البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يغادر المستشفى بعد استكمال الفحوصات الروتينية    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    السودان.."الولايات المتحدة" تسبق"الهجوم الوشيك" بدعوة عاجلة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الشعريّة الثقافويّة: خليل حاوي (1925-1982)" .. بقلم :د. تيراب الشريف الناقي
نشر في سودانيل يوم 15 - 09 - 2013


1- مقدمة:*
لا يختلف إثنان من نقاد الشعر العربي الحديث فى أنّ الشاعر اللبنانى خليل حاوي (1925– 1982 ) أحد رواد القصيدة الحداثيّة. فهو صوت شعرىّ متميز، ذوايقاع قوىّ ومدوّ، ولغة حداثية وكلاسيكية في آن: حداثيّة في شحنتها بالرموز والصور والإشارات، وكلاسيكية فى جزالتها وقوة سبكها. نشرخليل حاوي خمسة دواوين شعرية هي: نهر الرماد (1957)، و الناي والريح (1961)، و بيادر الجوع (1965)، و الرعد الجريح ( 1979 )، و من جحيم الكوميديا (1979 ) . ثم نشرت دواوينه كلها فى المجموعة الكاملة ديوان خليل حاوي (1979).
يتحدث ميشيل فوكو عن مفهوم " التشكيل الخطابي"، ويعني به أنه في أية ثقافة، تكون هناك تراكمات خطابية في موضوع معيّن في مجال فكري معيّن تسيطر على أذهان القراء والدارسين بمرور الزمن، وتشكّل سلطة معرفية يصعب اختراقها، وتجاوزه
(Michel Foucault, 1988, The Archaeology of Knowledge, pp. 74-116).
ينطبق هذا المفهوم على الخطاب النقدي عن خليل حاوي. فالتفسير النقدي السائد لشعر خليل حاوي هو أنه شاعر "الانبعاث "، بمعنى أن الموضوع الطاغي على شعره هو رؤيته لجمود الثقافة العربية الحديثة وتخلفها، ثم حلمه ببعثها وتجديدها والإرتقاء بها. أول من أسّس لهذا الخطاب أسعد رزوق الذي اطلق علي مجموعة من شعراء القصيدة الحداثية "الشعراء التمّوزيّون"، وهم: بدر شاكر السياب وخليل حاوي وأدونيس وجبرا ابراهيم جبرا (أسعد رزّوق،1959، الأسطورة في الشعر المعاصر). وذلك لاستخدامهم تمّوز، الإله الفينيقي، رمزاً للبعث بعد الموت، والخصب والنماء والتجدد. وتموز هو أيضا إله البعث والخصب والنماء والتجدد في بلاد ما بين النهرين. تبع كثير من النقاد تفسير رزّوق مشكّلين بذلك تراكما خطابيا مثّل غيوما نقدية حجبت رؤية نصوص حاوي الأصليّة، وعطّلت قراءات مغايرة لتلك النصوص بصفة خاصة، ولقصائده الأخرى بصفة عامة. (1)
القصائد المحورية االتي تركز على موضوع موت الحضارة العربية وبعثها، والتي كثر الحديث عنها، هي ستّ قصائد في دواوينه الثلاثة الأولى: "بعد الجليد"، و"الجسر"، و"البحار والدرويش" في ديوان نهر الرماد؛ و"الناي والريح في صومعة كيمبردج"، و"السندباد في رحلته الثامنة" في ديوان الناي والريح؛ و"لعازرعام 1962" في ديوان بيادر الجوع. وهناك ثلاث قصائد أخرى تتناول نفس الموضوع، كتبت ونشرت في المجلات بعد نكسة1967، وبعد بداية الحرب الأهلية اللبنانيّة عام 1975 (وهذان تاريخان مفصليان فى التاريخ العربى المعاصر)، ولكنها أهملت لأنّ التشكيل الخطابى المهيمن عن شعر حاوي قد اكتمل حينها. هذه القصائد هي: "الأم الحزينة" و"ضباب وبروق" و"الرعد الجريح" في ديوان الرعد الجريح. يقرأ الخطاب النقدي السائد القصائد الست الأولى على أنها تصف الثقافة العربية الحديثة بالتحجّر والجمود، وتدعو إلى إحيائها وبعثها من جديد بصورة أفضل. يستخدم الشاعر تمّوز، إله البعث والتجدد والخصب والنماء الفينيقيي، رمزاً للبعث بعد الموت والتجدد؛ والسيد المسيح رمزاً للإنبعاث، والفداء والتضحية؛ ولعازر، الشخصية الأنجيلية، والعنقاء، الطائر الأسطوري الذي يجدد نفسه باحتراقه في شيخوخته، وابتعاث نفسه من رماده، رمزين للإنبعاث والحياة بعد الموت.
