ظل يستحوذ على ابنتي ذات الأربعة عشر ربيعاً منذ حين ، إعجاب طاغ أوشك أن يصل إلى درجة الافتنان والهوس بمجموعة المغنين البريطانيين والأيرلنديين الشباب ذائعة الصيت خاصة بين الأحداث والمراهقين في شتى أنحاء العالم حالياً ، المسماة ب " وان دايركشن " One Direction ، بل إنها ما تفتأ تردد مزهوة بأنها Directioner ، بمعنى أنها تنتمي إلى ذلك القبيل من المعجبين بهؤلاء الفتية المغنين ، مثلها مثل كثير من لداتها وأترابها من الجنسين داخل السودان ، وفي سائر بقاع العالم الذين يُعرفون بال Directioners الذين هم مثل " الحواتة " في السودان ، الذين هم معجبو فنان الشباب الراحل " محمود عبد العزيز " الذي كان يلقب ب " الحوت ". ومن آيات تعلق ابنتي بهذه المجموعة من المغنين الغربيين ، أنه عندما زارت أسرتنا الصغيرة متحف الشمع الشهير بمدينة لندن في مطلع صيف العام الحالي ، كان أول ما سألت عنه هو عما إذا كان المتحف يضم تماثيل أفراد تلك المجموعة ، وقد كان الدافع من وراء سؤالها ذاك هو بالطبع ، رغبتها العارمة في التقاط صور فوتغرافية لها مع تلك التماثيل. وكم كان إحباطها وحسرتها كبيرين عندما قيل لها إن تلك التماثيل قد تمت استعارتها ونقلها لفتة مؤقتة عبر الأطلنطي لكي يتم عرضها بمتحف " مدام توسو " بنيو يورك. تأسست مجموعة " وان دايركشن " اللغنائية في عام 2010م ، وهي جوقة تضم خمسة شبان تتراوح أعمارهم ما بين 19 و 21 عاما. أما أسماؤهم فهي: هاري Harry (19 عاما) ، وزين Zayn وهو مسلم من أصل باكستاني (20 عاما) ، ولوي Louis (21 عاما) ، وليام Liam (20 عاما) ، ونايال Niall (19 عاما). وأما أولى أغنياتهم التي جلبت هذه الشهة المدوية بين أوساط الشباب ، وخصوصا الفتيات الصغيرات فعنوانها هو: What makes you beautiful أي: ما هو هذا الذي يجعلك جميلة. هذا ، ولم أعدم ابنتي تقريعاً وانتقاداً ونصحا ، منذ أن أحسست بافتتانها المفرط بهذه المجموعة الغنائية الأجنبية ، وذلك لدوافع تربوية ووطنية ، ثم إنني لم أشعر بأن غناء هذه المجموعة ، التي أعترف بأنني لم أستمع إليها على نحو كاف ، لا يستحق كل هذا الهوس من قبل ملايين الشباب في شتى أنحاء العالم ، فضلاً عن أنني خشيت أن يكون تعلقها الشديد بغناء هذه المجموعة وتتبع اخبارها ، ضرباً من ضروب الاستلاب الثقافي الذي لا تحمد عقباه ، وخصوصاً وإنني قد لاحظت ان معرفتها بالمغنين السودانيين وبالغناء السوداني نفسه عموماً ليست بذاك. بيد أنني عندما رجعت إلى نفسي ، واستعدت شريط الذكريات والحوادث ، وخصوصاً ظاهرة تعلق الأجيال المتعاقبة بما يستجد على الدوام من طوائف المطربين والمغنين جماعات وفرادى عبر التاريخ المعاصر على الأقل ، عذرت بنيتي وأترابها من بنات وأبناء جيلها ، كما تذكرت على الفور المثل السوداني الشهير الذي ربما يجوز الاستشهاد به في مثل هذه الحالة ، ألا وهو قولهم: " فلان زمانو فات وغنايو مات ! ". أما ابنتي وبنات وأبناء جيلها ، فهذا هو زمانهم ، وهؤلاء هم فنانوهم: وان دايركشن ، والفتى الكندي الصغير: " جستن بيبر " وهلم جرا. ولا شك في أن لكل زمان شباب ومعجبون ، وفنانون وفنانات محليون وأجانب يحبونهم ويتابعون أخبارهم ويتعلقون بهم لدرجات متفاوتة من التعلق. هذه هي سنة الحياة في البشر ، تتمظهر فيما يُعرف بتعاقب الأجيال واختلافها ، وتباين أمزجتها. وليس السودانيين – على محافظتهم – ببدع في هذا المجال. حكى لي صديق وزميل في المهنة يكبرني ربما بنحو عقد ونصف في السن ، أنهم عندما كانوا طلاباً بجامعة الخرطوم في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ، كان لهم زميل يدعى " أسامة " انتقل بعد ذلك إلى جوار ربه كما أخبرني محدثي ، وكان من ظرفاء الجامعة آنئذ. والشاهد هو أنه من شدة تعلق المرحوم أسامة بالمغني الأمريكي الشهير " فرانك سيناترا 1915 – 1998 " الذي كان أيقونة الغناء الغربي خلال الفترة ما