظة قدامى المحاربين البريطانيين فيكتبون رسائل لصحيفة التايمز اللندنية محتجين. لا فائدة لاحتجاجاتهم-الجامعة تَتَّبع تقاليدها! الجامعات العريقة دائما تَتَّبع تقاليدها. جمعية مناظرات اتحاد طلاب جامعة أكسفورد جمعية شهيرة صنعت قادة بريطانيين وقادة دول أخرى كثيرة لا تتحدث الإنجليزية. "طارق علي" طالب باكستاني كان رئيسا لها ولم تكن الإنجليزية لغته الأصلية. لتكون بارعا في المناظرات بأي لغة أنت لا تحتاج أن تكون متخصصا في تلك اللغة أو حتى من أهلها. أنت تحتاج في المكان الأول لمهارات أخرى قد لا تتوافر للمتخصصين في اللغة. الشواهد على ذلك كثيرة محليا و دوليا. لقد كنت مولعا بحضور مناظرات طلاب جامعات بريطانية درست بها. لم يَدُر يوماً بِخَلَدي أو بأذهان من كانوا يحضرونها أن نسأل عن تخصصات المشاركين فيها أو الفائزين بها. أساس النجاح في المناظرة معرفة كيف تُقْنِع الحُضورَ بًمتانةِ موقفك عبر حجج دامغة. البلاغة تسهم بالطبع في النجاح. لكنها ليست هي الحاسمة. المناظرة جهد جمعي Team workوتَحَسُبُ ذِهني لتفكير الخصم ومعرفة باستخدام لغة الجسد ووسائل إبطال مساعي الخصم لإرباكك والزج بك في ركن ضيق. تقلب الطاولة عليه بعد أن توهم أنه ضيق الخناق عليك. حتى استخدام أساليب الفكاهة بدون إفراط مطلوب، مع احترام الخصم وعدم الاستخفاف بعقول المستمعين. هي أشياء كثيرة بعضها مواهبُ يختصُ اللهُ بها بعضَ عِبادهِ. وهي منهجُ علميُ تَرفَده معرفةُ بنظرية الجدل (Argumentation Theory). في كل الأحوال مطلوب لصقل قدرات المناظرات الاطلاع على طُرقها و أدبياتها. هنا، مثلا، كتابان يوفران بعض المطلوب: كتاب ألفه ستيفن لي جونسون Steven Lee Johnson، أستاذُ مُشاركٌ ومديرٌ للمُناظراتِ في جامعة ألاسكابالولاياتالمتحدةالأمريكية: "الفوز بالمناظرات Winning Debates"، والآخر كتاب اسمُ مؤلفه إيان ليسنغIan T. Lising : "فنُّ وعلمُ مُناظرات البُطولات الجامعيةِ العالميةِ The Art and Science of World Universities Championship Debating" . لا تُبال إن كان الكتابان بالإنجليزية. نحنُ نتحدثٌ هنا عن براعات وإبداعات إنسانيةِ مستقلة إلى حد بعيد عن اللغة. إن رغب بعض أبنائي محبي المناظرات في الجامعات السودانية أن يحصلوا عليهما سيسرني مساعدتهم في ذلك . وأنا إذ أذْكُر الأبناء في كافة الجامعات السودانية أسأل : لماذا لا تتبارى جامعاتهم سنويا في المناظرات العربية و الإنجليزية- من جامعة جوبا في دولة جنوب السودان الشقيقة جنوبا إلى جامعة بلدي دُنقلا، قلب ديار الحضارة النوبية، شمالا ( في رواية "دُنقلا" كلمة نوبية مركبة من لفظين: "دا" بمعنى دار و "قُل" – بضم القاف-بمعنى قلب، أي "قلب الديار"). لقد شجعني اهتمام طلابنا بالمناظرات أن أستعيد فكرة راودتني مرارا في الماضي وهي بناء قاعة كبيرة للمناظرات العربية والإنجليزية في جامعة الخرطوم على غرار قاعة مناظرات جامعة أكسفورد. الآن أجد الوقت مناسبا لطرح الفكرة بقوة، خاصة وقد اقترحها أيضا مدير معهد البروفسير عبد الله الطيب للغة العربية، الدكتور الصديق عمر الصديق، في الحفل الذي أقامته إدارة جامعة الخرطوم لتكريمه وطلابه الفائزين. الدكتور الصديق عمر الصديق، عالم اللغة العربية الشاب، أشرف مع الأستاذ يحي محمد عثمان هاشم، الأستاذ بكلية الدراسات الاقتصادية بجامعة الخرطوم، على تدريب الطلاب الفائزين في تصفيات الجامعة لاختيارالفريق الذي يمثلها. ثم توج تدريبه لهم، قبل سفره معهم مرشدا وموجهاَ، بتنظيم مناظرة تجريبية مع طالبات جامعة الأحفاد التي شاركت أيضا في منافسة الدوحة (لله در هذه الجامعة الرفيعة- جامعة الأحفاد). ودكتور صديق هو قبل ذلك مدير معهد العلامة عبد الله الطيب للغة العربية . سار بمعهده، والناس على ذلك شهود، من نجاح إلى نجاح. أصبح المعهد في زمنه قبلة أهل الفكر ومحبي العربية الخالدة من كل مكان في المدينة وخارجها- يَخِفون للمعهد مرتين في الشهر لحضور ندوات العلامة عبد الله الطيب التي قارب عددها الآن الخمسين بعد المائة الثالثة. ليت فكرة قاعة المناظرات تكون بذرة مشروع أكبر: مبنى فاخر يضم بجانب القاعة معهد عبد الله الطيب للغة العربية ومعهد اللغة الإنجليزية و وحدة الترجمة والتعريب بالجامعة. هذه الوحدة التي ارتاد بها رئيسها السابق الدكتور حسن علي عيسي و زملاؤه قمماً سامقة. ومن بين قُلَل الجبال التي ارتقتها إنجاز ترجمة رسالة عبد الله الطيب للدكتوارة من جامعة لندن: "أبو العلاء- شاعرا. Aabu-Ala as a Poet". ترجمها للعربية عبد المنعم أحمد الشاذلي الأستاذ بالوحدة و هوأحد تلاميذ العلامة. ثم ليت الجامعة تطلق على معهد اللغة الإنجليزية اسم أحد كبار أدباء الإنجليزية- معهد وليم شكسبير للغة الإنجليزية مثلا. في جامعة بيرمنجهام البريطانية معهد بهذا الاسم. لِمَ لا يكون لدينا هنا سمِيه ونؤسس لعلاقات أكاديمية وطيدة بينهما، وبيننا وبريطانيا روابط ثقافية قديمة و ود واحترام؟ الجامعات العريقة مؤسسات عالمية. هي مراكز الإشعاع الفكري الإنساني الذي لا وطن له والعلم الذي هو إرث البشرية جمعاء. التحية لأبنائي الطلاب محبي المناظرات العربية و الإنجليزية بكافة الجامعات السودانية في دولتي السودان الشقيقتين. والتهنئة لكل من فاز منهم ببطولاتها محليا و دولياً. ولهم جميعا وللعالم الدكتور الصديق عمر الصديق وأبنائي شباب اللغة العربية أصدقاء معهد عبد الله الطيب أرفع قبعتي محييا. Mahmoud [[email protected]]