اِنه أخي وقد ذهب لتوه راضيًا مرضيًا ، فليس لي ومن علي شاكلتي الا الرضا بقضاء الله وقدره واِنا لفراقك يا يحي لمحزونون . وان جاز لي تحريف البيت الشهير للشاعر حين مات له ابناء فسمي الاخير يحي لكيلا يموت اقول : ( وقد قيل يا يحي لتحيا فلم يكن الي رد أمر الله فيك سبيل ) وعند الانفعال حينما تغيب عقول الكبار عما نزل من الحق ، كان ما كان من التباس الأمر للفاروق عمرعند وفاة سيد الخلق ، فقد انكر ارجح الانس بعد الرسول والصديق تلك الوفاة بل ويغالب الفاروق عمر نفسه اِلا أن يسطو بالذي يقول ( ِان محمدًا قد مات ) حتي فتح الله عليه بالذكر الحكيم الذي جري به لسان الصديق ابوبكر في ذلك اليوم العبوس حيث قال منبها الجميع : ( ايها الناس من كان يعبد محمدًا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لايموت وتلي : ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل . أفان مات اوقتل انقلبتم علي أعقابكم ... ) فانتبه الفاروق عمر وقال : ( والله لكأني ما تلوت هذه الآية قطَ ). تأملوا فهذا هو الفاروق الذي حفظ واستظهر سورة البقرة في عشر سنوات من شدة التأمل في آيات الله والتفكر فيها لا من عجز وقصور في الحفظ ، فما بالنا نحن غمار خلق الله عند سماعنا النبأ المهول في أمر غياب أخي يحي الغياب الابدي وقد فزعنا في ذلك بآمالنا الي الكذب ، وكنت اردد هامسا ( ليت زؤاما بُوع فاشتريت ) . لعل يحي قد علم مالم أكن أعلم بل ما كنت استبعده من حتمية حضور الأجل لامثاله ، بل كنت أظنني سابقه الي الموت والفناء بأمٍد بعيد ، فكان في آخر ستة اشهر له عاشها بين ظهرانينا يوصيني ويوصيني وهل تعلمون فيمن كان يوصيني ؟؟؟ كان يوصيني في أبنائي الثلاثة وبناتي الاثنتين ... لقد أحبهم فبادلوه بحب أكبر . ومن عجب فلا تسعني السانحة هنا لنقل ما كان يوصيني به . الله الله ، يالك من أخ صادق وصديق صدوق وافر الحكمة والرأي ثاقب الرؤية والبصيرة ، ذهب يحي فذهب الأخاء ، وذهبت الرجولة والمروءة والشجاعة والسخاء ومن ثمَ : غاص الوفاء وغاض الصبر وانفرجت مسافة الخُلف بين القول والعمل إن يحي أخي هو مِن من لن تعدد سجاياه ولو باتت الاقلام طيعة لينة والعقل والذاكرة في الحضور الأتم . فكيف بنا نتحدث عنه وقد وقعت الواقعة والهول قد ملأ الأرجاء والخواء عشش بالعقول والاحشاء . اللهم اِنا لا نزكي عليك احداً من خلقك ولكننا نشكر لك بهذا الذي نحن بصدده أن جعلت بيننا من كان يخشاك بحق ، ولا يخشي احداً سواك . عرفناه ليٌن العريكة جذلا مع الأبناء والصغار لا يملُهم ولا يملٌونه ذكرانا واناثاً ، وشهدناه قوياً متماسكاً لا يلين ليابس ولاينحني لهوج الرياح أو يتحرك له ساكن عندما تعصف الرعود وتزمزم أو تهمهم الضياغم وتزمجر لله دره فقد ولد ملكاً من أصلاب ملوك . لو كنت أكتب رثاء لتعداد المناقب أو تسجيل الأحداث التي عشناها معاً أو عايشناها مع الأصحاب والأغيار لكتبت أسفاراً وأيَم الله . لكنني الآن أبث اللواعج وقد آب اليَ قليل من الرشد . خرجت معه إلى الحج في 5/ اكتوبر/ 1990 بعد أن وُصمِنا زوراً باننا نتآمر ضد الحكومة ، ليس ذلك فحسب ، بل قيل بأننا كنا نحضَر ونعِد لانقلاب عسكري . كان حينذاك الاخ الدكتور نافع علي نافع هو المسئول عن جهاز الامن والملف وكان المحقق آنذاك هو النقيب مهندس / صلاح عبدالله (قوش) ، هذا ، وكان يحي وقتئذ زوجاً لشقيقتي المرحومة الدكتورة عالية ، ومع كل ذلك كان لايخشي أن يرافقني ويأخذ بيدي في كل مهمة أو نازلة . وعندما وصلنا مدينة الرسول وأدينا الصلوات لله والتجيات لرسوله ، أشار اليَ أن نذهب للسلام علي العم عبد السلام وهو احد حراس قبر الرسول والقائمين علي العناية به منذ مطلع القرن الماضي وغياب سلطنة دارفور بموت السلطان العابد أمير المؤمنين علي دينار طيب الله ثراه . وعند وصولنا سلمنا عليه وجلسنا فسأل دكتور يحي ليعرٌف عن نفسه ، كان عمر عمنا عبد السلام قد تجاوز التسعين عاما آنذاك فقال له : أنا ابن أخيك المرحوم الملك محمد محمود الملك علي الدادنقاوي فقال له ياالله انت ابن الملك دُبج ؟ قال له يحي نعم ، فسألني ومن أنت ؟ قلت له أنا ابن أخيك أحمد بن الفكي أمين عبدالحميد الفوتاوي قال يا سبحان الله ، يا سبحان الله ، والله وأنا قد حضرتهما وأنا رجل ملء هدومي بعد رحيل السلطان علي دينار طيب الله ثراه ، وفي الفاشر أبو زكريا – فوالله ما وجدت ولا سمعت بخبر صداقة مثلما كان عليه أبواكما من صداقة وعهد . فوالله ما اِن تري الملك محمد محمود في ناحية، اِلا وترى فيها أحمد أمين في نفس الناحية ، والعكس صحيح . فحافظا علي ذلك وقاكما الله شر عين الحسود . وأشهد الله بأن يحي قد أوفي بما عاهد عليه الله في ذلك الحرم الآمن وعند حضرة رسول الله (ص) عليه وسلم . وهذا مثال مئات من الأمثلة مشحونة بها ذاكرتي منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي . فاني أنا العبد الفقير إلي رحمة مولاه الغني ، أضرع اليك يا الله خاشعاً ، صغيراً ذليلاً راجيا منك أن ترفع أخي يحي إلى أعلا الفردوس من الجنة وان تلحقنا به غير خزايا ولا مفتونين وأن تبقيه قرير العين شامخا فوق الشوامخ وفي عليين ولله ما أبقي ولله ما أخذ . ونسأله ان يلهم الأسرة المكلومة حسن العزاء أخص بذلك زوجته الكريمة وأبناءه وأحفاده وأختنا العزيزة نفيسة الأميرة بنت الملك . عبدالحميد احمد امين