الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989 (الحلقة السابعة): انقلاب للبيع...! الصادق المهدي وقصة محمود الكذاب: هجم النمر، هجم النمر، فلم يستيقظ أحد! انقلابات سُرِبَت للاستخبارات العسكرية سَمَمَت بها جسد الجيش فأصابه الشلل! بقلم: د. عصام محجوب الماحي [email protected] غلاف مجلة الأشقاء عدد 27 يونيو1989 وعدد 7 مارس 1989 استعرضت في الحلقات السابقة اجتماع (الجنينة) من "الألف إلى الياء" الذي جمع السيد محمد عثمان الميرغني ومعه ثلاثة من أركان حزبه الاتحادي الديمقراطي ووزير الدفاع مبارك عثمان رحمة وبرفقته هيئة القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة. وانتهيت في الحلقة السابقة بالمعلومات التي تحصلت عليها يوم ان "وقع الفاس في الراس"، أي الجمعة 30 يونيو 89، حول اجتماع ثاني عقد بطلب من الميرغني، بينه وبين مدير الاستخبارات العسكرية اللواء صلاح مصطفى، كان أشبه باجتماع الفرصة الأخيرة لإفشال الحركات الانقلابية، التي ورد ذكرها في تنوير هيئة القيادة العامة الذي قدمته أمام السيد الميرغني وحضرته لتسجيل وقائعه، وقد انتهت في واقع الأمر إلى انها واحدة، كانت تَجْرِي داخل الجيش على أكثر من قدم وأكثر من ساق لزوم التضليل والتمويه. نقرأ في هذه الحلقة موضوع غلاف مجلة (الأشقاء) الصادرة يوم الثلاثاء 27 يونيو 89 تحت عنوان: انقلاب للبيع...!، لنرى ان كانت الخلفية التي وضعناها له بكشف أسرار اجتماع (الجنينة) مفيدة وكافية للإلمام بإطراف القراءة التحليلية وسبر غور التكهنات التي تأسس عليها المقال؟. فإلى المقال دون حذف أو إضافة..... **** نعرف ان هنالك حكمة تقول: ليس كل ما يُعرف يُقال. وبين معرفة الأشياء وخفاياها والقول.. تظهر صعوبة الحديث هذا الاسبوع. لماذا؟ انه سؤال عنيد!! لانه، ليس من المقبول، منطقا وعقلا، ان نفعل ما نفعل في الأحداث تحليلا وتشريحا، واضعف الأهداف توثيقا، دون ان نعطي أحداث الاسبوع الماضي حظها من الاهتمام، وذلك لسببين: أولهما، ان تجاهلها يعني شيئا ما وله تفسير ما، قد لا يوافق رأينا أو وجهة نظرنا. والأخر، ان الانطلاق في الحديث والتحليل والتشريح، لا نقول ان له خط احمر لا يمكن تجاوزه، وانما نقول انه سابق لأوانه، لان بعض (الصور) لم تتضح بعد وان ظهرت (معالمها). ثم ان ما بين السببين تقبع قناعاتنا في تناول القضايا بأبعادها المختلفة وبمسمياتها الحقيقية، ولذا فلأمر جد مختلف هذه المرة. لا أحد يستطيع ان يقول كلمة قاطعة فيما حدث الاسبوع الماضي. ولا أحد يستطيع أيضا ان يصمت ويقول ان محطة الانتظار خير من اللهث خلف الحقائق. كما ان المعلومات "الشحيحة" التي ترد من السلطة حول محاولة الانقلاب التي أعلن عنها أخيرا، تجعل حالة "الاسترخاء" وانتظار النتائج، جزءا مكملا لفصول قصة كتبت لها النهاية وتركت التفاصيل والعقدة وغيرها من إشكاليات