في حوار خارج التسجيل _يناير 89_: سين وجيم مع عَرَّابِ "الإنقاذ" الحقيقي عصام: هل تسعى لتجنيد ضباط لصالح الجبهة للقيام بانقلاب عسكري؟ هل انت مكلف من الجبهة الإسلامية بالعمل السري في الجيش؟ علي عثمان محمد طه: هل تذهب إلى نادي الضباط؟..... في بورتسودان التي كنت تعمل فيها، هل كنت تذهب إلى نادي الضباط؟ بقلم: د.عصام محجوب الماحي [email protected] في هذه الحلقة، استعرض الجزء الثاني من الحوار مع الأستاذ علي عثمان محمد طه، في شكل واسلوب روائي غير الذي اعتاد عليه القارئ في الحلقات العشر السابقة. لا تتبرم ولا تَمُط شفتيك، فقط أسأل لماذا، لأُجيبك طالبا مَد حبل المهلة لا الريبة. كتبت الجزء الثاني من الحوار ضمن رواية سياسية، لم أحسم أمر عنوانها حتى الان، والخيارات التي قلبتها استوت على ثلاثة ركائز: أولا، انني اروي أحداثا ومشاهد؛ ثانيا، جرت فيها حوارات؛ ثالثا كان القاسم المشترك فيها أو أهمها الدكتور حسن عبد الله الترابي؛ إذن حاصل جمع تلك العناصر بعد تقديم وتأخير، قد يكون: حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين....؛ أتمنى ان ابدأ قريبا نشر حلقاتها؛ لكنني وعلى مضض، آخذ منها واحدة كما هي، لا أبدل فيها ولا أعدل، وكيف افعل، فالبناء قد وُضِعَ له الأساس. ووَقَفَ. وتم سقفه، وحتى "ملخص ما نُشِر" للربط بين حلقات الرواية، يجب ان لا يعدل، ليبقى كما هو برغم انه سيترك أكثر من سؤال معلقا لحين البدء في نشر الرواية من أول حلقاتها. أفي هذا تشويق "سوسبنس" لانتظار معرفة ما سبق، بدلا عن القفز إلى "ايبولوج_ آخر المشاهد، مسك الختام"، أو ما بعد الحكاية؟! قد لا يصدقني أحد إن قلت ان المسألة جاءت عرضا ولم اقصدها بعينها، ومع ذلك، تلك هي الحقيقة مجردة لوضع ذات المسألة في الحيز الذي تستحقه بدلا من مشاهدة "فيلم" بالمقلوب والحديث حوله، كما بات يفعل الكثيرون في تعجلهم الذي التهم أي شيء ولم يقف على "الساندويتشات"، فترهلوا لسوء التغذية التي يقابلها في هذه الحالة، سوء الاطلاع لاستعجال معرفة النتيجة، الأمر الذي يضعف العقل مقابل الأولى التي تُرهل الجسد. ولمزيدٍ من الشرح، دعوني اعترف بان إعادة كتابة الجزء الثاني _ خارج التسجيل _ للحوار مع الأستاذ علي عثمان محمد طه ليتسق والأسلوب الذي كتبت به الحلقات السابقة من مسلسل "... الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989"، لا أقول انها مَشَقَّة لا أحتملها، ولكنه عَنَت ما بعده عَنَت ان تَجُرَّ خيطا واحدا ينقض غزل "مشهد" صار اقرب لصور متحركة، فذلك يأخذ "الروح" التي تجعل المشهد حدثا متحركا، ويحجِّره لتصميم وكتابة حوار كما في الحلقة السابقة، سيكون على أفضل الأحوال أشبه بتركيب ورق حائط لصورة كبيرة، مهما كانت معبرة فهي ثابتة لا تتحرك معك لا للأمام ولا للخلف، فيما الجزء الثاني من الحوار مع الأستاذ علي عثمان محمد طه لم يكن كذلك بل عكس ذلك تماما، مليء بالحركة وكأنه حيُّ لكنه لا يُرزق؛ وشهادتي عندك بعد ان تقرأه؛ فتفضل لصالة عرض حوار خارج التسجيل مع الأستاذ علي عثمان محمد طه، وإليك