دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات مرابع الصبا والشباب ... بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
نشر في سودانيل يوم 23 - 09 - 2009


دخول المدرسة الأولية
في صباح يوم مطير، اقتادنا أخونا الأكبر (محمد) إلى مدرسة المجلد الأولية (أ) والتي سميت (الغربية)أيضا بعد تشييد مدرسة البندر (الشرقية) أو المجلد الأولية (ب) التي كانت كالقلعة العتيدة تطل من تل رملي أبيض على المدينة أسفلها حيث انتشرت الغدران وبرك المياة والخضرة على مد البصر.
على هذا البساط الأخضر الذي يعج بالطيور من كل لون وصوت وتغريد، تناثرت الأبقار والأغنام والخيل والحمير ترعى في هناء وسعادة. ومن فوقها سماء المدينة المتلبد دائما بالغيوم والمزن المثقلات. والدخان المتصاعد من المنازل والحيشان يدل على عمليات طهي (العصيدة) – وجبتنا الوحيدة- أو بغية طرد الذباب والهوام من الماشية في الزرائب داخل الحيشان الكبيرة.
محمد أمامنا ونحن ننساب من ورائه. نمشى تارة بجواره ونهرول تارة أخرى من خلفه على عجل من أمرنا.كل منا يفكر في المدرسة وهذا اليوم الذي ظل يحلم به، وقد امتلأت أحذيتنا الباتا (سمك) الجديدة بالندى والطين ونحن نثب على الحشائش ونحاول تنظيفها.
اجتزنا جسورا بنيت من جذوع الأشجار لتمرير المياه من تحتها. ورذاذ مطر الرشاش يزداد حينا ويقل حينا آخر. ابتلت جلاليبنا والطوافي الجديدة بالمطر. كان شعورا جميلا ممزوجا بالرهبة وفرحة المدرسة والملابس الجديدة.
خامرنا شعور غريب بأنه يوم عيد من نوع آخر، وقد ظل هذا الشعور بأذهاننا دهرا. وظلت تلك الصورة الطفولية في أذهاننا منحوتة إلى اليوم. نراها بوضوح كأنها كانت بالأمس القريب.
دخلنا المدرسة وسط هرج ومرج التلاميذ الصباحي. دق جرس الطابور الذي كان يوضع في مسطبة (دكة) دائرية وسط المدرسة والذي يتسابق إليه التلاميذ عندما يؤمرون بذلك. ويسعد كثيرا من يصل إليه أولا من التلاميذ ويعتبرها الجائزة الكبرى.
ازدادت رهبتنا وبدأت دقات قلوبنا الصغيرة في التسارع ونحن تحت شجرة (اللبخ) الضخمة التي كانت أمام فصل أولى وثانية.
تم استيعابنا في المدرسة. عدنا فرحين بهذه التجربة الغريبة أيما فرح. وكانت سعادتنا أكبر بمشاهدة الناظر (حامد ضوالبيت) الذي كنا نسمع عنه وعن أخيه إبراهيم (ضوالبيت) الذي رسم (لوحة أصدقائنا في الخارج) لفصول السنة الرابعة في كل السودان. وسعدنا كذلك برؤية الشيخ مكي شميله والشيخ بابو أم بردب والشيخ رمضان مخرز والشيخ إبراهيم محمد زين والشيخ صالح وغيرهم.
وقديما قيل:
- لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
فقد عرفت وبوضوح شوق أبني (وضاح) لدخول المدرسة مع إخوته وهو لما يكمل الخامسة من عمره. وعرفت معنى تلك العجلة وإحساسه الدائم بأنه كبير وأنه ليس أقل شأنا من إخوته الذين يذهبون للمدرسة كل صباح. فقد كان يصر على اقتناء كل شيء نأتي به لإخوته ويصحو كل يوم معهم ويرتدي ملابسه مثلهم تماما ويصر على الخروج معي إلى السيارة وتوديع والدته التي كانت- بالنسبة إليه - تسلبه حرية الخروج. فهو دائم الشد والجذب والصراخ معها لبعض الوقت بعد خروجنا حتى يهدأ بعد حين.
أكملنا السنة الأولى وبدأنا نكتب قليلا. وكانت مناسبة كبيرة. فنحن الآن في السنة الثانية ويقصدنا البدو لكتابة (مكاتيب) لذويهم في مدن السودان المختلفة. كنا نشعر بزهو ونحن نكتب تلك المكاتيب - كما يسميها البدو. وينفحونا أحيانا تعريفة أو أكثر وهو مبلغ كبير آنذاك. إذا كانت التعريفة تساوي خمس مليمات ولكل مليم قدرته الشرائية. وأحيانا أخرى يكتفون بالثناء علينا وأن (ابن فلان كاتب) وهذا قمة المدح.