في الشعريّة الثقافوية:-2
تتجاوزهذه الورقة ذلك التفسير السائد لشعر حاوي، وتقرأ شعره في السياق التفسيري للرؤى الشعرية والوعي الشعري لشعراء حداثيّين آخرين أطلق على شعرهم "الشعرية الثقافوية"(2). وهذه
استراتيجية تفسيرية حسب تعبير ستانلي فِش
(Stanley Fish,1980, Is there a Text in this Class?)
لشعر الشعراء الذين يتخذون من الثقافة موضوعا محوريّا في شعرهم، ويجعلون منها همّا رؤيويّا أساسيا
ولكن يختلف تناول الثقافة من شاعر لآخر حسب رؤيته الشعرية لثقافته، ووعيه الشعري بها. وقد صنّفتُ الشعرية الثقافوية إلى ثلاثة أصناف: الأول، "الشعرية الثقافوية النقدية" ويمثلها الشاعر السوري أدونيس (علي أحمد سعيد). ينتقد شعراء هذا الصنف الثقافة العربيّة المعاصرة برمّتها ويشخّصون الداء فيها ويصفون الدواء. فأدونيس ينتقد الثقافة العربية في شعره الثقافويّ على ضوء نقده الثقافي الذي يرى فيه أن هناك تيّاران متصارعان في الثقافة العربية، بمختلف جوانبها، منذ العصر الكلاسيكي القديم وهما: التيّارالثابت، أي الإتّباعيّ، والتيّار المتحوّل، أي الإبداعيّ. وأن التيّار الثابت/الإتّباعي، هو السائد منذ القدم وحتى العصر الحاضر. ينحاز الشاعر للتيار المتحوّل، ويدعو الى استلهامه والاضافة اليه وتجاوزه. يرصد في شعره، تماما كما في نقده الثقافي، تمظهر التيارين وغلبة الأول منذ العصر الجاهلي الى العصر الحاضر (على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة "السماء الثامنة" في ديوان المسرح والمرايا (1968)، وقصيدة "أحوال ثمود" في ديوان كتاب القصائد الخمس (1980)، وأجزاء ديوان الكتاب الضخم الثلاثة (1995، 1989، 2002).(3) أما الصنف الثاني، "الشعرية الثقافوية التفسيرية"، والذي يمثله الشاعران: السوداني محمد عبد الحي (1944-1989)، والعراقي سامي مهدي (م1944) فيفسر الثقافة العربيّة حسب تمظهرها في القطر الواحد، ويقف عند تفسيرها ولا ينتقدها. والخطاب الشعري عند هؤلاء الشعراء خطاب هويّة في المقام الأول، ويمكن أن نطلق على شعرهم أيضا اسم "شعريّة الهويّة الثقافيّة"، وهي الشعريّة التي تفسر الثقافة بحثا عن هويّة ثقافيّة ذات خصوصية متميزة عن الثقافة العربية الأم. يعبر محمد عبد الحي عن هذا المنظور في قصيدته المحوريّة العودة الى سنار(1973)، ويفسر الثقافة السودانية على أنها ثقافة هجينة ذات ثلاث مكونات: إسلامي وعربي وإفريقي. وهي القصيدة المانيفيستو لمنحى تفسيري للثقافة السودانية في الشعر السوداني لجماعة من الشعراء في ستينات القرن الماضي وسمت نفسها ب "جماعة الغابة والصحراء".(4) أما سامي مهدي، فيعيد تفسير الثقافة العراقية في ديوانيه لاقمر بعد هذا المساء (2008)، و أبناء ايننا (2009) بوصفها ثقافة هجينةأيضا، يمتزج فيها المكون العربي بمكون ثقافات العراق القديم، بلاد ما بين النهرين: الآشورية والبابلية والكلدانية.