القصة ان تتكون على مسار الأحداث بعد ضربة البداية. ففي الانتظار موقف، والبحث عن الحقائق يصبح أيضا موقفا. لذلك، نجد ان القوى السياسية تجاه ما حدث، أمام (مطرقة) الانتظار و(سندان) وضع اليد على بعض الحقائق، وكلا المطرقة والسندان، بالضرورة، يحتمان اتخاذ موقف يشير إلى احد أمرين: احدهما، وبصريح العبارة، ان طبخة ما اكتملت لها كل المقومات والمواد قد وضعت على نار ساخنة في بدايتها، ورويدا رويدا ستصبح هادئة. أما ما هو الشيء الذي بداخل (الطنجرة).. البعض يعلم والبعض يحلم، وكثيرون بين هذا وذاك. والأمر الأخر، ان انقلابا دمويا تصفويا ملتحفا ثوب النميري الهارب، كان على وشك الحدوث وكان سيحيل البلاد إلى بركة من الدماء. وقد تم إجهاضه وإفشاله بعد ان بدأت لحظات العد التنازلي له. والمعلومات التي كُشفت تقول ان حقيقة اكتشاف المحاولة قد تمت في الرقم 3 أو 2 ولم يتبق للانقلابيين المايويين إلا الرقم 1 وساعة الصِفْر، لتنطلق القذائف المدفعية من الراجمات صوب الجمعية التأسيسية لتدكها دكا على رؤوس روادها من نواب ووزراء ورئيس وزراء وضيوف وأبرياء أيضا لا لهم في العير أو النفير. معلومات بهذا الشكل، حقا انها مذهلة، وانها تحتاج قبل كل شيء إلى العمل على احتواء (مظهر) الانقلاب ومن بعد البحث عن (مخبره). ان القول بان هنالك بعضا من الخونة والمأجورين، وغيرها من الصفات السيئة، يتشككون في أحداث الاسبوع الماضي، قول يلقى على عواهنه وغير مؤسس. كيف؟ الذين بحثوا فيما وراء الأخبار وجدوا ان مظهر الحركة الانقلابية غير مشكوك فيه وذلك لان انقلابا مايويا لا يمكن ان تكون له بداية الا هذه البداية حتى يستطيع السيطرة نوعا ما وتأمين التغيير لحين إعداد بقية العِدة، خاصة وان المعلومات التي سُربت تقول ان القوة التي جهزت نفسها للقيام بالمغامرة، قوة صغيرة ينقصها التنفيذيين من ضباط الصف والجنود، وهذا يعني ان (مظهر) الانقلاب مقبول ولا يمكن التشكيك فيه. إلا ان الأكثر وضوحا في هذا الجانب، ان انقلابا بمثل ذلك المَظْهَر لابد ان يكون مَخْبَرِه أكثر دقة وأكثر تنظيما، مما يعني ان القدرة على وضع الأيدي على البَيِّنَة، جلية وممكنة، وهذا هو المدخل لإثارة الشكوك والتشكيك في كل العملية. ولذلك فان هنالك أكثر من سؤال يرد في هذا المنحى. أولا: هل من الممكن ان نجد علاقة بين المعتقلين العسكريين والمدنيين؟ ونقصد بالعلاقة هنا ليس المايوية، أو إرجاع نميري كهدف يمكن ان يكون مشتركا بالرغم من ان ما تسرب من أخبار تقول ان إرجاع نميري لم يكن هدفا بحد ذاته لدى الانقلابيين العسكريين، بل ان هدفهم كان تصفيته مع الآخرين من السياسيين الحاكمين اليوم، أي بمعنى ان الانقلابيين أرادوا ان يبدؤوا متحررين تماما من كل السياسيين القدامى. والعلاقة التي نقصدها، هي علاقة تنظيم المحاولة. والمعلومات التي تسربت أيضا تقول ان لا علاقة قد ظهرت