كنا نعرف أن الشيخ مصطفى النعيم صاحب الشيخ مكي شميله. وكان الشيخ مصطفى النعيم في المدرسة الشرقية، إلا أن صيته قد ذاع بأنه يجلد جلدا مبرحا وقد يضربك بيده فيقتلك. حتى أن أحد أًصدقائي – وهو الآن الدكتور عبد الله عبد الكريم – الذي كان مردوفا على الحصان مع أخيه العريس في (السيرة) قفز من ظهر الحصان إلى الأرض وأطلق ساقية للريح عند رؤيته الشيخ مصطفى النعيم من بين الحاضرين لعرس أخيه.
تشوقنا لليوم الذي (سيصرفون) لنا فيه ألواح الإردواز. فلقد كان حلما كبيرا. كنا نخرج قبل ذلك أمام الفصل في شكل دائري ونحن جلوس على الأرض نقلد الحروف التي كانت مكتوبة بصمغ على ورق ذر عليه التراب. ويضغط الشيخ أحيانا أصابعنا الصغيرة على الأرض لنكتب الحرف بشكل صحيح عندما نكتبه خطأ. فيحدث الضغط احتكاكا بالأرض يؤلمنا كثيرا.
طال انتظارنا لحلم آخر أكبر وهو كتاب (الأطفال). بهذا الكتاب حرف ألف (أ) وبجانبه الأسد فنقول( آ أسد) وننطق الواو قائلين (وا ولد) و(ل لمس) والولد لمس الأسد. وصورة الولد الذي لمس الأسد. وهل يستطيع أحد أن يلمس الأسد بهذه السهولة!!! لقد كانت الأسود كثيرة في منطقتنا وتكتنفها كثير من الأساطير. وكنا كذلك نشاهد في الكتاب (حسن ولد الحبش) الذي نسمع به ولم نره. وطه القرشي (المريض) الذي مرض دهرا. ويبدو أنه قد شفي من مرضه إلا أنه لا يزال مريضا في ذاكرتنا. وكذلك العنزة (كريت التي وجدت المرعى الطيب وأبت الرجوع إلى البيت). والضبع الأكبر والأوسط والأصغر وأًصواتهم والصوت (قرنتش) والذي ننطقه حسب كبر الضبع - بضم القاف حينا وفتحها وكسرها حينا آخر. والطائر الميمون على صفحة الكتاب الأولى- شعار معهد بخت الرضا. لقد شكلت بخت الرضا بختا ورضا على حياتنا. لا يعجبنا كتاب ليس به هذا الشعار. وكنا نبحث عن هذا الشعار في كل الكتب المدرسية وغيرها. وكان كافيا للشعور بالرضا عند مشاهدته. لقد كان معهد بخت الرضا معهدا تربويا عظيما. ألا نضر الله وجه من أسعدنا في تلك السن المبكرة.
ومن أحلامنا أيضا كانت (حقيبة القماش) التي يتوشحها التلاميذ الأكبر سنا على جنوبهم وقد كتب عليها (مدرسة المجلد الأولية أ) و(اسم الفصل الدراسي) و(أسم التلميذ). وأصبح ملازما لها بقعة من أثر انسكاب الحبر عليها من المحبرة التي تكون بداخلها. تلك البقعة لا تكاد تخطيء أي حقيبة قماش في المدرسة.
مضت بنا الأيام حلوة سعيدة خالية مما يعكر صفوها. نقضي سحابة النهار في المدرسة وآخر اليوم في السوق أو البيت وأحيانا في البوطه (غدير الماء الراكد) نسبح. وهو من الأمور المحرمة مدرسيا حتى في الإجازات. كذلك ركوب الدراجات رغم قلتها. فقد كانت البنات يغنين في الدلوكة – طبل نسائي فخاري تستخدمه البنات في المناسبات السعيدة - أغان للعجلة (الدراجة الهوائية) التي ظهرت لتوها كتقنية جديدة:
- قمت الصباح بدري بفكر في أمري. جاني صغير قدري. راكب له في عجلة. لما العجل لف قلبي التقيل خف. دقلاش يادقلاش. دقلاش وليد الناس.