أولا ملخصا لحلقات لم تقرأها من "حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين....": في يوم من أيام ابريل 1990، التقى بالصدفة الراوي عصام بالأستاذ عثمان خالد مضوي في مدينة جنيف. صدفة، قادته ليسجل زيارة للدكتور حسن عبد الله الترابي الذي كان قد وصل المدينة السويسرية في أول خروج له من السودان بعد إطلاق سراحه من سجن كوبر الذي اعتقل فيه مع السيد الصادق المهدي والسيد محمد عثمان الميرغني والأستاذ محمد إبراهيم نقد ومعهم العديد من قيادات أحزابهم الثلاثة، الأمة والاتحادي الديمقراطي والشيوعي، بعد نجاح الانقلاب العسكري الذي نفذه، بل قُلْ قام عليه، العميد _ حينها _ عمر حسن البشير يوم الجمعة 30 يونيو 1989. خرج الراوي عصام من فندق "ريشموند هوتيل"، مقر إقامة الشيخ الترابي، بعد حديث وحوار في الجناح تواصل في مطعم الفندق على مائدة العشاء، شارك فيه إضافة إلى عثمان خالد مضوي، الأستاذ احمد عثمان مكي والدبلوماسي عمر الترابي وشخص أخر كان مسئولا عن تنظيم لقاءات الترابي في جنيف. توجه عصام بعد ان انتصف الليل إلى مسكنه في شقة خالد مهدي حسين، زوج شقيقته الكبرى الذي كان يعمل وقتها مديرا إقليميا بمنظمة الطيران الدولية "اياتا" ومقره جنيف قبل ان ينتقل إلى الأردن. أصيب الراوي بأرق طرد النوم من عينيه، فقرر ان يعالجه بمزيد من السهر تجهيزا لحوار ثانٍ، وعد الدكتور الترابي ان يجريه معه صباح اليوم التالي. وللتسلح بما يحتاجه للحوار الثاني، أعاد ضمن أشياء أخرى، قراءة مقال تحليلي طويل كان قد كتبه بعد سبعة أيام فقط من انقلاب 30 يونيو 89، أودع فيه قراءته، ورأيه، ووصفه لحركة ومشاعر وملامح الناس "صُبْحِيَّة" الانقلاب، حيث ان "دخلة" الجبهة على "كل السلطة" كانت ليلة الخميس، والجمعة "صُبْحِيَّتهما"! بَعثت إعادة قراءة المقال في الراوي نشاطا وحيوية وشعر بيقظة وحضور لم يعهدهما في نفسه، وبرغم ان اللقاء الموعود مع الترابي كان قد تبقى له اقل من ست ساعات، نفس الزمن الذي يفصله من الاستمرار صاحيا ليوم كامل دون ان يخلد لراحة، قرر الراوي ان يَطَّلِع على محتوى حزمة الأوراق التي ظل محتفظا بها منذ ان أجرى حوارا في الخرطوم منتصف يناير 1989 مع اليد اليمنى _حينها_ للدكتور الترابي، الأستاذ على عثمان محمد طه الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية القومية نائب أمينها العام، نشره في مجلة (الأشقاء). فماذا جاء في جانب من حديث _اوف ريكورد_ خارج التسجيل، لم ينشره الراوي واحتفظ به في تلك الأوراق؟ ولماذا أحاطت به وحَرَّكَتَه كما البوصلة، عبارة "شيوخ الجبهة يحبذون بعض السلطة اليوم وشبابها يريدون كل السلطة غدا"؟ وكيف أمسك به ما يشبه اليقين، بان صاحب فكرة "القبض" على كل السلطة، هو الأستاذ على عثمان وليس الشيخ الترابي، والدليل ان الثاني دخل كوبر حبيسا وكأنه طليقا، فكل الناس كانوا يعرفون مكانه، في حين ان الأول ظل طليقا وكأنه محبوس لا يعرف عنوانه أو مطرحه أو مقره إلاَّ جماعته من الانقلابيين. فهل كان ذلك محض هاجس أم قراءة صحيحة لمواقف لا تُنْفَى ولا يتم تأكيدها، لا بالدارجي الفصيح ولا بالفصيح الدارج، عوضا عن معلومات تُنْتَزَع انتزاعا وبطريق غير مباشر؟ وهل صحيح ان الأستاذ علي عثمان خلق _ قبل الانقلاب_ كيانا داخل الكيان باسم شباب الجبهة وصار زعيمهم، فنأى بهم وبنفسه من المشاركة في حكومة الوفاق؟ وهل صحيح انه خلق _ خلال أشهر بعد الانقلاب _ مجموعة اخطر من الكيان الأول؟ وان كان ذلك صحيحا، فلماذا، وهل حدث بالاتفاق مع الترابي أو على الأقل بعلمه؟ أم ان معرفة وفهم الأستاذ علي عثمان لشيخه الترابي واستعداده لدفع الشباب للتمرد، كما كان يدعوهم ويحثهم، جعلته يطمئن لعواقب تجاوز حتى الإخطار الذي تفرضه حقوق علاقة المشيخة، شيخ_حوار، ودعنا نقول لكي لا يتحسس الطرفان، علاقة التلميذ بأستاذه؟ وهل يكون زعيم الشباب قصد امتحان شيخه استعدادا ليوم ربما يأت؟ وبالمقابل، هل ثقة الشيخ الترابي في "حُوَارِه" علي عثمان كانت تسمح لمنحه مجالا واسعا، لا للحركة فحسب، وإنما السير إلى الأمام دون العودة إليه في أية مسألة يبدأها في انتظار النتائج الايجابية التي حتما ستتمخض عنها؟ وهل تلك الثقة يمكن ان تصل بالأخير، وقد وصلت، إلى حد يبدأ بتناسي، ان لم نقل تجاهل، وصولا إلى تَعَمُد عدم الإخطار؟ باختصار، هل بين الاثنين "مسرحية" لا يعرفها البقية؟ أم انه مسرح الرجل الواحد: كاتب نص. سيناريست. مخرج. ممثل. والبقية، كل البقية، مشاهدون او كومبارس على أفضل الظروف، او مغردون خارج النص؟ كل ذلك لا تجيب عليه حلقة أو اثنتان في هذه السلسلة، وانما "حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين...." تتناول أيضا إعادة قراءة في سفر الأستاذ المحبوب عبد السلام "دائرة الضوء وخيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى لنظام الإنقاذ"، تعمل فيه تشريحا، مع حوار حوله مع الشيخ الترابي. وللتذكير، والذكرى حتما تنفع المتصفحين، ان أول تحليل سياسي كتبته في الغراء (الرأي العام) يوم 30 يناير 2000، كان تحت عنوان "قراءة في دفتر الأزمة: الإنقاذ.. المأزق.. المخرج، وما بينهما! وكنت ابحث _ حينها _ أزمة الرابع من رمضان التي لم تكن قد وصلت إلى المفاصلة. بدأت التحليل بالفقرة التالية: قبل البحث في الأزمة الأخيرة ومشاهد حلها، يجب ان نضع أمامنا الصورة الحقيقية التي يعيشها السودان اليوم. فالوطن يعيش مأزقا حقيقيا باعتراف كل المتخاصمين حوله والمتصارعين فيه من جهة، ومن الثانية بما تفرزه مؤشرات تعامل جيرانه وأصدقائه وحتى أعدائه مع كل خطوة وموقف لحكومته ومعارضته على السواء. حيث أدخلهم المأزق السوداني في "لابيرينت متاهة" خاصة بهم، لن ينفكوا آو يخرجوا منها إلاَّ بخروج السودان نفسه من مأزقه السابق، الحاضر والمستمر. وواصلت في ذات الاتجاه في الفقرة الثانية: الشاهد ان الإنقاذ أرادت هذه الوضعية، عملت واجتهدت لخلق هذه الوضعية، ونجحت في حياكتها وبذلت في سبيل تطريزها كل التناقضات، متصادمة مع الإنسانية تارة، وتارة ثانية مع مشروعها نفسه، وفي تارة ثالثه غير مسبوقة مع ثوابت تخيل كل الذين داخل "هيكلها" ان ذلك هو عين