السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذكريات مرابع الصبا والشباب ... بقلم: أحمد جبريل علي مرعي
نشر في سودانيل يوم 23 - 09 - 2009


دخول المدرسة الأولية
في صباح يوم مطير، اقتادنا أخونا الأكبر (محمد) إلى مدرسة المجلد الأولية (أ) والتي سميت (الغربية)أيضا بعد تشييد مدرسة البندر (الشرقية) أو المجلد الأولية (ب) التي كانت كالقلعة العتيدة تطل من تل رملي أبيض على المدينة أسفلها حيث انتشرت الغدران وبرك المياة والخضرة على مد البصر.
على هذا البساط الأخضر الذي يعج بالطيور من كل لون وصوت وتغريد، تناثرت الأبقار والأغنام والخيل والحمير ترعى في هناء وسعادة. ومن فوقها سماء المدينة المتلبد دائما بالغيوم والمزن المثقلات. والدخان المتصاعد من المنازل والحيشان يدل على عمليات طهي (العصيدة) – وجبتنا الوحيدة- أو بغية طرد الذباب والهوام من الماشية في الزرائب داخل الحيشان الكبيرة.
محمد أمامنا ونحن ننساب من ورائه. نمشى تارة بجواره ونهرول تارة أخرى من خلفه على عجل من أمرنا.كل منا يفكر في المدرسة وهذا اليوم الذي ظل يحلم به، وقد امتلأت أحذيتنا الباتا (سمك) الجديدة بالندى والطين ونحن نثب على الحشائش ونحاول تنظيفها.
اجتزنا جسورا بنيت من جذوع الأشجار لتمرير المياه من تحتها. ورذاذ مطر الرشاش يزداد حينا ويقل حينا آخر. ابتلت جلاليبنا والطوافي الجديدة بالمطر. كان شعورا جميلا ممزوجا بالرهبة وفرحة المدرسة والملابس الجديدة.
خامرنا شعور غريب بأنه يوم عيد من نوع آخر، وقد ظل هذا الشعور بأذهاننا دهرا. وظلت تلك الصورة الطفولية في أذهاننا منحوتة إلى اليوم. نراها بوضوح كأنها كانت بالأمس القريب.
دخلنا المدرسة وسط هرج ومرج التلاميذ الصباحي. دق جرس الطابور الذي كان يوضع في مسطبة (دكة) دائرية وسط المدرسة والذي يتسابق إليه التلاميذ عندما يؤمرون بذلك. ويسعد كثيرا من يصل إليه أولا من التلاميذ ويعتبرها الجائزة الكبرى.
ازدادت رهبتنا وبدأت دقات قلوبنا الصغيرة في التسارع ونحن تحت شجرة (اللبخ) الضخمة التي كانت أمام فصل أولى وثانية.
تم استيعابنا في المدرسة. عدنا فرحين بهذه التجربة الغريبة أيما فرح. وكانت سعادتنا أكبر بمشاهدة الناظر (حامد ضوالبيت) الذي كنا نسمع عنه وعن أخيه إبراهيم (ضوالبيت) الذي رسم (لوحة أصدقائنا في الخارج) لفصول السنة الرابعة في كل السودان. وسعدنا كذلك برؤية الشيخ مكي شميله والشيخ بابو أم بردب والشيخ رمضان مخرز والشيخ إبراهيم محمد زين والشيخ صالح وغيرهم.
وقديما قيل:
- لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
فقد عرفت وبوضوح شوق أبني (وضاح) لدخول المدرسة مع إخوته وهو لما يكمل الخامسة من عمره. وعرفت معنى تلك العجلة وإحساسه الدائم بأنه كبير وأنه ليس أقل شأنا من إخوته الذين يذهبون للمدرسة كل صباح. فقد كان يصر على اقتناء كل شيء نأتي به لإخوته ويصحو كل يوم معهم ويرتدي ملابسه مثلهم تماما ويصر على الخروج معي إلى السيارة وتوديع والدته التي كانت- بالنسبة إليه - تسلبه حرية الخروج. فهو دائم الشد والجذب والصراخ معها لبعض الوقت بعد خروجنا حتى يهدأ بعد حين.
أكملنا السنة الأولى وبدأنا نكتب قليلا. وكانت مناسبة كبيرة. فنحن الآن في السنة الثانية ويقصدنا البدو لكتابة (مكاتيب) لذويهم في مدن السودان المختلفة. كنا نشعر بزهو ونحن نكتب تلك المكاتيب - كما يسميها البدو. وينفحونا أحيانا تعريفة أو أكثر وهو مبلغ كبير آنذاك. إذا كانت التعريفة تساوي خمس مليمات ولكل مليم قدرته الشرائية. وأحيانا أخرى يكتفون بالثناء علينا وأن (ابن فلان كاتب) وهذا قمة المدح.