(5) أما الصنف الثالث، فيشير إلى مكامن الداء في مجمل الثقافة العربية المعاصرة، ولكنه لا يتعدى ذلك الى تشخيصه أو وصف دواء له. واذ يقف شعراء هذا الصنف عند الإشارة الى أن الداء في الثقافة العربية يكمن في جمودها وتخلفها، لا يضعون أصابعهم في مظاهر ذلك الجمود والتخلف وجوانبهما ولايقدمون بديلا لهما، بل يحلمون بانبعاث للثقافة العربية ولا يحددون ظواهر ذلك الإنبعاث ومعالمه، ولا كيفيّة تحقيقه. وشعرية خليل حاوي تندرج تحت هذا الصنف، فهي ضبابيّة وهلاميّة وغير محددة المعالم بشقّيها: جمود الحاضر وتكلّسه، وصورة المستقبل بعد الإنبعاث والتجديد. لذلك أطلق عليها "الشعريّة الثقافويّة الهلاميّة".
3- التفسير الثقافوي:
يعتمد الخطاب النقدي السائد لشعر حاوي، الذي يرى محورية موضوع موت الحضارة/الثقافة العربية وانبعاثها وتجدّدها في شعر حاوي، على قراءة لقصائد معدودة له في دواوينه الثلاثة الأولى: نهر الرماد، والناي والريح، وبيادر الجوع كما ذكرت من قبل. وهذه قراءة جزئية لشعر حاوي تعتمد أساسا على مقدمة الشاعر لإحدى قصائده، ألا وهي قصيدة "ما بعد الجليد" في ديوان نهر الرماد. يقدم الشاعر للقصيدة بإحدى توطئاته النثرية المعهودة، والتي نجدها في قصائد عددا (مثلا: "عند البصارة"، و"السندباد في رحلته الثامنة" و الناي والريح، و"جنيّة الشاطىء" و"لعازر عام 1962" في بيادر الجوع، و"الرعد الجريح" في الرعد الجريح). تمتد بعض هذه التوطئات أحيانا لتصل إلى خمس صفحات). وهذه استراتيجية نصوصية يستخدمها الشاعر لكي يوجّه القارىء، ويؤثر فيه ليفسر القصيدة تفسيرا يقارب تفسيره هو، أي الشاعر. فكأنّي بالشاعر يلبس جلباب الناقد ليكتب التوطئة، ثم يخلعه ليلبس جلباب الشاعر. وقد انطلت هذه الاستراتيجية النصوصيّة على نقاد الشاعر الأوائل، فأخذوا تفسيره لشعره على علاّته دونما فحص وتدقيق، وانبنى التشكيل النقدي الذي أشرنا إليه أعلاه على تفسير الشاعر لشعره، وهو أمر في درجة عالية من الغرابة. يقول الشاعر في توطئته لقصيدة "ما بعد الجليد":
"في هذه القصيدة، التي تعبر عن معاناة الموت والبعث، من حيث هي أزمة ذات وحضارة وظاهرة
كونية، يفيد الشاعر من أسطورة تمّوز وما ترمز إليه من غلبة الحياة والخصب على الموت
والجفاف، ويفيد من أسطورة العنقاء التي تموت ثم يلتهب رمادها فتحيا ثانية."
(نهر الرماد، ص 85)
تدل التوطئة على أحد أمرين: إما عن عدم ثقة الشاعر في مقدرة القارىء على فهم نصّه الشعري، وفي هذا إجحاف في حقّ القارىء، وإما عن عدم ثقته في مقدرة نصّه على إيصال معناه إلى القارىء، وفي هذا إجحاف في حق نفسه كشاعر. وإلا، فليس هناك داع لهذه التوطئة، أو أي توطئة أخرى. فما دام الشاعر قد كتب القصيدة، فليتركها تتفاعل مع قرائها، ليفسرها أيّ منهم بطريقته.