قبل الاعتقالات_ حسب ما أعلم _ حتى الان. فالعسكريون الانقلابيين، اعتقلوا وفق معلومات مغلقة عليهم.. والمدنيون الانقلابيين، اعتقلوا وفق شبهات لدى جهاز امن السودان. ولذلك، المدخل للتساؤل في بداية الأمر والتشكيك في نهايته، تفرضه المعلومات التي وردت. سؤال ثان لابد من إثارته للربط بين الهواجس التي تقلق البعض _كما يمكن ان نطلق عليها_ حول الكيد السياسي وتصفية مراكز القوة التي وان لم تظهر كمراكز اليوم، إلا ان بعض إرهاصاتها قد بدأت تلوح _المذكرة الشهيرة_. لقد اتضح ان هذه هي المحاولة الانقلابية الثالثة خلال عام واحد من الزمن، فما هي القرارات التي اتخذت حيال الذين فكروا أو خططوا أو شرعوا في تنفيذ المحاولتين السابقتين؟ ولماذا لم يحاكموا؟ ولان الأمر في إطاره الحقيقي خاص بأوضاع حساسة في مؤسسة حساسة، يصبح التعامل معها أكثر حساسية، فيُطرح السؤال هكذا: وماذا لو لم نجد حقائق وإثباتات دامغة تدين أصحاب المحاولة الثالثة ذاتها؟ وبالتالي إلى أين ستقودنا هذه الاتهامات دون محاكمات؟ وما هي المحصلة النهائية والأثر الذي سوف تتركه على المؤسسة المعنية؟ أسئلة أخرى نمسك عنها بحجة ان الأمر في النهاية في طور التحقيق العسكري، وهو الجزء الهام في هذه القضية، لان التحقيق مع المدنيين لن يزيد الأمر إيضاحا، ولن يبعد الشبهات عن المعتقلين، وسيظلون رهن التهمة، جائرة كانت أم ثابتة، إلى حين!! قال لي محدثي المطلع على مجريات الأمور: ان كل ما يعرفه عن المحاولة، هو ان انقلابا عُرض للبيع ولم يجد من يشتريه.. فبُلغ عنه! دار هذا الحديث بيننا والحدث لا زال ساخنا، ولم يُضع بعد على نار هادئة. وقال لي أيضا: ان الذي عُرض عليه الانقلاب، لم يصدق هذا الأمر وتخيله إحدى (خطرفات) البائع وانه كمشترِِ رفض البضاعة! وقد تم ربط هذه المعلومات البسيطة بمعلومات أخرى سُرِّبت وتَسرَّبت. سُرِّبت، لأنها تفيد بمتابعات ثابتة ظلت تُجرى منذ وقت طويل وليس بالقصير، كشفتها تحركات مريبة، وكل هذا يصب في خانة الرصد والمتابعة وليس وضع اليد على ما يثبت التورط. وتَسرَّبت أيضا لان أحد الذين يقال عنهم من المخططين، رفض ان يحمل رأسه على كفه من أجل إرجاع النميري. ولكن يبقى معرفة ما نقله هذا (المتجرد!!)، فهل معه إثباتات تفيد في مرحلة المواجهة، أم ان كل حديثه أيضا قيل وقال؟ ... وكما قلنا ان مظهر الانقلاب لا يدعو للتشكيك فيه، بل نعتقد ان كافة القوة السياسية يقظة حتى وهي تتعامل مع حدث كحدث محمود الكذاب الذي أيقظ الحلة كلها أكثر من مرة، وعندما أتى النمر حقيقة لم يستيقظ له أحد، فأكله النمر، وأكل الماعز والضأن أيضا! ولذلك يجب ان يصبح أمر اليقظة وارد مع كل صرخة حتى وان كانت كصرخة محمود لحين ترسيخ الديمقراطية فعلا، وكشف كافة المسرحيات التي يلعب أبطالها ادوار (الكومبارس) ويلعب الكومبارس أدوار أبطال من ورق. لذلك، فالمسرحية