راودتني وأخي عبدالله يوما فكرة ركوب شاحنة، بالرغم من أن أخانا عثمان كان يملك شاحنة فورد كتب عليها (مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم). فما كان منا إلا أن طلبنا من أحد السائقين الذين ينقلون الطوب الأحمر من البواط (غدران الماء) أن نعمل معه مجانا في شحن الطوب الأحمر وإنزاله. وفي مقابل ذلك أن يسمح لنا بركوب الشاحنة من البوطه (غدير الماء) إلى مكان إنزال الطوب، حتى أحمرت ملابسنا وأجسامنا من الطوب. وكانت النهاية أن أخذنا علقة (جلده) من يد أخينا الأكبر (أدم) لم ننسها أبدا.
نقضي معظم الوقت في اصطياد الطيور بالشراك. ونذهب للزرع أحيانا أخرى. إذ كانت لمعظم ساكني المجلد مزارع في العتامير (كثبان الرمل) المحيطة بالمجلد. ونبحث عن الأبقار والأغنام التي تعود إلى البيت في المساء من الغابات القريبة من الحي والتي تكثر بها الأرانب والغزلان ودجاج الوادي وطيور الإوز البرية (أمثال الوزينة الصغيرة الحجم التي تسمى "أم كر" والوزينة الكبيرة الحجم الذي نطلق عليها الوزينة "أم قرن"). وننعم بالسباحة – رغم تحريمها مدرسيا - في الغدران التي تحيط بها أشجار (أم قاتو) وتسلق شجر(الجوغان) لقطف ثماره الحلو.
أذكر أن أحد إخوتي (ياسين) ونطلق عليه أحيانا اسم (الياس) و(عطيه) و (بنك) – وكثرة الأسماء من أهمية المرء - قد تاه يوما في بحثه عن الأبقار التي ضلت طريقها إلى الحوش عند المساء. فخرج الناس رجالا ونساء شيبا وشبابا وأطفالا يضربون الطبول ويصيحون ليهتدي (عطية) إليهم وسط بكاء النساء خوفا من أن يأتي الليل وتفتك به الذئاب الضارية. والله أعلم بما في ليل المجلد من ذئاب وحيوانات مفترسة أخرى أعتاد الناس كثرتها حتى أنك تجد بعض الضباع في الليل داخل الحيشان أحيانا.
وذات مرة زأر أسد بالقرب من المجلد في ليلة من ليالي عام 1952. خلنا يومها أن زلزالا قد أنشب أظافرة على أديم الأرض. وكاد زئيره أن يقتلع القطاطي (مساكن مخروطية الشكل تبنى من الطين وتسقف بالقش). وطفقت الكلاب تلك الليلة تعدو إلى داخل البيوت رافضة الخروج. تبول كل حيوان. وناحت الأبقار على صغارها، وكسرت الزرائب لتجتمع بصغارها. واستعد الآباء بالحراب الكبيرة والأسلحة النارية المرخصة وغير المرخصة لما تتمخض عنه تلك الليلة. وعشنا في هرج ومرج. إلا أن الأمر أنقضى تلك الليلة بسلام وطلع الصباح وتنفس الناس الصعداء.
أذكر أن الناظر علي نمر قتل أسدا في طريق أبيي- المجلد وحمله في الشاحنة إلى المجلد وأنزله في المركز. فخرجنا من المدرسة لمشاهدة هذا الحدث العظيم. قصدنا (المركز) وتجمهرنا حول الأسد المقتول. وكنوع من المزاج كان يطلب منا بعد عصب عيوننا القفز من فوقه. كانت تجربة قاسية. لم ينجح فيها إلا قلة. وبينما نحن مأخوذين بالمشهد. رفع أحدهم إحدى قوائم الأسد الخلفية (الكراع). فإذا بالأسد يزأر كأنه حي. تفرق جمعنا ركضا في كل اتجاه. ولم نعد أبدا برغم كل الإغراءات. علمنا فيما بعد أن خروج الهواء من جوف الأسد مرورا بأوتار صوته يحدث صوت الزئير الذي أفزعنا كثيرا وأذهب صوابنا.
ومن الظواهر الطبيعية التي تركت أثرا قويا في نفوسنا، كان كسوف الشمس عام 1952. خرج الناس من منازلهم وهم يضربون على الصفائح (علب الصفيح المعدنية) الفارغة وعلى كؤوس القرع وهي منكفئة على الماء. وأشعل البعض نيرانا كبيرة وأضرموا مشاعل. وهلل وكبر البعض. ودخل الكبار في صلاة الكسوف. فقد شهدنا ضروبا من الاعتقادات وطقوس متباينة في بلد سواده الأعظم من المسلمين.