في القصيدة جزءان: الأول يتناول حالة الأرض/الثقافة/الحضارة العربية الحديثة قبل الجليد/ الموت، والثاني يتناول حالتها بعد الجليد/البعث. في الجزء الأول تعبير عن سيطرة الجليد/الموت وتمكنه من الأرض/الثقافة/الحضارة، واليأس من الحياة والموت القاسي:
عندما ماتت عروق الأرض
في عصر الجليد
مات فينا كل عرقٍ
يبست أعضاؤنا لحماً قديد
عبثا كنا نصد الريح
والليل الحزينا
ونداري رعشةً
مقطوعة الأنفاس فينا،
رعشة الموت الأكيد
في خلايا العظم في ظل الخلايا
في لهاث الشمس ، في صحو المرايا
(نهر الرماد، ص87-88)
ثم الاستنجاد ورفع الدعاء إلى الإله الرمز، تمّوز، إله البعث والتجدد والخصب والنماء، لخلاصهم من هذا الموت وبعثهم وضخ الدم في عروقهم:
يا إله الخصب، يا بعلا يفض
التربة العاقر
يا شمس الحصيد
يا إلها ينفض القبر
ويا فصحاً مجيد،
أنت يا تموز، يا شمس الحصيد
نجّنا، نجّ عروق الأرض
من عُقمٍ دهاها ودهانا،
أدفىء الموتى الحزانى
والجلاميد العبيد
عبر صحراء الجليد
أنت يا تمّوز يا شمس الحصيد.
( ص89-90)
ثم نعلم من صوت الراوي في القصيدة، أن هذا الدعاء لإعادتهم الى الحياة أتى بعد فشلهم في مقاومة الموت وفي تحدّيه بالصلاة والحب:
عبثا كنا نصلّي ونصلّي
غرّقتنا عتمة الليل المهلِّ
...
عبثا كنا نهزّ الموت
نبكي، نتحدّى،
حبنا أقوى من الموت
وأقوى جمرُنا الغضُّ المندّى.
(ص90)
وقد كانوا يأملون في ولادة جيل جديد قوي يقاوم الموت بامتلائه بالحياة:
وارتمينا جثثاً، لحماً حزيناً
ضمّ في حسرته لحماً قديد،
عبثا نغتصب الشهوة حرّى
عبثا نسكبها خمراً وجمرا
من بقايا في الوريد،
علّه يفرخ من أنقاضنا نسلٌ جديد
ينفض الموت، يغلُّ الريح
يدوي نبضةً حرّى
بصحراء الجليد
"حُبُّنا أقوى من الموت العنيد"
(ص 92-93)
إلا أن هذا الأمل قد تبدد وأصابهم اليأس من ميلاد ذلك الجيل الممتليء بالحياة، المقاوم للموت:
غير أنَّ الحبَّ لم يُنبِت
من اللّحم القديد
غير أجيالٍ من الموتى الحزانى
تتمطى في فم الموت البليد
* * *
(ص93)
أما في الجزء الثاني من القصيدة، فهناك توقّّع لقدوم تمّوز لإخصاب الأرض وإحيائها بعد موتها، ومن ثمّ إحياء الحضارة/الثقافة العربية الميتة وإعادتها الى الحياة. وتكثر هنا رموز الحياة والتجدد: "الشمس"، "الغيث"، "البذار"، "الدم"، "الربيع"، و"النار":
كيف ظلت شهوة الأرض
تدوّي تحت أطباق الجليد
شهوةٌ للشمس، للغيث المغنّي
للبذار الحيِّ في قبوٍ ودنِّ
للإله البعل تمّوز الحصيد،
شهوةٌ خضراء تأبى أن تَبيد،
وحنينٌ نبضُه يسري إلى القبرِ، إلينا،
(ص94)
لكن رغم "شهوة الأرض للشمس"، أي للحياة، هناك توجّس وخوف من نار البعث التي تلهب نار العنقاء وتعيدها إلى الحياة من جديد:
يا حنينَ الأرض لا تقسُ علينا
لا تحرّ الدم في الأموات ، فينا
موجعٌ نبضُ الدّم المحرور
في اللّحم القديد،
في عروقٍ بعضها حمّى ربيعٍ
وجحيمٍ يبتلينا
بعضها صمتٌ ثقيلٌ وجليد،