كلها هزلية ومضحكة ومبكية أيضا. فمسألة اليقظة واجب، ومسألة التصدي لكل محاولة مهما كانت، أمر ضروري تحكمه حكمة "الوقاية خير من العلاج". أما ظاهرة البحث عما وراء هذه الأحداث وفيما وراء الأخبار، فهو أمر واجب أيضا حتى لو قاد إلى التشكيك في بعض المعلومات أو في المحاولة نفسها وذلك لان الكثير من القضايا الملتهبة في الساحة السياسية تدخل طرفا في بعض المسائل الأخرى حتى وان كانت بأهمية الانقلاب على الديمقراطية. ان المناورات السياسية يمكن ان تغطي أي جزء من المشاكل السياسية المعلقة والمعقدة، ولكنها يجب ألا تصل إلى تهديد النظام الديمقراطي من داخله، لان مقومات الدفاع عنه تبقى هشة وغير قادرة على الصمود والتصدي، بالإضافة إلى المهددات الأخرى من صعوبة في المعيشة وتردِِ في الأحوال العامة. وعندما نتحدث عن هذا الأمر، نتحدث وفي أذهاننا ان الديمقراطية في السودان تعاني مشاكل مزمنة، أولها ان بعض المتزعمين فينا وعلينا، لا يرضون بالهزيمة، وان بعضهم تبطره الانتصارات، وآخرين (يَبَيِّتونْ النية) لإحداث شيء ما، بينما البقية منشغلة بقضية أخرى مصيرية وأساسية. وتبقى الثوابت الهامة في هذا الأمر، هي ضرورة البعد بالمؤسسة القومية الكبرى (القوات المسلحة) من ساحة المناورة والمؤامرة، وأيضا ضرورة أخذ ما يرد عنها مأخذا جادا، هذا غير انه من الضروري الاستيثاق من عدم (تغذيتها) بما لا يمكن ان تهضمه حتى وان استطاعت ان تبتلعه!! *** كان ذلك ما بدأت كتابته بعد اجتماع (الجنينة) وأكملته في وقت متأخر من ليلة الأحد_الاثنين، وأصبح موضوعا لغلاف مجلة (الأشقاء) الصادرة صباح الثلاثاء 27 يونيو 89. قبل الاجتماع، كنت قد خططت ان اذهب مباشرة من (الجنينة) إلى العقيد حينها محمود قلندر رئيس تحرير صحيفة (القوات المسلحة) الذي كان يكتب بدون اسم تحليلا سياسيا لمجلة (الأشقاء). لم يحدث ذلك لبقائي في (الجنينة) بعد انتهاء الاجتماع لأنقل ما كتبته من وقائعه ولكتابة مقالي التحليلي للمجلة. لا ادري لو كنت ذهبت للصديق العقيد قلندر، ماذا كان سيكون شكل ومحتوى ووجهة مقال "انقلاب للبيع...!"، إضافة أم خصما؟ وهل كان قلندر سيضيف إلى المعلومات أو سيفسر بعضها؟ أم ان عدم ذهابي له أنقذ الرؤية التحليلية من التشويش؟ على كلٍ، بمعايير "... الخرطوم قبل 30 يونيو 89" لا اعتقد ان الصديق قلندر كان سيكون خصما على الرؤية التحليلية التي كانت خطوطها العريضة مكتملة تنتظر تَحْبِيرها على الورق، وربما كان لقائه إضافة لها. وللأسف الشديد ربما كان سيكون خصما، بمعايير "... الخرطوم بعد 30 يونيو 89" وما أظهر قلندر في مقاله "هل هؤلاء الرجال جبهة؟" الذي كتبه بعد أيام قليلة من الانقلاب في صفحة كاملة في صحيفة (القوات المسلحة)، الوحيدة التي تركها الانقلاب تواصل الصدور بينما أغلق بقية الصحف. تلك معادلة ظلت تقلقني حتى غادرت السودان في سبتمبر 1989 