كنا نعرف أن الشيخ مصطفى النعيم صاحب الشيخ مكي شميله. وكان الشيخ مصطفى النعيم في المدرسة الشرقية، إلا أن صيته قد ذاع بأنه يجلد جلدا مبرحا وقد يضربك بيده فيقتلك. حتى أن أحد أًصدقائي – وهو الآن الدكتور عبد الله عبد الكريم – الذي كان مردوفا على الحصان مع أخيه العريس في (السيرة) قفز من ظهر الحصان إلى الأرض وأطلق ساقية للريح عند رؤيته الشيخ مصطفى النعيم من بين الحاضرين لعرس أخيه.
تشوقنا لليوم الذي (سيصرفون) لنا فيه ألواح الإردواز. فلقد كان حلما كبيرا. كنا نخرج قبل ذلك أمام الفصل في شكل دائري ونحن جلوس على الأرض نقلد الحروف التي كانت مكتوبة بصمغ على ورق ذر عليه التراب. ويضغط الشيخ أحيانا أصابعنا الصغيرة على الأرض لنكتب الحرف بشكل صحيح عندما نكتبه خطأ. فيحدث الضغط احتكاكا بالأرض يؤلمنا كثيرا.
طال انتظارنا لحلم آخر أكبر وهو كتاب (الأطفال). بهذا الكتاب حرف ألف (أ) وبجانبه الأسد فنقول( آ أسد) وننطق الواو قائلين (وا ولد) و(ل لمس) والولد لمس الأسد. وصورة الولد الذي لمس الأسد. وهل يستطيع أحد أن يلمس الأسد بهذه السهولة!!! لقد كانت الأسود كثيرة في منطقتنا وتكتنفها كثير من الأساطير. وكنا كذلك نشاهد في الكتاب (حسن ولد الحبش) الذي نسمع به ولم نره. وطه القرشي (المريض) الذي مرض دهرا. ويبدو أنه قد شفي من مرضه إلا أنه لا يزال مريضا في ذاكرتنا. وكذلك العنزة (كريت التي وجدت المرعى الطيب وأبت الرجوع إلى البيت). والضبع الأكبر والأوسط والأصغر وأًصواتهم والصوت (قرنتش) والذي ننطقه حسب كبر الضبع - بضم القاف حينا وفتحها وكسرها حينا آخر. والطائر الميمون على صفحة الكتاب الأولى- شعار معهد بخت الرضا. لقد شكلت بخت الرضا بختا ورضا على حياتنا. لا يعجبنا كتاب ليس به هذا الشعار. وكنا نبحث عن هذا الشعار في كل الكتب المدرسية وغيرها. وكان كافيا للشعور بالرضا عند مشاهدته. لقد كان معهد بخت الرضا معهدا تربويا عظيما. ألا نضر الله وجه من أسعدنا في تلك السن المبكرة.
ومن أحلامنا أيضا كانت (حقيبة القماش) التي يتوشحها التلاميذ الأكبر سنا على جنوبهم وقد كتب عليها (مدرسة المجلد الأولية أ) و(اسم الفصل الدراسي) و(أسم التلميذ). وأصبح ملازما لها بقعة من أثر انسكاب الحبر عليها من المحبرة التي تكون بداخلها. تلك البقعة لا تكاد تخطيء أي حقيبة قماش في المدرسة.
مضت بنا الأيام حلوة سعيدة خالية مما يعكر صفوها. نقضي سحابة النهار في المدرسة وآخر اليوم في السوق أو البيت وأحيانا في البوطه (غدير الماء الراكد) نسبح. وهو من الأمور المحرمة مدرسيا حتى في الإجازات. كذلك ركوب الدراجات رغم قلتها. فقد كانت البنات يغنين في الدلوكة – طبل نسائي فخاري تستخدمه البنات في المناسبات السعيدة - أغان للعجلة (الدراجة الهوائية) التي ظهرت لتوها كتقنية جديدة:
- قمت الصباح بدري بفكر في أمري. جاني صغير قدري. راكب له في عجلة. لما العجل لف قلبي التقيل خف. دقلاش يادقلاش. دقلاش وليد الناس.