(ص94-95)
ثم تأتي مرحلة الاستسلام لمعاناة البعث وأوجاعه، والقبول بلهب النار من أجل الانبعاث:
إن يكن، ربّاهُ،
لا يحيي عروق الميّتينا
غير نارٍ تلد العنقاء، نار
تتغذّى من رماد الموت فينا
في القرار،
فلنعانِ من جحيم النار
ما يمنحنا البعث اليقينا:
(ص95-96)
وتأتي الحركة التالية في القصيدة لتعبّر عما يشبه النشوة للبعث المرتقب، والأمة الجديدة التي ستولد من الرماد بعد فقدانها بصرها/بصيرتها في الماضي بسبب تحجّر عيونها. وفي هذا إشارة إلى عيون ميدوزا في الأسطورة الإغريقية القديمة، والتي تحيل عيون كل من ينظر إليها إلى حجر:
أمماً تنفض عنها عفن التاريخ،
واللعنة، والغيب الحزينا
تنفض الأمس الذي حجّر
عينيها يواقيتاً بلا ضوءٍ ونار،
وبحيراتٍ من الملح البوار،
(ص96-97)
وتنتهي القصيدة بما يشبه الصلاة لتموز البعل، والدعاء إليه بأن يبارك لهم في هذه الأرض التي أنجبت هذا الجيل الجديد من الرجال الذين سيخلقون المستقبل الواعد، ويبنون الحضارة/الثقافة العربية الجديدة:
تنفض الأمس الحزينا
والمهينا
ثم تحيا حرة خضراء تزهو وتصلّي
لصدى الصبح المُطِلّ
وتعيد
من ضفاف "الكنج" "للأردنّ" "للنيل"
تصلّي وتعيد:
يا إله الخصب، يا تمّوزُ، يا شمسَ الحصيد
بارك الأرض التي تعطي رجالاً
أقوياء الصلب نسلاً لا يَبيد،
باركِ النسل العتيد
باركِ النسل العتيد
باركِ النسل العتيد
يا إله الخصب، يا تموز، يا شمس الحصيد
(ص97-98)
هذه القصيدة نموذج لقصائد "الموت والانبعاث"، والتي أسميها "القصائد الصافية الإيجابية"، وأعني بذلك أنها تعالج موضوع الموت والانبعاث دون نكوص عنه من بدايتها إلى نهايتها. كما أنها "صافية" لأنها ليس فيها تناقض كغيرها من القصائد التي تتناول نفس الموضوع، كقصيدة "لعازر عام 1962" في ديوان الناى والريح. الا أننا حين ندقّق النظر في فرضيات رؤية الشاعر للحضارة/الثقافة العربيّة الحاضرة، نجد أن هناك غموض وضبابية في هذه الرؤية. فنحن لا نجد في هذه القصيدة، ولا في القصائد الأخرى التي تتناول هذا الموضوع الهام، ما يدلّنا على عيوب هذه الثقافة الجامدة، غير إطلاق هذه الصفة عليها بوجهٍ عام. ويمكننا أن نطرح بعض الأسئلة ولكننا لا نجد لها أجوبة في هذه القصيدة ولا في مثيلاتها. مثلا: ما هي عيوب الحضارة/الثقافة العربيّة الحاضرة التي يدعو الشاعر إلى تجديدها وتجاوزها؟ وما هي عناصر الجمود التي يضع الشاعر إصبعه عليها؟ وحين يتحدث عن موت هذه الحضارة، ما هي مظاهر هذا الموت؟ ثمّ، فى رؤيته للثقافة العربيّة الجديدة، ماهى العناصر المفقودة التى يودّ الشاعر أن يراها فيها بعد انبعاثها؟ وما هي سمات تلك الثقافة الجديدة التي ينادي بها؟ ثم، هل الدعوة الى الإنبعاث دعوة الى بعث الثقافة العربية القديمة في أوج ازدهارها كدعوة الإحيائيين فى عصر النهضة ومحاكاتهم لها فى شعرهم، أم هى غير ذلك؟ لا نجد اجابات على هذه الأسئلة في القصائد.
