في منتصف اربعينات القرن الماضي ولد شقينا الاكبر السر فضل بقرية العفاض بشمال السودان علي الضفة الشرقية من نهر النيل جنوب مدينة الدبة وقد جاء خبرها في طبقات ود ضيف الله كمرقد لقباب شيوخ الريكابية، وذكر بعضهم صاحب الطبقات ، كالشيخ حبيب نسي والشيخ بليل وغيرهم ، كتب عن العفاض ايضا استاذنا المرحوم الطيب صالح عندما تحدث عن والدته عائشة احمد ذكريا التي ولدت ونشأت بها , واستقرت مع والده بقرية كرمكول حين قال عنها ( منطقة العفاض بشمال السودان وهي مقر قبيلة الركابية وأبناء العفاض عموماً يعتزون بالقبيلة رجالاً ونساء ويشبهونه بالموقع المقدس كالفاتيكان عند أهل روما وبمكة عند المسلمين وكثيراً ما كانت تفاخر بأهلها المبدعين..، وبرحيلها عرفت معني الخسارة وحملت أحزاني معها إلى قبرها ولم يطفئ نار حزني سوي علمي بأنها رحلت وسط نشاطها اليومي . كأن ما كان الطيب صالح يعبر عن مكنون مشاعرنا تجاه شقيقنا الأكبر السر الذي رحل عنا صبيحة يوم الاثنين 8 يوليو 2013 رحل السر في الصباح الباكر وهو علي فراشه متوسدا يداه ، ووجهه ينبض بالحياة في مشهد ادخل الشك علي من شاهدوه حتى جاره الطبيب الاستاذ الجامعي الذي حضر لتشخيص الحالة ، ذكر لي انه رغم تيقنه من حالة الموت الا انه استدعي زميلا له ليقطع الشك ، فقد خرجت الروح من الجسد بسلام ، لا سكرات او حشرجات ، خرجت بهدوء مطمئنة لترجع الي ربها راضية مرضية غادر السر العفاض وهو طفل يافع لينشأ ويترعرع بمارنجان وحلة حسن التي هاجر اليها والده الحاج فضل للعمل بمشروع الجزيرة كغيره من ابناء الشماليه الذين وصفهم الاداري المخضرم المرحوم عمر الكارب المدير الاسبق للمشروع عندما جاء معزيا في وفاة الحاج فضل وكان يتحدث لزملاء الفقيد الذي تحلقو حوله يجترون ذكرياتهم مع المشروع قال عنهم (هؤلاء الرجال هم من بنوا امتداد المناقل, وتحملوا المخاطر, وكانوا ومن سبقهم وقودا لمشروع الجزيرة العملاق ). كانت مارنجان مثل ام درمان من حيث التنوع الاثني والعرقي بوتقة انصهرت في احشائها جميع القبائل السودانية تقريبا ، بل رحبت بملل من بلدان اخري كالمصرين والاغاريق الذين تأجلت سودنة وظائف بعضهم حتي منتصف الستينات . في هذه البيئة نشأ وترعرع و درس السر ، ثم عمل في كنف المشروع حتي اواخر ثمانيات و بداية تسعينات القرن الماضي عندما بدأ ينطفئ بريق وحظوة الافندي ووظيفة الميري في دولة صقر الجديان ، استقال وآثر عالم الاعمال الحرة فانتقل الي مدينة ودمدني حيث مارس الصناعة والتجارة .ولم يكمل العقد الأول بالمدينة حتي اصبح السر واحدا من اعيانها ورجالها المخلصين فدخل اللجان وتصدر الاتحادات المهنية, والجمعيات النفعيه مما زاد من معارفه ووسع في علاقاته مع احتفاظه بصلات الرحم والاخوة مع مجتمع مارنجان وحلة حسن كان الاتفاق ان يحضر السر من السودان الي دبي قبل الشهر الفضيل ليوآزر شقيقنا محمد عثمان يخفف عنه كربته فيما اتلاه الله من شرور اوقعه فيها ممن احسن اليهم وافني زهرة شبابه في خدمتهم فما ناله منهم الا جزاء سنمار . تلك محنة اخري بدأنا تجاوزها بحمد الله . ففي الرابع من اغسطس الحالي عندما نطق قاضي محكمة الاستئناف بالشارقة حكمه ببراءة عثمان من التهم التي لفقت اليه ، تملكتنا حالة هستيرية يشوبها الفرح ويغلب عليها الحزن ، حينها بكينا بكاء حارقا ، في مقام هو مقام فرح ونشوة ! كان احتفاء منقوصا . وظني اننا حتي الغد المنظور لن يكتمل لنا فرح او يستقيم