عامٌ وثلاثة وثمانون يوماً حسوما والموتُ يُطارد خليفة المهدي ما بين كرري وأم دبيكرات ..! محمد أبوجودة نجحت الدولة المهدية ( 1882 - 1899 ) في فتح الخرطوم وإسقاط الحُكم التركي المصري، في 26 يناير1885 حيث قُتل غردون باشا، حاكم عام السودان، وسردار الجيش المصري. جاء الفتحُ على يد الإمام محمد أحمد المهدي، بيمينِه رجال عزوتِه ولا تخلو شماله من عدّة وعتاد. ومنذ ماقبل فتح الخرطوم، ظلّت بهارج السلطة تُجلِّل هامَ خليفة المهدي، ووليَّ عهده الأمين، عبدالله بن محمد "تورشين" التعايشي. المُلقّب بخليفة أبي بكر الصديق. تعريفاً بمقامِه الأسنى من بين بقيّة الألقاب الصِّحاب. ابن الخطّاب وذي النورين وابن ابي طالب. تَيمّناً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قريباً من المهدي، كان يرفُل الخليفة، يكادُ أنْ يُعَدُّ كشهيق المهدي! تارةً هو الغِمدُ الذي يمنع السيف الصدأ، وأخرى هو الدِّرْعُ يقي رأس الدين والدنيا، قد اجتمعا ويوشكا أن يلتمعا. صعَد الخليفة إلى قمّة الدوحة المهدوية، إماماً قد عَمِلْ، وخليفةً قد تأهّل في الكَرِّ والفَرِّ، الخير والشَّرّ؛ ليكون رأس القايدة والمُسيطر على أزمّة الجيوش المُجَيَّشة، لما يغطي فضاءاً يُقارب المليون ميل مربع، في سودان القرن التاسع عشر. ما أن توسّد الإمام المهدي قبره، واستوى على لَحدِه، حتى أتت الخلافة مُنقادةً إلى الخليفة، تُجرجر أذيالها. ليضحى الخليفة دالفاً من بين كوى التاريخ السوداني. في زيّ مهديٍّ جديد، رجل علمٍ ودِينٍ وسياسة؛ وقد أفاض عارفو فضله بأنّه قد كان على خُلُقٍ حَسَن، فارع الطول وسيم؛ على الرغم ممّا يبرُز من ثَفَناتٍ على سيمائه، من بقايا الجُدُريّ. هذا وقد اشتهر الخليفة بقُدراتٍ قتالية. لكنه في ما يبدو، قد تنكّب الخُطط! فكان قائد معركة الدفاع في كرري، وفَرّ منها لايلوي على جَسارة. ثم كان شهيد معركة "أم دبيكرات" فما إنْ كشّر له "المكسيم" عن نارِه، حتى افترش فروتِه وذهب في صلاةٍ لم يختمها بالسلام. وذكرت المصادر، أنه تلقّى التحية العسكرية من المُنتصِر عليه، مُطارِده في تلك الفيافي، القائد الإنجليزي السير ريجنالد وينجّت. كانت مجاهدات الخليفة عبدُاللهِ، في إسناد وإثراء الدولة المهدية؛ قد تلاحقَتْ من لدُن بيعته الشهيرة للإمام المهدي وهو يبني قُبّة شيخه القُرشي ود الزَّين. حيث حظي باهتمام بالغ من "الفقير " محمد أحمد. لاسيما وأنه قد جاء إليه يحملُ إيمانه، راسخاً بدعوى المهدي المُنتَظَر. مُستعداً للقيام بدورٍ محوريّ في نُصرة الدولة المهدية القادمة. وقد أقرَّ له المهدي بدءاً، بأنّه أول خلفائه الأربعة، يحملُ الراية لإقامة دولة الشريعة. عَمارةً للبلاد وسعادة للعِباد. التزَم الخليفةُ إمامَه، لا تشغله عن صُحبته أدنى الشواغل من حنينٍ لتلاد، أو تشوّق لوطن وأيّام قضّاها الشبابُ هُنالكا. يكاد الخليفة أن يكون مُتفرّغاً للدعوة المهدية، مُدركاً لمغازيها، مُستشعراً لخطرها الكامن، بل وربما نعيمها الذي يركضُ في رَحِم الغيوب. فهو "المُهاجر" في سبيل الله، كأنّما يستهدي بقوله تعالى " ومَنْ يُهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغَماً كثيراً وسَعة، ومَنْ يخرُج من بيتِه مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يُدركه الموت فقد وقَع أجره على الله، وكان اللهُ غفوراً رحيما – النساء/الآية100" لم تسلم جِبّة الخليفة من التّمزُّعات، وما استقامتْ له القيادة حينما واتته، في تباتٍ ولا نبات. فلم يجد بُدّاً من انتضاء سيف العشيرة الموثوق، ثم تَعَزّى بالآل. كان الثمن فادحاً، مجاعات وحروب وتنقُّصات وظُلمٍ يئنّ منه الكثيرون. أؤلئك الذين يرون فيه مُحتَكراً لصولة المهدية، يتضجّر بعضُهم بِ (هيَ الدُّنيا مَهَدية ..!) استصفاءاً لفَيّئها، واستحواذا لمغنمها في آلِه ونفسه، دون العالمين من أنصار وخصوم. بل يأخذون عليه أنه خَبّ في تسيير أهله من قُراهم بنواحي غرب السودان إلى البُقعة، فملأ بهم الآفاق، وقطَع ببعضهم أعناق؛ وقد قيل أن أحد مُرافقيه القريبين، قد سأله، وابتداء المحرقة في كرري قد حان وجيبُه! عن ما هو الرأي؟ فقال الخليفة: الأمُر يصدُر من الخِضِر..! فردّ السائلُ: أنا مِعَرِّتْ بجريرتي السّوَّيْتا، الخِضِر جريرتو السَّوَّاها شنو ..؟. إلى ذلك، فكثيراً ما ظهرت الشماتة، بعد الهزيمة الأليمة في كرري، حتى قال البعض: الليلة أهيْ قلبوها تُركيّة .. ود تورشين شرَدْ، رقدوا المِلازميّة. لقد كان السيد عبدالله بن السيد محمد تورشين، من المُتفرّسين لمهديٍّ مُنتَظَر. إذ لم يفُتْ على المصادر أن تروي حكاياته مع كل من الزعيم المُحارب الزبير باشا رحَمة، والذي لمّا أنْ تعدّدت انتصاراته في غرب السودان، تلقّاه عبدالله برؤياه: أن الزبير هو المهدي المُنتَظَر..! لم يأبه الزبير، فصرفه عابساً. كذلك تفيّأ "ود تورشين" في الشيخ محمد شريف نورالدائم، بأنه المهدي المنتظر، حَتماً ولا بُد! فاستغربها منه الشيخ المُقرئ، وصرفه عنها أيضا؛ وقد قيل أن الخليفة قد سَمع بشخصية "الطالب محمد أحمد عبدالله" وادّعائه لنفسه بأنه المهدي المنتظَر، من الشيخ محمد شريف؛ فلم يُضع وقتاً حتى هاجر وبايع "الفقير" محمد أحمد، على أنه المهدي المنتظر، ولازمه خليفةً أوّل؛ وحيث أنّ القول قد استفاض، بأنّ كلّ ذي نعمةٍ محسود، لم تسلم في الخليفة جَرّة! وقد ذكرت المصادر أن رعيلاً من أنصار المهدي وقُراباتِه، كانوا قد رفعوا إليه الطّلب، وقدتباشروا بالنصيحة للمهدي أن يلمّ عنهم وعثاء "ود تورشين"، فأصدر المهدي منشوراً في يناير1883 يخاطبهم فيه بقوله: اعلموا أيها الأحباب أن الخليفة عبد الله، خليفة الصديق المقلد بقلائد الصدق والتصديق، فهو خليفة الخلفاء، وأمير جيوش المهدية المشار إليه في الحضرة النبوية. فذلك عبد الله بن محمد، حمدَ اللهُ عاقبته في الدارين، فحيث علمتم أن الخليفة عبد الله هو مني وأنا منه وقد أشار سيد الوجود، فتأدبوا معه كتأدبكم معي، وسلموا إليه ظاهراً وباطناً، كتسليمكم لي وصدقوه في قوله، ولا تتهموه في فعله، فجميع ما يفعله بأمر من النبي، أو بإذن منّا. فحيث فهمتم ذلك، فالتكلُّم في حقه يورث الوبال والخذلان وسلب الإيمان، واعلموا أن جميع أفعاله وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتيَ الحكمة وفصل الخطاب". بلا ريب، فتلك الشهادة قد سدرتْ علوّاً بقامة قائد الجيوش المهدوية. الخليفة عبدالله التعايشي، والمولود في قرية "أم دافوق" على شطّ رهيد البِردي بنواحي غرب السودان حوالى العام 1846، وينحدر نسبه وآبائه عن جدّهم الأكبر محمد القطب الواوي من تونس الخضراء. ذاك هو الخليفة عبدالله بن السيد محمد التعايشي، في رؤى المصادر الحانية. بيد أنّ مصادراً أخرى قد شنّعت بسيرة الخليفة وسيرورة حُكمه؛ ولم ترَ في كامل فترة حُكمه إلاَّ اتّسامٌ بالاضطّراب والعنف والقتل. كأنّما كان مُتفرّغ لساسَ يسوس التوسعية، دون أدنى اهتمام بما يجري على الأرض من بلاء، وما يعُمُّ من شظف. مؤلّباً على استقرار الجيران، عاشَ نظام الخليفة عبدالله التعايشي، يمُدُّ رقبة الطموح غير المحدود، لتصدير الثورة المهدية إلى الجوار الأثيوبي، والمصرى، بل وربما ردّد التاريخ (!) صدى دعواه لملكة بريطانيا أن "اسلمي تسلمي". لم تقف الرويات المتشابكة عند تلك الدعوة اليابسة فحسب؛ بل دغدغتها بقولِ الخليفة للملكة: إن أسلمتِ وحَسُن إسلامك، لربما زوّجناك من أحد أمرائنا. وأيضاً لا تقف الروايات عند هذا الحَد العام! بل تجاوزته إلى التخصيص! في أن يكون سعيد الحظ، هو الأمير يونس ود الدّكيم. لقد كانت طموحات تصدير الثورة، وما تزال! هي "كعب أخيل" في روح الثورات التغييرية في السودان. والطموح غير المحدود (ولعلّه غير الموضوعي!)، كان هوَ السّمَة الأبرز للدولة المهدية؛ وللأسى فإنه لم يقف بعد، عند تلك القرون التي خَلَتْ. يتواصل,,,,,.. Mohammad Abujouda [[email protected]]