في قصيدة "الجسر"، والتي هي أيضا من القصائد النادرة "الصافية الايجابية"، يضحّي الشاعر رمزيا بجسده ويقدّمه جسراً للأجيال العربيّة الطالعة لتعبره من الحاضر العربي المتخلف، الى مستقبلٍ عربيٍّ مشرقٍ وبهىّ. يصبح الشاعر نفسه هنا رمزاً للفداء والتضحية من أجل أمّته العربية، تماما كالسّيّد المسيح، رمز الفداء النموذج:
يعبرون الجسر في الصّبح خفافاً
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد
من كهوف الشرقِ، من مستنقع الشرقِ
إلى الشرقِ الجديد
أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد
(نهر الرماد، ص 138-139)
وهناك مشكلة أخرى في هذه القصائد "الصافية الإيجابيّة". فالشاعر يضع أمله كلّه في الأطفال باعتبارهم بناة المستقبل العربيّ الباهر:
وكفاني أنّ لي أطفالَ أترابي
ولي في حبّهم خمرٌ وزاد
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني أنّ لي عيدَ الحصاد،
أنّ لي عيداً وعيد
كلما ضوّأ في القرية مصباحٌ جديد،
(ص135)
وأرى أن في هذا بقايا من رومانتيكية. ذلك لأن النظرة إلى الطفولة كرمز للطّهر والبراءة لخلوّها من التجربة الإنسانيّة، نظرة رومانتيكيّة خالصة، وليست حداثيّة.(6)
هناك صنفٌ ثان من القصائد، وهي القصائد "الصافية السلبية"، والتي يَعبُر فيها الموت الحاضر إلى المستقبل، ويقضي على الإنبعاث ويسود فتصبح الرؤية غائمة وضبابيّة، ويرتبك القارىء ويتساءل: اذا كانت للشاعر رؤية متفائلة للمستقبل العربيّ المشرق، ما كان ينبغي أن تنقلب الى ضدّها وتصبح رؤية قاتمة متشائمة يتغلب فيها الموت المستديم، وينتهي الأمل في البعث. وقد انتبهت ريتا عوض(7) لهذا النوع من القصائد، ولكن فات عليها أنها مختلفة نوعا عن الصنف الأول. تقول:
" كان خليل حاوى من الشعراء الرواد الذين التزموا بقضايا الحضارة العربية وعاش مأساة الانسان العربى الذى يعى حقيقة التحديات التى تواجهها حضارتنا... وقد عبر خليل حآوى فى نتاجه الشعرى عن الانبعاث الحضارى الذى عاشه على مستوى الرؤيا لا كواقع ثم عن فجيعة الرؤيا ... بعد أنه كشف الواقع زيف الرؤيا ."
(ريتا عوض ، 1974، اسطورة الموت والانبعاث فى الشعر العربى الحديث، ص95)
تقرأ ريتا عوض شعر أستاذها قراءة صائبة فى نظرى غابت عن الكثير من كبار أساتذتها النقاد قبلها، وهى أن شعر حاوى حتى فى دواوينه الثلاثة الأولى التي أشهرته، قد صدمه الواقع الحضاريّ العربيّ وانقلبت رؤيته من الرؤية المتفائلة بالإنبعاث والتجدّد من الجمود والإنحطاط العربىّ المعاصر الى رؤية سوداويّة قائمة لاترى غير الموت والبوار فى المستقبل . فبدلاَ عن الرؤية المتفائلة المترعة بالآمال بِغدٍ نضرٍ ومستقبلٍ مشرقٍ للحضارة العربيّة وثقافتها، أنقلبت الرؤية الى رؤية متشائمة غايةً في التشاؤم، فاقدةً الأمل تماماً فى تغيير الحاضر العربى الى مستقبل بهىٍّ وغدٍ أفضل. وقد تنبهت ريتا عوض لذلك فى قراءتها للقصائد المحورية التى تتجلّى فيها تلك الرؤية القائمة فى الدواويين الثلاثة الأولى الى جانب الرؤى المشرقة، مايعكس ضبابيّة رؤية الشاعر وهلاميتها وهى : "البّحار والدّرويش" فى نهر الرّماد ، و"الكهف" فى النّاى والريح، و"لعازر عام 1962" فى بيادر الجوع . فى قصيدة "البحّار والدّرويش" يرمز البحار الباحث عن المعرفة الى الحضارة الغربية التى تعتمد على التجربة ، والدرويش الى مايسميه الشاعر "الشرق"، أى الحضارة العربيّة التى تعتمد على الغيبيّبات والتواكل:
بعد أن عانى دُوار البحر ،
والضوءَ المداجى عبر عتمات الطريق ،
ومدى المجهول ينشقّ عن المجهول،
عن موتٍ محيق،
ينشر الأكفان زرقاً للغريق،
( نهر الرّماد ، ص11).