درسنا في المدرسة في حصة الطبيعة الطيور والحيوانات المختلفة وسعدنا بذلك لأنها كانت جزءا من محيطنا وبيئتنا. لم تزد على ما نعرفه كثيرا، لكنا مع ذلك كنا سعداء بحصتها. وكانت الحصة (قصة) من أحلى الحصص حيث نجلس منتبهين وفي صمت تام وكأن على رؤوسنا الطير وكلنا آذان صاغية.
أراد الناظر بابو نمر – رحمة الله رحمة واسعة - أن يخوض تجربة إدخال بنات البقارة المدرسة الأولية. فذهب إلى بعض فرقان البدو وأتي بمجموعة منهن بعد أن بذل جهدا في إقناع آبائهن بضرورة التعليم. ولكن يبدو أن المسألة كلها كانت ضبابية عند البدويات ولم تتبلور صورة المدرسة ومنافعها لديهن.
أدخلت البدويات مدرسة المجلد الأولية للبنات. ويبدو أيضا أن بينهن من كان (ديدها يخنق الكلب) أي كبيرات بعض الشيء. مكثن يومين وفي اليوم الثالث بدأت أصوات حلقات العجكو تتناهى إلى آذانهن. تسللن خلسة من المدرسة وقصدن الدورية (حلقة العجكو). استمتعن بالرقص. انتظرن حتى يوم الخميس حيث يفد العربان لسوق المجلد. استأذن لملاقاة عوائلهن وكان ذلك آخر عهدهن بالمدرسة!!
من غرائب الأمور أيضا أن أخانا الرفاعي مهدي الرفاعي (ننو) كان يذهب إلى المدرسة وهو راكب على ظهر أحد الخدم الذي كلف بمهمة توصيله إلى المدرسة والعودة به عند نهاية الحصص. وهذا نوع من الارستقراطية لم نعهده في المنطقة!!
من الحصص التي كنا نشعر فيها بشعور غريب حصة (التاريخ). كانوا يدرسوننا المشاهير الأوروبيين ونحن لا نعلم عنهم شيئا. فكان (وليام تيل) بسهمه الذي لا يخطئ وكيف أنه أصاب التفاحة التي كانت على رأس الولد. و(الفريد ورجال الشمال). ولكنا لم نر الفريد ولا رجال الشمال في المجلد. كان بالمجلد عرب البقارة والدينكا والفلاتة (اليوروبا والهوسا وأم برروا) والجلابة وعمنا (الخواجي) عيدو جورج وغيرهم. فأين (الفريد) وأين (رجال الشمال) من هؤلاء!!! وكذلك الفارس (رولاند) ونحن لا نعرف سوى فرسان البقارة. أشياء أراد بها المستعمر أن يغسل أدمغتنا الصغيرة!!!
انتقلنا إلى السنة الثالثة وكنا أكثر سعادة فقد غرست لكل أثنين منا شتلة شجرة صغيرة. كان علينا رعايتها سقيا ونظافة كل يوم بالتناوب. وكان علينا أن ننظف الفصول يوميا حسب الجدول. فلقد علمونا استشعار المسئولية في ذلك السن الصغير. لقد كانت المدارس تربية وتعليما حقيقيا.
كما تم إدراجنا ضمن قائمة فريق كرة القدم المدرسي. وصرفت لنا (الفنايل) الموشحة إما بخط أزرق أو أحمر وكنا أسعد الناس بها.
وعشنا تجربة (الكنز المفقود) الذي كان عبارة عن علبة حلاوة مدفونة في مكان ما نصل إليها عن طريق خارطة تذهب بنا في مشاوير طويلة. لكن في النهاية نصل إلى الكنز المفقود ونسعد جميعا بهذه الجائزة.
بدأنا نؤجر العجلات - الدراجات الهوائية – (سهرة ليلية) بخمس قروش. ولا ننام تلك الليلة إلا يسيرا. نظل نطوف حول الحيشان ليلا لنستغل كل قرش دفعناه أجرا لها حتى يبلغ بنا الإعياء مبلغا ثم نأوي للفراش. كانت العجلات نوعان: الدبل (العريض الإطار) والرالي (الرقيق الإطار). وكنا ندلف خلسة للسباحة في البواط (غدران الماء) لإحساسنا بأننا كبارا وقد انتقلنا للسنة الرابعة. ولكن في كثير من الأحيان نلقى جزاء ما اقترفنا (علقة ساخنة) من أحد الإخوة الكبار أو المدرسين بوشاية أحد الطلاب.
