استرعى انتباهي العنوان الرئيس لصحيفة الخرطوم، في طبعتها الخليجية، الذي كان بتاريخ 23 أغسطس 2013م،والذي كان يقول( الوطني يحذر اليسار من "إختراق" العمال)، وجاء العنوان الفرعي في تفاصيل نفس الخبر" نافع: محاولات بائسة من اليسار لاختراق النقابات". تغيرت الدنيا خلال العقود الماضية، ليس بعد مجيء الانقلاب العسكري في 30 يونيو 1989م ، ولكن قبل ذلك حينما فشل الانقلاب العسكري الذي يحمل أحيانا اسم "إنقلاب هاشم العطا" في 22 يوليو 1971م، وقد أعقبت ذلك الإنقلاب مذبحة طالت كبار قيادات الحزب الشيوعي، وهي نكبة تفوق النكبات التي تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين في مصر عامي 1954 و1966 والتي انتهت هي الأخرى ببعض قيادات الجماعة إلى أعمدة المشانق. ارتبط الحزب الشيوعي السوداني بالحركة العمالية في السودان منذ نشأتها،واستطاع أن ينشيء عام 1946م أول تنظيم عمالي في السودان باسم "هيئة شؤون العمال" التي قامت على أكتاف قاسم أمين والشفيع أحمد الشيخ وغيرهما من القيادات العمالية الشيوعية ، تمخض كفاح الشيوعيين وسط العمال، وفي عطبرة على وجه الخصوص ، وكانت عطبرة تشكل أكبر تجمع عمالي في السودان، تمخض عن صدور قانون العمل والعمال عام 1948م ثم قيام اتحاد نقابات عمال السودان، وتوج الدور القيادي الفعال للشيوعيين وسط الحركة النقابية بشكل عام حينما أصبح الشفيع أحمد الشيخ،الأمين العام لاتحاد نقابات عمال السودان وزيرا لشؤون الرئاسة،ممثلا للعمال، وأصبح الأمين محمد الأمين رئيس إتحاد المزارعين وزيرا للصحة، ممثلا للمزارعين في الحكومة الإنتقالية التي أعقبت انتصار ثورة 21 أكتوبر 1964م، وكانت تلك اللحظة تجسد ذروة نجاح الحزب الشيوعي في العمل وسط النقابات. كانت النقابات العمالية والعمل النقابي مجال تخصص اليسار بصفة عامة والشيوعيين بصفة خاصة، لا ينافسهم فيها إلا حزب الأشقاء وفيما بعد الحزب الوطني الإتحادي وإن كان تأثيرهما محدودا بعض الشيء، في حين بقيت جماعة الإخوان المسلمين التي تحولت إلى جبهة الميثاق الإسلامي ثم الجبهة القومية الإسلامية جسما غريبا على الكيانات النقابية، لم تسعفه خبرات وتجارب من أمضوا بعض سنوات عمرهم في الحزب الشيوعي السوداني مثل الراحل ياسين عمر الإمام. ثم أخذت الحظوظ في التغير بعد نكبة يوليو 1971م، وجرت مياه،وسالت دماء كثيرة تحت وفوق الجسور، حتى جاء إنقلاب 30 يونيو 1989م وجاءت معه السيطرة المطلقة للسادة الجدد على كل أوجه الحياة والحراك المجتمعي بما في ذلك النقابات العمالية بفعل وبفضل ثقافة التمكين التي قذفت بأعداد ضخمة من العمال والموظفين إلى الشارع وحرمتهم من مصادر رزقهم وأفقدتهم في نفس الوقت المظلة التي كانوا يمارسون من تحتها نشاطهم النقابي،وبالتالي غدت الكيانات النقابية المستأنسة بهيكلتها وقوانينها الجديدة أقرب للكيانات التابعة للحكومة وحزب الحكومة من كونها كيانات مستقلة. وحل الحزب الحاكم محل الحزب الشيوعي وقوى اليسار في النقابات، بعد أن كانت ذات النقابات إلى عهد قريب لغزا محيرا له،وأصبح الآخرون غرباء على النقابات، خصوصا في ظل المتغيرات التي عمت العالم وانحسار المد الشيوعي بعد انهيار الإتحاد السوفيتي قائد الحركة الشيوعية في العالم. ومن هنا أجد أن العنوان الرئيس الذي تصدر صفحة "الخرطوم" الأولى،والذي يشكل مفارقة من مفارقات هذا الزمان(الوطني يحذر اليسار من "إختراق" العمال )، يعبر عن واقع الحال، بمثل تحذير نائب رئيس الحزب الوطني الرجل القوي نافع على نافع بالتعامل الجاد والحازم مع ما أسماه محاولات قوى اليسار المعارضة لإختراق العمال عبر نقابات موازية. المفارقة الثانية هي تعهد السيد نافع " بالعمل مع الحزب الشيوعي الصيني على تطوير العلاقات السودانية الصينية للمستوى الإستراتيجي"، في زمن تغلبت فيه المصالح التجارية على الإيدولوجيا. كما وجه نائب رئيس حزب المؤتمر، في ذات الخبر، بالتنسيق الجيد وتقوية الصلة والتعاون بين الأجهزة الرسمية والنقابات. ورغم أنه توجيه عفوي،إلا أنه يعكس جانبا من العلاقة العضوية بين النظام الحاكم والنقابات بشكلها الجديد(نيولوك). ولكن من قال أن المياه ستتوقف عن الجريان تحت الجسور وفوقها؟ (عبدالله علقم) [email protected]