أما الدّرويش فيرمز إلى مايسمّيه الشاعر "الشرق" ، ويعني الحضارة العربيّة التى تعتمد على الإيمان بالغيبيات وإهمال التجربة البشريّة:
بعد أن راوغه الريح رماه
الريح للشرق العريق
حطّ فى أرضٍ حكى عنها الرّواة :
حانةٌ كسلى ، أساطيرٌ، صلاة
ونخيلٌ فاترُ الظلِّ رخيُّ الهَينَمات
مطرحٌ رطبٌ يُميتُ الحسَّ
فى أعصابه الحرّى ، يُميتُ الذكريات
( ... )
آه لويُسعفُهُ زهدُ الدراويش العراة
دوّختهم "حلقات الذكر"
فاجتازوا الحياة .
( ...)
هات خبّر عن كنوز سمّرت
عينيك فى الغيبِ العميق
(ص11-13)
ثم تنتقل الذات الشاعرة لتعكس تجربتها فى الغربة فى أوربا، فى "الشاطىء الغربىّ" ، ولا ترى إلاّ الدّمار والخراب والموت، "الرماد"، الذى يجلبه البشر " الطين" على أنفسهم :
قابعٌ فى مطرحى من ألفِ ألفٍ
قابعٌ فى ضفّة " الكنج " العريق
( ... )
وأرى ، ماذا أرى؟
موتاً ، رماداً وحريق ...!
نزلت فى الشاطىء الغربيّ
حدّق ترها ... أم لاتطيق ؟
(...) ذلك الغول الذى يُرغي
فيُرغى الطين محموماً ، وتَنحَمّ المواني
وإذا بالأرض حُبلى تتلوّى وتعاني
فورةً فى الطين من آنٍ لآنِ
فورةً كانت أثينا، ثم روما ...!
وهج حمّى حشرجت فى صدر فاني
خلّفت مطرحها بعض بثور ،
ورمادٍ من نفايات الزمان " .