بين أربعينيات وستينيات القرن العشرين ، أنه قد عمد إلى اغنيته Strangers in the night فأداها تفكهاً واستهبالاً منه ،على منوال لحن شائع لبعض أغنيات الحقيبة مثل: جاني طيفو طايف لحاظو كالقذائف وانا من عيونو خايف أو الأخرى من كلمات محمد بشير عتيق: قضينا ليلة ساهرة تضمنت محاسن الخ وعندما عدت أنا كذلك بذاكرتي الشخصية إلى حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، ألفيت أن جل الطلاب والشباب والمثقفين عموما من أبناء تلك الأجيال ، وفي مختلف أنحاء العالم بما في ذلك السودان ، قد كانوا يتشيعون لهذا النجم أو ذاك ، أو هذه المجموعة الغنائية الغربية أو تلك ، على الرغم من أن وسائط الإعلام والمعلومات والاتصلات لم تكن قد بلغت آنئذ ذلك الشأو الذي بلغته خلال العقدين المنصرمين ، إذ لم يكن ثمة إلا المذياع والتلفاز وأشرطة الكاسيت. وقد سطعت خلال تلك الحقبة نجوم نالت حظا كبيرا من الشهرة والمعجبين داخل السودان وخارجه ، مثل: الخنافس، والفيس برسلي ، وبوني أم ، ومايكل جاكسون ، ودونا سومر ، وويتني هوستن ، وديميس روساس، واستيفي واندر ، وجيمي كليف الذي زار السودان ، بل زعموا أنه قد شهد حلقة ذكر بقبة الشيخ حمد النيل فتأثر بإيقاع النوبة. ومما لا أزال أذكره في هذا الباب ، أنه عندما عرض فيلم " حمى ليلة سبت " Saturday Night Fever من بطولة المطرب والراقص الاستعراضي الأمريكي " جون ترافولتا " بسينما النيل الأزرق بالخرطوم في أوائل الثمانينيات ، وقد كنا حينها طلابا بجامعة الخرطوم التي تقع تلك السينما الراقية في حماها ، أقبل شباب العاصمة المثلثة زرافات ووحدانا على بكرة أبيهم " الأعمى شايل المكسر " على دار العرض تلك، لكي يستمتعوا بأداء نجمهم المفضل آنئذ. وفي ذات السياق ، بلغنا أنه لما توفي مغني الريقى الجمايكي الأشهر " بوب مارلي " في حوالي عام 1982م ، نصب طائفة من معجبيه من الشباب (الفايقين) السرادقات لتلقي العزاء فيه ببعض أحياء الخرطوم. فكان الشاب من هؤلاء يقصد تلك السرادقات ، فيُسقى القهوة المرة ، ثم يستمع لتسجيل لبعض أغنيات بوب مارلي ، ثم يمضي نحو وجهته بعد ذلك على متن الحافلة أو البص أو (البرينسة) ، والعهدة على الرواة. ذلك ، ولا يظنن ظان بأن شغف أعداد معتبرة من الشباب السوداني من الجنسين في الوقت الراهن ببعض المطربين والمطربات العرب المعاصرين مثل: تامر حسني وراغب علامة وعمرو دياب ، وأصالة ، ونانسي عجرم وغيرهم ، وهو ما قد يحمل بعض الناس على التسرع باتهام هؤلاء الشباب بالاستلاب والانبتات الثقافي وما إلى ذلك ، لا يظنن بأنه يقل بأي حال من الأحوال من تعلق طوائف مقدرة من الأجيال السابقة من السودانيين بكبار المطربين العرب أمثال: سيدة الغناء العربي أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وفيروز وصباح ووردة الجزائرية ، ومحمد عبده ، نزولا حتى إلى مرحلة سميرة سعيد ولطيفة التونسية. وقد شهدنا زمانا كان فيه المعجبون بغناء الست يسهرون الليل في الاستماع لحفلاتها. كذلك لاحظنا أن اهتمام أجهزة الاعلام السودانية ، وخصوصا الإذاعة ، ببث الأغنيات العربية وكذلك الغربية من خلال برمجتها الراتبة قد قل أو انعدم بالكلية خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالمقارنة مع ما كان سائدا من قبل ، بينما ما تزال تتردد في الذاكرة أصداء برنامج " من الشرق والغرب " بالإذاعة ، و " لقطات " فريد عبد الوهاب ، وحفلات " جيمس لاست " بالتلفزيون وغيرها التي كانت تحتل مساحة معتبرة من برامج تلك الحقبة. وصفوة القول في الختام هي أن تعاقب الأجيال ، والاختلاف الحتمي بين أذواق أفرادها وأمزجتهم ونظراتهم وانحيازاتهم الفنية والجمالية ، لهي من الحقلئق الاجتماعية التي يقتضيها تطور المجتمع البشري بصفة عامة ، والتي لا مناص البتة من التعايش والتسامح معها ، بل واحترامها ، طالما كانت في حدود ما تقره قيم مجتمعنا.