ولم أعد إليه إلاَّ في ديسمبر 1999. تبقى القول حول علاقة مقال "انقلاب للبيع...!" باجتماع الجنينية: لن أظْهِِر بدرجة عالية من الشفافية إذا لم أنف ان في القراءة التحليلية رائحة من الاجتماع، بل أخَذَت منه. ويجب ألاَّ أمشي متبخترا أمام الناس مزهوا بشفافيتي، وفي نفس الوقت مجروحا في مصداقية المُدَوِّن المنضبط. تلك ثابتة أقر بها وتحدث لَيَّ التوازن المطلوب، بيد انني وبملء شِدقَي، أقول ان الكثير مما ورد في التنوير كان معلومات مبذولة في كل مجالس الخرطوم و"مساطب" المنازل التي يلتقي فيها أهل الحديث والرأي مع بعض كتابه ومحلليه فيما يشبه "ثينك تانك" بلدي، كما كل شيء بلدي في بلدي. وفضلا عن ذلك، فان الذي أؤكده ان الكثير من المعلومات والخيوط التي ربطْتُها ببعض توفرت لي من مصادر أخرى، فالذي يصادق الأستاذ الصحفي الكبير إدريس حسن مدير تحرير (الأيام) حينها، ويخرج ويدخل معه، لا بد ان "يَعْتَر" في كنوز معلومات. وتبقى المسألة، كيف يفرزها ويفنطها ليحصل على المفيد منها. يكفي ان ترصد وتسجل إلى أين ذاهب إدريس، وأين يتوقف في طريقه قبل ان يصل لمقصده، دَعَكْ عن ان تستمع إلى إدريس حسن عندما يتحدث مع من يلتقي بهم في "محطة المقر مكتبا أو منزلا" أو في "سَنْدَةِ الممر التي يغشاها ويتوقف فيها" وكذا في "محطة أخر الخط". ففي كلٍ ولكلٍ من تلك الأمكنة والحالات، اسلوب يتحدث به الأستاذ إدريس، قد يكون مختلف عن ومتصادم مع آخر، وهو لا يفعل ذلك لتضليلك انت رفيق مشواره، وإنما لمعرفته التامة بالناس، ومع من يتحدث، وأي اسلوب يتبعه ليحصل على ما يريد. أما إذا صَمَتَّ ولم تَسْألْ ليشرح لك، أو لم تمتلك بعض فراسة لتفهم لوحدك، عندها "ذنبك على جنبك" فقد طلعت (كيت) بل ستشكك بنفسك في معلومات لديك وستعتبرها مضروبة. هل سمعتم بمعلومة مضروبة؟ أسألوا إدريس حسن، فهو أستاذ شَّم المعلومة والخبر. شكرا أستاذي إدريس، لم تَضِعْ سدى الساعات الطويلة التي جلست فيها معك وانت تملي علي مقالك اليومي. في مساء نفس اليوم الذي صدرت فيه (الأشقاء) بغلاف "انقلاب للبيع...!"، كنت مع جارنا وصديقي الملازم أول حينها، وليد عز الدين عبد المجيد، جالسا مع زملائه ضباط الاستخبارات العسكرية ب (الميز) الكائن في أحد منازل الرياض. كانت معهم ثلاثة أعداد من مجلة (الأشقاء) عدد نفس اليوم الثلاثاء 27 يونيو 89، وعدد غلاف "المذكرة العاصفة" 21 مارس 89 وعدد ثالث بعده بأسبوع واحد، أبدع في رسم غلافه الفنان صاحب الريشة الذهبية هاشم كاروري، فقد رسم يدا تلبس (كُماً) طويلا لبدله خضراء بأزرار نحاسية صفراء لامعة، وكَفُ اليَد مفتوحة وأصابعها كأنها في حركة بطيئة لتنطبق وتصير قبْضَّة، وعلى الكَفِ السيد الصادق المهدي طاحت منه حربته ومايكرفونه المعروفين، ولك ان تتصور ما كان يقصده الفنان كاروري بتحليله السياسي الذي رسمه ولم يكتب فيه أية