راودتني وأخي عبدالله يوما فكرة ركوب شاحنة، بالرغم من أن أخانا عثمان كان يملك شاحنة فورد كتب عليها (مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم). فما كان منا إلا أن طلبنا من أحد السائقين الذين ينقلون الطوب الأحمر من البواط (غدران الماء) أن نعمل معه مجانا في شحن الطوب الأحمر وإنزاله. وفي مقابل ذلك أن يسمح لنا بركوب الشاحنة من البوطه (غدير الماء) إلى مكان إنزال الطوب، حتى أحمرت ملابسنا وأجسامنا من الطوب. وكانت النهاية أن أخذنا علقة (جلده) من يد أخينا الأكبر (أدم) لم ننسها أبدا.
نقضي معظم الوقت في اصطياد الطيور بالشراك. ونذهب للزرع أحيانا أخرى. إذ كانت لمعظم ساكني المجلد مزارع في العتامير (كثبان الرمل) المحيطة بالمجلد. ونبحث عن الأبقار والأغنام التي تعود إلى البيت في المساء من الغابات القريبة من الحي والتي تكثر بها الأرانب والغزلان ودجاج الوادي وطيور الإوز البرية (أمثال الوزينة الصغيرة الحجم التي تسمى "أم كر" والوزينة الكبيرة الحجم الذي نطلق عليها الوزينة "أم قرن"). وننعم بالسباحة – رغم تحريمها مدرسيا - في الغدران التي تحيط بها أشجار (أم قاتو) وتسلق شجر(الجوغان) لقطف ثماره الحلو.
أذكر أن أحد إخوتي (ياسين) ونطلق عليه أحيانا اسم (الياس) و(عطيه) و (بنك) – وكثرة الأسماء من أهمية المرء - قد تاه يوما في بحثه عن الأبقار التي ضلت طريقها إلى الحوش عند المساء. فخرج الناس رجالا ونساء شيبا وشبابا وأطفالا يضربون الطبول ويصيحون ليهتدي (عطية) إليهم وسط بكاء النساء خوفا من أن يأتي الليل وتفتك به الذئاب الضارية. والله أعلم بما في ليل المجلد من ذئاب وحيوانات مفترسة أخرى أعتاد الناس كثرتها حتى أنك تجد بعض الضباع في الليل داخل الحيشان أحيانا.
وذات مرة زأر أسد بالقرب من المجلد في ليلة من ليالي عام 1952. خلنا يومها أن زلزالا قد أنشب أظافرة على أديم الأرض. وكاد زئيره أن يقتلع القطاطي (مساكن مخروطية الشكل تبنى من الطين وتسقف بالقش). وطفقت الكلاب تلك الليلة تعدو إلى داخل البيوت رافضة الخروج. تبول كل حيوان. وناحت الأبقار على صغارها، وكسرت الزرائب لتجتمع بصغارها. واستعد الآباء بالحراب الكبيرة والأسلحة النارية المرخصة وغير المرخصة لما تتمخض عنه تلك الليلة. وعشنا في هرج ومرج. إلا أن الأمر أنقضى تلك الليلة بسلام وطلع الصباح وتنفس الناس الصعداء.
أذكر أن الناظر علي نمر قتل أسدا في طريق أبيي- المجلد وحمله في الشاحنة إلى المجلد وأنزله في المركز. فخرجنا من المدرسة لمشاهدة هذا الحدث العظيم. قصدنا (المركز) وتجمهرنا حول الأسد المقتول. وكنوع من المزاج كان يطلب منا بعد عصب عيوننا القفز من فوقه. كانت تجربة قاسية. لم ينجح فيها إلا قلة. وبينما نحن مأخوذين بالمشهد. رفع أحدهم إحدى قوائم الأسد الخلفية (الكراع). فإذا بالأسد يزأر كأنه حي. تفرق جمعنا ركضا في كل اتجاه. ولم نعد أبدا برغم كل الإغراءات. علمنا فيما بعد أن خروج الهواء من جوف الأسد مرورا بأوتار صوته يحدث صوت الزئير الذي أفزعنا كثيرا وأذهب صوابنا.
ومن الظواهر الطبيعية التي تركت أثرا قويا في نفوسنا، كان كسوف الشمس عام 1952. خرج الناس من منازلهم وهم يضربون على الصفائح (علب الصفيح المعدنية) الفارغة وعلى كؤوس القرع وهي منكفئة على الماء. وأشعل البعض نيرانا كبيرة وأضرموا مشاعل. وهلل وكبر البعض. ودخل الكبار في صلاة الكسوف. فقد شهدنا ضروبا من الاعتقادات وطقوس متباينة في بلد سواده الأعظم من المسلمين.