المستحيل، ويكاد الذين خارجه لا يصدقون ما تفعله وتقوم به الإنقاذ. إنقاذ علي عثمان – البشير – الترابي. والترتيب مقصود وسنكتشف ذلك لاحقاً. في تقديري، حانت اللحظة التي تأخرت كثيرا لكشف كل حقائق الملابسات وبالأخص المدغمس منها بعد تحليلها بتفكيكها إلى عناصرها الرئيسة. قطعا لن يكون ذلك بهذا الحوار خارج التسجيل لوحده، فهو جزء من.. "حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين...." التي ستكون أشبه بمجهر ذي قوة تكبيرية لا متناهية، لكشف كلما هو دقيق لا يرى بالعين المجردة، وأجزم ان الاستعارة مفهومة. تبقى القول، ان مشهد الحوار مع الأستاذ علي عثمان خارج التسجيل، لا يفعل أكثر من وضع قطرة، والقطرة الواحدة نفسها هي كل ما يحتاجه كوب مليء حتى.. يفيض بمعلومة تجر خلفها أخرى تمسك بأطراف مُلابَسَة تسحب معها أخريات فيسقط الستار عن الأسرار وتتداعى الأدلة والبراهين مددا، لِتُرْسَم في أخر الأمر لوحة لن تبقى "سريالية _ فوق الواقع" او "أبستراكت _ تجريدية" وإنما أقرب لرسم الطبيعة، كل شيء في اللوحة واضح؛ الفكرة، زمانا ومكانا. الألوان. الزوايا والإبعاد. والشخوص أيضا؛ فصبرا وإلى "مشهد" حوار خارج التسجيل مع الأستاذ علي عثمان محمد طه، عله يجعل انتظار مسلسل "حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين...."، انتظارا على أحَرٍ من الجَمْرِ، الأمر الذي يعني الجلوس فوقه. هل جَرَّب أحدكم ان ينتظر جالسا فوق جمر؟: فلاش باك: الزمان: ليلة من ليالي الشتاء، منتصف يناير 1989. المكان: الخرطوم ضاحية الرياض. المشهد: منزل الأستاذ علي عثمان محمد طه، نائب الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية. عصام يجلس مع علي عثمان محمد طه في صالون المنزل وأمامهما مائدة مربعة عليها جهاز تسجيل. بعد سلسلة من الأسئلة والأجوبة، وحوار مضى عليه أكثر من ساعة وأقل من اثنتين، يطرح سؤالا ثم يصمت، فيبادله الأستاذ علي عثمان الصمت وينظر إلى مروحة السقف التي كانت متوقفة، فما باله يستغرق وقتا في عَد ازرعها، كما تَخَيَّل عصام الذي ينشغل بجهاز التسجيل ويسحبه نحوه ليتأكد من ان الشريط لا زال به متسعا من المساحة لتوثيق حديث محاوره الذي يبدو انه التقط الخطأ الذي ارتكبه عصام فنظر إلى ساعة الحائط وطلب منه إغلاق جهاز التسجيل. انصاع عصام لطلب اعتبره وجيها ومشروعا، ونظر بدوره إلى ساعة يده فوجد انها تعلن الانتقال إلى الدقائق الأولى بعد العاشرة مساءا. الملاحظة أشعرته بانه أثقل على محاوره كثيرا، فقد مرت أكثر من ساعتين منذ دخوله المنزل. حفاوة الاستقبال التي وجدها، قلصت لديه لحد العدم، الشعور بضرورة معاتبة نفسه متعللا بان مضيفه فتح أكثر من موضوع، أخذ كثيرا من الوقت قبل بدء تسجيل الحوار، فتحدث عن الزواج ومؤسسته وعن المدينةالخرطوم وعن علاقته مع والده محجوب الماحي. نهض الأستاذ علي عثمان دون ان ينطق بكلمة، فاندهش عصام وظل يتابع خطواته إلى ان غاب خلف باب الصالون الذي يفتح للداخل. هل يريد ان ينهي الحوار؟ هل سيبقى سؤالي معلقا؟ كان باستطاعته ان يرد عليه بأية كلمات ولديه أكثر من مبرر مقنع؟ ولماذا طلب مني ان أغلق جهاز التسجيل؟ أسئلة كثيرة حاصرت عصام، وكعادته بدأ سريعا في قراءة المشهد من زوايا مختلفة ليخرج من الحالة التي ادخله فيها محاوره، فيعود له الحضور الذي لازمه خلال الوقت الذي انقضى من حديثه مع مضيفه. غير ان الأستاذ علي عثمان الذي خرج من الصالون صامتا تاركا عصام في حيرة من أمره وأمر السؤال الذي ظن ان محاوره ربما سيتركه عالقا بدون إجابة، عاد ودخل الصالون من نفس الباب يسبقه صوته حاملا صينية طعام دائرية: دعنا نتناول العشاء ونستطيع ان نتحدث بعد ذلك حول ما تريد. انتبه عصام للأسلوب الذي اختاره الأستاذ علي عثمان لتوصيل رسالتين في آن، إحداهما لأهل البيت في الداخل، فارتدت الحيرة والخوف من ان تبقى أسئلته معلقة، لتصبح إعجابا بثقة محاوره في نفسه، وتوقع انه سيواصل حديثه بصراحة وبشفافية وسيترك له عقله مفتوحا ليبحر فيه. سرور ورضاء تام أحاطا بعصام الذي نهض متوجها إلى باب يقود لخارج الصالون، أشار إليه الأستاذ علي عثمان بانه يؤدي إلى "فراندا" بها حوض لِغَسْلِ اليدين، فتصادف ان التقى عنده مع شخص يحمل أيضا صينية طعام وضعها على مائدة ليست بعيدة، فخمن انه حارس ليلي بعد ان لمح (عنقريبا) بجانب بوابة الدخول، تذكر انه لم يكن موجودا في ذات المكان عند حضوره. تعمد الإصرار على ترك الحارس يغسل يديه أولا، والتفت إلى المائدة، وألقى نظرة لم يندم على اختلاسها بعد ان عاد للصالون فوجد ذات الطعام يجلس عليه مع مضيفه الأستاذ على عثمان محمد طه. صحن من الزبادي، وآخر عليه فول مصري كامل الحبة مخلوط بقليل من زيت السمسم وعليهما قليل جدا من بهار (الشمار) الأخضر. وضع الأستاذ علي عثمان أمام عصام فنجانا صغيرا طالبا منه ان يتفضل بإضافة زيت سمسم إذا أراد ذلك، فأبعده من أمامه إلى يمينه. عوامل الصدق لا المجاملة، والحميمية التي طبعها مضيفه على اللقاء والجلسة، دفعت عصام ليقول بعد ان بدأ في تناول الطعام: انه أفضل وأطعم فول وسيصعب علي "من هنا ورايح" ان آكل ما يطلق عليه فول مصلح. وبذات الصدق الذي خشي عصام ان لا يمنحه الأستاذ علي عثمان حقه من الجدية، استفسره من أين لأسرته هذا الفول، فأخذ حديث الفول كل الوقت الذي استغرقته مائدة العشاء، وخجل عصام من ان يكون شريكه في المائدة تعمد، عطفا على ذلك، بان يترك له الصحن بما حمل، وركز أكثر على تناول الزبادي، حتى فاجأه مضيفه وكأنه قرأ مشاعره وقال: لا تندم على ملاحظتك، لقد أخذت حقا كفايتي منه وأحبذ الإكثار من الزبادي في مائدة العشاء. تعجب عصام ونظر لأصابع رفيق عشاء ما قبل منتصف الليل، وقال في سره: انها لا تحتاج لتكبد الجهد للذهاب لحوض غسل اليدين. ونهض وتوجه خارجا من الصالون، فيما نهض أيضا رفيق وجبة العشاء وحمل بنفسه الصينية. عاد بعد غسل يديه، ودخل الصالون من الباب الخارجي في نفس اللحظة التي دخل فيها الأستاذ علي عثمان للصالون من الباب الداخلي حاملا هذه المرة صينية أخرى اصغر، ولكنها مستطيلة وعليها كأسان من الماء ومثلهما من الشاي، وقال لضيفه: تفضل وهات ما عندك من