درسنا في حصة الجغرافية صديقنا (أحمد) في مصر و(سانشو) في الأرجنتين و(هو) في الصين وغيرهم. وبدأنا نعي ما حولنا من العالم الخارجي. وبدأنا نعود مساء للمذاكرة الليلية استعدادا للامتحانات النهائية وامتحان (اللجنة) والدخول إلى المدرسة الوسطى.
راس النيفة
ذات مساء ونحن عائدون من المذاكرة المسائية قصدنا الفرن الوحيد - فرن (يوسف الفران) لنشترى (الغريبة). راقت في رأس أحد أخوتنا فكرة سرقة واحد من رؤوس النيفة المعروضة في طشت (طست). وفي لحظة استقر رأس النيفة في حقيبة القماش (المصنوعة من قماش الدمورية). واصلنا مسيرنا إلى البيت. نزلنا المنخفض الذي كان أمام (الجزارة) وطلعنا منه فرحين ونحن نتناول (الغريبة).
وعندما أوشكنا على الوصول إلى البيت، سمعنا جلبة فنظرنا وراءنا. وياللهول!!! فقد كان أولاد يوسف الفران يركضون سريعا وراءنا. أخافنا ركضهم رغم أننا لا ندري السبب. إلا أن أخانا الذي عمل عملته السوداء والذي أطلق ساقيه للريح أغرانا بالعدو وزاد من خوفنا. فانتظمنا جمعيا في سباق غير متكافئ.فقد كان معظم أولاد الفران أكبر منا. وعلى مقربة من التبلدية التي كانت في بداية الحوش تمكن أولاد الفران من اللحاق بنا وإيقافنا. تم تفتيشنا فردا فردا. ولسوء الحظ أطل رأس النيفة (الباسم) من حقيبة أخينا مبتسما!!!!!
السفر إلى النهود
ركبنا (اللوري) الذي أعد لسفرنا إلى (النهود) ليتم تسنيننا (استخراج شهادة الميلاد عن طريق تخمين طبيب ماهر). قام الدكتور عبد العزيز مالك في مستشفى النهود بهذه المهمة. كان معظمنا لا يملك شهادة ميلاد أصلية. فقد كانت بالمجلد قابلتان (دايتان) فقط: الداية فاطمة بنت حسين والداية بنت بابو فاتح. وكانتا تقطنان بعيدا عن حلة الفكي جبريل. كانت أحداهن تسكن في حلة أركويت. وكنا نكره إرسالنا إليهن في الليل ونباح الكلاب وعواء الضباع وفحيح الأفاعي. ونلعن نساء حينا اللاتي لا يلدن إلا بالليل أو قريبا من الصباح!!!!
كانت تجربة السفر إلى مدينة (النهود) تجربة رائعة جدا. ولأول مرة نسافر خارج المجلد وبشاحنة وشنط حديد صناعة محلية كمان (أيه الهنا اللي نحن فيه ده) كما يقول أخواننا المصريون!!!
من الطرائف أن أحد إخوتنا الفصحاء والبلغاء عير أحد زملائنا بأن عيونه تشبه درادم (تكويرات تكون على ظهر الشنطة الحديدية كزخرفة) الشنطة. ياله من تشبيه!!
وصلنا النهود مرورا (برهد "غدير" السباق). وكان من ضمن برامجنا في النهود دخول السينما. وهي المرة الأولى التي نشاهد فيها دارا للسينما خلاف السينما المتجولة. كانت استعداداتنا من حمام وانتقاء الجلابية المناسبة وحذاء الباتا (سمك) على قدم وساق لهذه التجربة الفريدة.
دخلنا (سينما النهود). وبدأ ما يسمى (بالمناظر) وهو عرض متنوع قبل العرض الرئيسي. كان الفيلم من أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) الذين ننتمي إليهم مهنيا. فاجأنا المخرج باللقطة الأولي والخيل في سباق محموم وعليها رعاة البقر بقبعاتهم وبنادقهم ومسدساتهم ووجوههم المكفهرة وأصوات الرصاص والأبقار والهرج والمرج. كنا جلوسا قريبين من شاشة السينما. أيقنا أن هذه الخيل المسرعة لا محالة ستصل إلينا. وبحركة لا إرادية وجدنا أنفسنا جمعينا تحت المقاعد تفاديا لهذه الهجمة البربرية. كانت تجربة وأي تجربة!!!!
(من كتاب ذكريات مرابع الصبا والشباب)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.