درسنا في المدرسة في حصة الطبيعة الطيور والحيوانات المختلفة وسعدنا بذلك لأنها كانت جزءا من محيطنا وبيئتنا. لم تزد على ما نعرفه كثيرا، لكنا مع ذلك كنا سعداء بحصتها. وكانت الحصة (قصة) من أحلى الحصص حيث نجلس منتبهين وفي صمت تام وكأن على رؤوسنا الطير وكلنا آذان صاغية.
أراد الناظر بابو نمر – رحمة الله رحمة واسعة - أن يخوض تجربة إدخال بنات البقارة المدرسة الأولية. فذهب إلى بعض فرقان البدو وأتي بمجموعة منهن بعد أن بذل جهدا في إقناع آبائهن بضرورة التعليم. ولكن يبدو أن المسألة كلها كانت ضبابية عند البدويات ولم تتبلور صورة المدرسة ومنافعها لديهن.
أدخلت البدويات مدرسة المجلد الأولية للبنات. ويبدو أيضا أن بينهن من كان (ديدها يخنق الكلب) أي كبيرات بعض الشيء. مكثن يومين وفي اليوم الثالث بدأت أصوات حلقات العجكو تتناهى إلى آذانهن. تسللن خلسة من المدرسة وقصدن الدورية (حلقة العجكو). استمتعن بالرقص. انتظرن حتى يوم الخميس حيث يفد العربان لسوق المجلد. استأذن لملاقاة عوائلهن وكان ذلك آخر عهدهن بالمدرسة!!
من غرائب الأمور أيضا أن أخانا الرفاعي مهدي الرفاعي (ننو) كان يذهب إلى المدرسة وهو راكب على ظهر أحد الخدم الذي كلف بمهمة توصيله إلى المدرسة والعودة به عند نهاية الحصص. وهذا نوع من الارستقراطية لم نعهده في المنطقة!!
من الحصص التي كنا نشعر فيها بشعور غريب حصة (التاريخ). كانوا يدرسوننا المشاهير الأوروبيين ونحن لا نعلم عنهم شيئا. فكان (وليام تيل) بسهمه الذي لا يخطئ وكيف أنه أصاب التفاحة التي كانت على رأس الولد. و(الفريد ورجال الشمال). ولكنا لم نر الفريد ولا رجال الشمال في المجلد. كان بالمجلد عرب البقارة والدينكا والفلاتة (اليوروبا والهوسا وأم برروا) والجلابة وعمنا (الخواجي) عيدو جورج وغيرهم. فأين (الفريد) وأين (رجال الشمال) من هؤلاء!!! وكذلك الفارس (رولاند) ونحن لا نعرف سوى فرسان البقارة. أشياء أراد بها المستعمر أن يغسل أدمغتنا الصغيرة!!!
انتقلنا إلى السنة الثالثة وكنا أكثر سعادة فقد غرست لكل أثنين منا شتلة شجرة صغيرة. كان علينا رعايتها سقيا ونظافة كل يوم بالتناوب. وكان علينا أن ننظف الفصول يوميا حسب الجدول. فلقد علمونا استشعار المسئولية في ذلك السن الصغير. لقد كانت المدارس تربية وتعليما حقيقيا.
كما تم إدراجنا ضمن قائمة فريق كرة القدم المدرسي. وصرفت لنا (الفنايل) الموشحة إما بخط أزرق أو أحمر وكنا أسعد الناس بها.
وعشنا تجربة (الكنز المفقود) الذي كان عبارة عن علبة حلاوة مدفونة في مكان ما نصل إليها عن طريق خارطة تذهب بنا في مشاوير طويلة. لكن في النهاية نصل إلى الكنز المفقود ونسعد جميعا بهذه الجائزة.
بدأنا نؤجر العجلات - الدراجات الهوائية – (سهرة ليلية) بخمس قروش. ولا ننام تلك الليلة إلا يسيرا. نظل نطوف حول الحيشان ليلا لنستغل كل قرش دفعناه أجرا لها حتى يبلغ بنا الإعياء مبلغا ثم نأوي للفراش. كانت العجلات نوعان: الدبل (العريض الإطار) والرالي (الرقيق الإطار). وكنا ندلف خلسة للسباحة في البواط (غدران الماء) لإحساسنا بأننا كبارا وقد انتقلنا للسنة الرابعة. ولكن في كثير من الأحيان نلقى جزاء ما اقترفنا (علقة ساخنة) من أحد الإخوة الكبار أو المدرسين بوشاية أحد الطلاب.