كلمة، ولماذا يكتبها؟! بعد ان أمتد بنا السَّمَر والحديث الذي شمل ضمن ما شمل العديد من القضايا الاجتماعية والحياتية والشبابية، تناولنا بالطبع تلك السياسية، ولا أقول مَنْ استفاد مِنْ الأخر، فصداقتنا لا تمنع ان يُجَيِّر أي منا ما يحصل عليه، معلومة او فكرة من أحاديثنا ونقاشاتنا، لصالحه أو لمصلحة عمله طالما لا يتضرر أحد من ذلك. تلك حالة كنت أضعها في الاعتبار ولا ريب ان أصدقائي ضباط الاستخبارات العسكرية، بما فيهم جاري وصديقي الملازم وليد عز الدين، بدورهم كانوا يأخذونها في ذات الاعتبار. مع نهاية السهرة، ولا أدري ان كان ذلك باتفاق مسبق بينهم أم نتيجة لما جرى من حديث، بادروني وطلبوا مني ان ألبي دعوة لم أفهمها في حينها انها مِنهم أم من رئيسهم اللواء صلاح مصطفي، وحددوا لها موعدا العاشرة من صباح اليوم الثاني الأربعاء. لم أتردد في قبول الدعوة ولم أشغل نفسي بمرجعيتها، إن كانوا مكلفين أو مبادرين. المهم قررت ان أذهب وأملي ان لا يكون كل شيء قد انتهى "تايم إيز أوفر"، وتردد في ذهني صدى قول السيد محمد الحسن عبد الله يسن لهيئة القيادة: إنتو جيتو هنا في الزمن الضائع، العملتو دا يا هو البِنَجِحْ الانقلاب الجَارين وراهو تقبضوه، إنتو بلعتو الطَعَم، أمشو راجعو المسألة من أولها لأخرها وحا تلقو إنَّكُم ماسكين السكة الغلط.". وسالت نفسي: وهل طلبني أيضا في الزمن الضائع؟ في الموعد المحدد كنت أقف بسيارتي أمام البوابة الرئيسية للقيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، فوجدت بالفعل اسمي ورقم سيارتي ونوعها عند "كركول" الاستقبال الذي وجهني إلى المكان الذي أذهب إليه. لم يطل انتظاري في مكتب أصدقائي الضباط الذين أدخلوني على اللواء صلاح وخرجوا ليتركونا وحدنا. مضت بسرعة البرق لحظة الاستقبال والسلام دون حديث المجاملة الجانبي المعهود، وبمباشرة قال لِيَّ اللواء صلاح: منذ فبراير _ مارس الماضي وحتى يوم أمس تكتب عن مسائل حساسة جدا وأطلقت على المذكرة "المذكرة الصاعقة" ولا تنسى يد الجيش التي تكاد تنطبق على رئيس الوزراء وأخيرا أصبحت تبيع انقلابات، ما هذا؟ هل تظن ان البلد سايبة وهاملة؟ خلافا لكلمتي "سايبة" و"هاملة"، لم تُثِرْنِي تلك الجملة ولا اللهجة التي كشفت عن معاناة ما بعدها معاناة قد لا تتفق مع ما يوفره المكان من قدرة على التماسك والتوازن لضبط كل شيء تقريبا، فلماذا بدأت واستمرت وانتهت لهجته بذات الحدة؟ ولأنني أعرف، وهو لا يعرف، من هو الذي وضع وصف "الصاعقة" على المذكرة، تمتمت في سري: يعملها العسكري وأقع فيها أنا الملكي.. الله يَطَوِّلِكْ يا روح. الزول ده من يوم الأحد الماضي قاصدني عديييييل كده. المهم في الآمر بدأ صوته وصوتي، باختصار صوتينا، يرتفعان، أما من هو الذي رفع صوته أولا؟ لا اعتقد ان قلت "انا"، أو حتى لو تركت الأنا وتأدبت وقلت "شخصي الضعيف"، سيصدقني أحد. واللواء صلاح حتى وان بادر برفع صوته، قد يكون له أكثر من عذر، فالتوتر كان هو السمة الوحيدة المسيطرة والتي تلقي بظلالها وتخيم على المكان الذي كنت فيه. لم يمض وقت طويل على حوار لم يستفد منه اللواء صلاح مصطفى بينما لم أسع بعد بدايته الا للوصول لنهايته. فأية فائدة كنت انتظرها وقد قلت كلمتي في مقالي وانتهى الأمر بالنسبة إليَّ، أما هو فان كان دعاني بمبادرة منه، أو بِتَزَيُد واقتراح من صغار الضباط، فلا اعتقد انه كان سيحصل مني على ما يفيده ان كان بالفعل يبحث عما يفيد. هل عدت وقُلْتُ "يفيد" بدلا عن "يفيده"؟.. يفيد مَنْ؟ سؤال يحتاج لإجابة. فجأة، وكان لا بد ان يحدث ذلك أو شيء قريب من ذلك، دخل علينا الفريق عبد الرحمن سعيد نائب رئيس هيئة الأركان عمليات، وقال: شنو يا جماعة صوتكم مسموع خارج القيادة ايه الحاصل؟ ثم التفت ورآني فواصل قائلا في اندهاش واستغراب: انت تااااني.. وهنا كمان! التقط الحديث اللواء صلاح مصطفى وقد أكبرت فيه ذلك كثيرا، وقال: هو ما "عندو" ذنب أنا "الناديتو" وتكرم علينا بالحضور وانا السبب في "انو" أصواتنا ارتفعت بالشكل ده.. على العموم اعتذر غاية الاعتذار أولا له ثم لك يا سعادة الفريق ولأصدقائه الضباط الجالسين في المكتب المجاور. ثم التفت إلَيَّ وواصل قائلا: على العموم عندما نخلص من "الشغلانية دي" لنا لقاء يا أستاذ عصام وأشكرك كثيرا لحضورك.. تفضل الضيافة من ليمون وشاي سَتُقَدَم لك في مكتب أصحابك الضباط. وكأنه نسى ان يقول شيئا هاما، استدرك وقال: على فكرة، أصحابك معجبين "بيك" شديد وبتحليلك وبما تطرحه من آراء حول العديد من القضايا، أرجو أن لا يؤثر ما حدث قبل قليل على علاقتكم. وقف الفريق سعيد مندهشا مثلي تماما، لم يدر أي منا ما يقول تجاه تلك الشجاعة والصراحة والشفافية، وكل ما فعلته مددت يدي وخرجت من صمتي وقلت له: شكرا.. شكرا.. شكرا. وكالمَسْحُور أو المُنَوَّم مغنطيسيا، خرجت من مكتبه. صفوة القول، ازداد تقديري للفريق عبد الرحمن سعيد الذي اتخذ القرار الصحيح بان استمع للواء صلاح مصطفي يقفل الستار على ما جرى دون ان يضيف تعليقا او قولا قد يأخذ الموضوع الى اية وجهة غير محسوبة وازداد أيضا تقديري للواء صلاح مصطفي، فله العُتبى حتى يرضى ان عَكَّر مزاجه بعض مما كتبت، متمنيا له الصحة والعافية. *** نبدأ ومن الحلقة القادمة قراءة حوار مع المرحوم الأستاذ احمد عثمان المكي وأخر مع السيد علي عثمان محمد طه، وبالأخص الجزء الذي لم ينشر من قبل، لكشف سِر العبارة التي كنت ارددها قبل 30 يونيو 89: شيوخ الجبهة يحبذون بعض السلطة اليوم وشبابها يريدون كل السلطة غداً. فماذا كان رد فعل الشيخ الترابي على تلك العبارة وعلى مقدمة الحوار؟ وما هي حيثيات المقال التحليلي الذي كتب يوم 7 يوليو 89 بعنوان: ماذا حدث في الخرطوم يوم 30 يونيو 1989؟ نواصل الخميس القادم....