لنا محفل بعد السر الذي طقت كارزيميته علي مدارج حياتنا في مسالكها المختلفة فهو عروة ترابطنا وتواددنا وتراحمنا. سته من الذكور ابناء حاج فضل كل منا بفضل الله له ذريته من البنون والبنات ومنا من له احفاد، لن انسي اننا في احدي زيارتنا للسودان اتفقنا خمستنا اثنان مغتربين وثلاثة يسكنون الخرطوم . اتفقنا علي أمر ما فذهبنا للسر في وادمدني كعادتنا في كل اجازه وطلبنا منه ان يزودنا برأيه فيما اتفقنا عليه فاذا به يأتينا برأي مخالف لما تواضع عليه خمستنا ، قبلنا رأيه بحكم القوامة للاكبر وبحكم كارزيميته ونعمة سداد الرأي التي اختصه الله بها ، وبعد حين يتبين لنا ان ماذهب اليه السر هو الرأي الأصوب والأقوم . كان حصيفا ومتمما للمشورة ، نستشيره حتي في خصوصياتنا سوف نفقده ، كما يفقد الابن القاصر اباه استخرج السر تذاكر سفرهم هو اسرته وكان تاريخ المغادرة يوم الخميس 11 من يوليو الماضي من الخرطوم الي دبي علي ان الحق به انا والاسره من لندن يوم الجمعة 12 يوليو كما بينت تذكرة سفري ،. يشاء القدر ان تتحول وجهتي قبل اربعة ايام من التاريخ الموعود من دبي الي الخرطوم لتقبل العزاء في السر !! وصلني الخبر الصادم صباح يوم الاثنين الثامن من يوليو غير مصدق لما حدث , كأني لم اسمع بالموت الذي هو سبيل الاولين والاخرين ، مستنكرا ومغاضبا من الجزع وهول الصدمة، الا بعد حين ، فاستغفرت الله الذي لا حول ولا قوة الا به ، فالموت حق وحقيقه حقيقه نرفضها وترفضنا الي يوم الدين. مازال يخالج النفس شيء من الشك يغذي الامال ان يكون الخبر كاذبا ، هذا الشعور ظل يسيطر علّي رغم المحادثات الهاتفية التي توالت علي من السودان ومن موقع الحدث . استقبلني المعزون بمطار الخرطوم و لم افق من ذهولي ، الي ان وقفت اما منزل المرحوم بمدني ، عندها سكن اليقين النفس واسلمت أمري للواقع ولكن مع ذلك كانت صورة الراحل العزيز تحلق امامي وأراها في كل مرفق بالمنزل ، كيف لي ان اصدق ان تكون هذه الدار بدون السر؟ في سرادق العزاء سمعنا كثيرا من القصص يحكي رواتها مناقب ومآثر من واقع مواقف لهم مع المرحوم ، يرفعون من شأنه ويعددون محاسنه ، السودانيون عموما يأجلون المدح والثناء حتي الوفاة ، ويقرون بذلك عند موضع الشكر بقول مأثور ( انشاء الله يوم شكرا ما يجي ) كأن الشكر والثاء لا يجوز الا بعد الموت . لكن الذي لفت اتباهي هو التشيع المهيب والعدد الكبيره من المعزين ، الكل يريد ان يقدم شيئا كأنهم يردون دينا مستحق . المقتدرون يجودون بالماء والسكر والذبائح ، والاخرون يقفون في خدمة بعضهم البعض . اكرام الميت دفنه نهج درج عليه اهلنا في السودان ، فقد تم حفر مقبرتين بعد لحظات من الوفاة ، مقبرة بمقابر مدني الرئيسية, وأخري بمقابر حلة حسن . رغم ان التشيع كان وقت الظهيرة الا ان الذين صلوا علي الجثمان اصطفوا في خمسة صفوف يتراوح بكل صف ما لايقل عن الثمانين . استعانوا بشرطة المرور لتنظيم موكب المشيعين هذا فضل من الله، فقد خفف عنا كثيرا ، قلت لاحد اصدقائي الحمد لله ان السودان مازال بخير ، قد نجد في بعض المواقع الاسفيريه ان السودان كثيرا ما يكون متزيل قائمة الدول في امور كثيرة ، ولكنه قطعا هو المتصدر بلا منازع في تعاضض وتآزر شعبه في الملمات اللهم يمن كتابه ويسر حسابه وثقل بالحسنات ميزانه وثبت علي الصراط اقدامه واسكنه في اعلي الجنات بجوار حبيبك ومصطفاك (صلي الله عليه وسلم) . جعفر فضل - لندن [email protected]