درسنا في حصة الجغرافية صديقنا (أحمد) في مصر و(سانشو) في الأرجنتين و(هو) في الصين وغيرهم. وبدأنا نعي ما حولنا من العالم الخارجي. وبدأنا نعود مساء للمذاكرة الليلية استعدادا للامتحانات النهائية وامتحان (اللجنة) والدخول إلى المدرسة الوسطى.
راس النيفة
ذات مساء ونحن عائدون من المذاكرة المسائية قصدنا الفرن الوحيد - فرن (يوسف الفران) لنشترى (الغريبة). راقت في رأس أحد أخوتنا فكرة سرقة واحد من رؤوس النيفة المعروضة في طشت (طست). وفي لحظة استقر رأس النيفة في حقيبة القماش (المصنوعة من قماش الدمورية). واصلنا مسيرنا إلى البيت. نزلنا المنخفض الذي كان أمام (الجزارة) وطلعنا منه فرحين ونحن نتناول (الغريبة).
وعندما أوشكنا على الوصول إلى البيت، سمعنا جلبة فنظرنا وراءنا. وياللهول!!! فقد كان أولاد يوسف الفران يركضون سريعا وراءنا. أخافنا ركضهم رغم أننا لا ندري السبب. إلا أن أخانا الذي عمل عملته السوداء والذي أطلق ساقيه للريح أغرانا بالعدو وزاد من خوفنا. فانتظمنا جمعيا في سباق غير متكافئ.فقد كان معظم أولاد الفران أكبر منا. وعلى مقربة من التبلدية التي كانت في بداية الحوش تمكن أولاد الفران من اللحاق بنا وإيقافنا. تم تفتيشنا فردا فردا. ولسوء الحظ أطل رأس النيفة (الباسم) من حقيبة أخينا مبتسما!!!!!
السفر إلى النهود
ركبنا (اللوري) الذي أعد لسفرنا إلى (النهود) ليتم تسنيننا (استخراج شهادة الميلاد عن طريق تخمين طبيب ماهر). قام الدكتور عبد العزيز مالك في مستشفى النهود بهذه المهمة. كان معظمنا لا يملك شهادة ميلاد أصلية. فقد كانت بالمجلد قابلتان (دايتان) فقط: الداية فاطمة بنت حسين والداية بنت بابو فاتح. وكانتا تقطنان بعيدا عن حلة الفكي جبريل. كانت أحداهن تسكن في حلة أركويت. وكنا نكره إرسالنا إليهن في الليل ونباح الكلاب وعواء الضباع وفحيح الأفاعي. ونلعن نساء حينا اللاتي لا يلدن إلا بالليل أو قريبا من الصباح!!!!
كانت تجربة السفر إلى مدينة (النهود) تجربة رائعة جدا. ولأول مرة نسافر خارج المجلد وبشاحنة وشنط حديد صناعة محلية كمان (أيه الهنا اللي نحن فيه ده) كما يقول أخواننا المصريون!!!
من الطرائف أن أحد إخوتنا الفصحاء والبلغاء عير أحد زملائنا بأن عيونه تشبه درادم (تكويرات تكون على ظهر الشنطة الحديدية كزخرفة) الشنطة. ياله من تشبيه!!
وصلنا النهود مرورا (برهد "غدير" السباق). وكان من ضمن برامجنا في النهود دخول السينما. وهي المرة الأولى التي نشاهد فيها دارا للسينما خلاف السينما المتجولة. كانت استعداداتنا من حمام وانتقاء الجلابية المناسبة وحذاء الباتا (سمك) على قدم وساق لهذه التجربة الفريدة.
دخلنا (سينما النهود). وبدأ ما يسمى (بالمناظر) وهو عرض متنوع قبل العرض الرئيسي. كان الفيلم من أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) الذين ننتمي إليهم مهنيا. فاجأنا المخرج باللقطة الأولي والخيل في سباق محموم وعليها رعاة البقر بقبعاتهم وبنادقهم ومسدساتهم ووجوههم المكفهرة وأصوات الرصاص والأبقار والهرج والمرج. كنا جلوسا قريبين من شاشة السينما. أيقنا أن هذه الخيل المسرعة لا محالة ستصل إلينا. وبحركة لا إرادية وجدنا أنفسنا جمعينا تحت المقاعد تفاديا لهذه الهجمة البربرية. كانت تجربة وأي تجربة!!!!
(من كتاب ذكريات مرابع الصبا والشباب)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.