أسئلة.. كلي أذن صاغية. تعمد عصام رفع جهاز التسجيل من المائدة ولم يكتف بالتأكيد على انه مغلق، ولبعث مزيد من الطمأنينة في محاوره، اخرج منه شريط التسجيل ووضعه جانبا وقَرَّب إليه الأوراق مستأذنا مضيفه، ليسجل فيها بعض الملاحظات والخطوط العريضة لحوار ما بعد العشاء، وقال: دعني أعيد عليك نفس السؤال الذي توقفنا عنده، فقد قمت بثلاث زيارات حسب علمي، وربما أكثر، لمدن الجنوب الثلاثة الكبيرة، جوبا.. واو وملكال، فماذا فعلت فيها علما بان الوجود السياسي والشعبي للجبهة في الجنوب ضعيف وحتى الجنوبيين الذين يقفون مع الجبهة متواجدون في الشمال، وإمكانية ضم عضوية جديدة للجبهة أو زيادة شعبيتها في الجنوب قد لا تستحق القيام بتلك الزيارات، لا طريقتكم في التجنيد وضم الكوادر معروفة ومجربة بأساليب أخرى أثبتت نجاحها ولا اعتقد انكم غيرتم الإستراتيجية أو "التكتيك". وقد لاحظت انك في تلك الزيارات اتخذت مقرا لك في مباني القيادة العامة للقوات المسلحة، وربما هذا أحد حقوقك بوصفك زعيما للمعارضة. أرجو ان تحدثني عن تلك الزيارات. أستمع الأستاذ علي عثمان لعصام، ومع كل مقطع وما يمكن ان يُفهم منه انه تحليل لتقرير حالة، كان يهز رأسه وكأنه يتفق مع محدثه الأمر الذي اجبر عصام لإطالة مداخلته ظنا منه انه طالما مُضيفه يتفق معه فيما قال بإيماءاته وتحريك رأسه لأسفل وأعلى، فلن يكون له رد آخر وسيصب الماء البارد على مجمل مداخلته وسيتركها معلقة وقد يتكرم ويحدثه عن الزيارات الثلاثة في حدود ظرفي الزمان والمكان، وإذا تفضل وزاد قد يضيف جملة مختصرة وكأنه يضعها بين قوسين، "ضرورات التعرف عن قرب على الأوضاع". ازدادت حيرة عصام والمشهد يشير إلى انه بات قريبا جدا من الفشل في استخراج أية معلومة إضافية لما قاله وأكد عليه محاوره، أو على الأقل لم يعترض عليه. عاد عصام إلى مسرح الحوار والقي بجملة قصيرة مراهنا على ان الأستاذ علي عثمان سيتوقف معها عن هَزِ رأسه ولن يكون أمامه مفر غير ان يتحدث، ويتحدث في صلب الموضوع، وقال: أسمح لي ان أضيف، هل تسعى لتجنيد ضباط في القوات المسلحة لصالح الجبهة الإسلامية للقيام بانقلاب عسكري أو دعنا نقول للدفاع عن الجبهة إذا دعت الضرورة وحدث ما لا يحمد عقباه من انفلات أمني؟ أم انك تلتقي كوادر من جماعتكم أصبحوا ضباطا بتوجيه منكم؟ وهل انت مكلف من الجبهة الإسلامية بالعمل السري في الجيش؟ لم يغير الأستاذ علي عثمان جلسته ولم يستجب للاتهامات التي استعرضها السؤال المركب، غير ان ملامحه تغيرت، فاقترب حاجباه من بعضهما البعض ثم انفرجا في اللحظة التي رفع رأسه ونظر لعصام دون ان يطلب تبديل المواقع وسأله: هل تذهب إلى نادي الضباط؟..... في بورتسودان التي كنت تعمل فيها، هل كنت تذهب إلى نادي الضباط؟ وإلى حلقة قادمة نتابع فيها بقية الحوار، ونرى ماذا كان يقصد الأستاذ علي عثمان من سؤاله؛ وهل تبادلا، المحاوِر والمحاوَر، المقاعد.. فصار الأستاذ علي عثمان يَسأل منتظرا من عصام ان يجيب، فأقعده على الكرسي الساخن الذي ظن انه أجلس مُضيفه عليه؟ isam mahgoub [[email protected]]