(ص14–16)
يعكس هذا المقطع رؤية قائمة للحضارة الغربيّة توازي رؤية شاعر الأرض اليَباب" ت. س. إليوت لحضارته (8)، غير أن اليوت ينتقد الحضارة الغربية الحديثة التى أفرزت حربين كبيرتين نتج عنهما دمار شامل للإنجاز الحضارى الغربى واالإنسانيّ بأجمله . أما حاوي، فعلى الرغم من أنه ينتقد الحضارة العربيّة الحاضرة ويسمها بالكسل والاعتماد على الغيب عوضاً عن التجربة الانسانية المعاشة، إلا أنه ينتقد أيضاً الحضارة الأوربية القديمة المتمثلة فى الحضارتين الرومانية والإغريقية "روما" و"أثينا" اللتان لم تكونا غير "فورة فى الطين" خلفت الموت والرماد ، "رمادٌ من نفايات الزمان". وفى آخر مقطع من القصيدة يتبيّن للقارىْ أن البحار الباحث عن المعرفة هو الذات الشاعرة نفسها التى تبحث عن المعرفة فى أروبا الذى هالها ما أكتشفته فيها، وأدركت أنها فوق طاقتها. لذلك لا ترى فى البحث عن المعرفة، وطرح المزيد من الأسئلة ومحاولة الاجابة عليها، ولا فى الحياة كلها، إلا المزيد من الموت والهلاك الذى يتسبّب فيه البشر بأختلاف مشاربهم ومآربهم : طينٌ محمّى "وطينٌ مَوات" . لذلك تستسلم الذات الشاعرة استسلاماَ تاماَ، وتنتهى القصيدة برؤية عدميّة للذّات والعالم، شرقا وغربا :
أترى حُمّلت من صدق الرؤى مالا تطيق
خلنى ! ماتت بعينىّ
منارات الطريق
خلنى أمضى الى مالست أدرىِ
لن تغاوينى المواني النائيات
بعضها طينٌ محمّى
بعضها طينٌ موات
آه كم أحرقت فى الطين المحمّى
آه كم متُّ مع الطين الموات
لن تغاويني المواني النائيات،
خلّني للبحر للريح ، لموتٍ
ينشر الاكفان زرقاَ للغريق،
مبحرٌ ماتت بعينه مناراتُ الطريق
مات ذاك الضوء فى عينيه مات
لا البطولات تنجّيه ولاذلّ الصلاة.
(ص 18–19)
هذه رؤيا وجودية عدمية وليست رؤيا متفائلة تحلم بالانبعاث والتجدّد بعد الموت . وليس فى هذه القصيدة ما يشير الى أى أملٍ فى المستقبل المشرق الزاهي . وتشمل هذه الرؤية القاتمة الحضارتين، الحضارة العربية والأوربية، وليس الحضارة العربية فقط.
نشرت هذه القصيدة في أول ديوان للشاعر، ولكن لم ينتبه الى أنّها تناقض تلك القراءة التعميمية السائدة لشعر خليل حاوي الا تلميذة الشاعر السابقة ريتا عوض مرة أخرى. تقول:
"في قصيدة "البحار والدرويش"...كان خليل حاوي يعاني الموت الحضاري
في الشرق والغرب: لم ير غير طين ميت هنا، وطين حار هناك، طين بطين."
( ريتا عوض، "أسطورة الموت والانبعاث"، ص96.)
أنّ في هذه القصيدة رؤية وجودية قاتمةن ويأس من البحث عن المعرفة، وهذا قلب لهاجس السندباد، ودعوة لاحتضان الموت الأبديّ، والغرق المُهلك الذي لا يُنجي منه حبّ المغامرة، رمز الغرب، ولا الدين، رمز الشرق.
أما قصيدة "الكهف" في ديوان بيادر الجوع، فقد اختلفت تفسيراتها. فمن النقاد من يرى أنها تنحو نفس منحى قصائد موت الحضارة العربية وبعثها. يفسر مطاع الصفدي القصيدة بوصفها حلقة في تطور إحساس حاوي بالإنحطاط الإجتماعي والثقافي للحضارة العربية الحديثة. ويرى الصفدي إنّ في القصيدة إعادة لموضوع العبثيّة والذي يرى تعبيرا آخر عنها في قصيدة "السندباد في رحلته الثامنة" (مطاع الصفدي،1965،" بيادر الجوع: عن المعاناة والمسؤولية." بينما يقرأ محمد مصطفى بدوي القصيدة على أنها تعبير عن "الانتظار دون جدوى، والذي يشارف حدود اليأس."(8)
(M.M.Badawi, 1975, A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry, p.249).
أما ريتا عوض، فترى أن القصيدة تعبير "عن مأساة العقم والفراغ، والعجز عن تغيير الواقع الذي تحجّر فيه الزمن واستحالت الدقائق فيه الى عصور." (ريتا عوض،" أسطورة الموت والإنبعاث"، ص 101). وأخيرا يرى ناقد رابع، وهو مايكل بيرد، إنّ قصيدة الكهف هي "قصيدة عن الإلهام (الشعري) بمفهومه الكوني...مع افتراض أن الإلهام يسبق القصيدة كعمل إبداعي."(9)
(Michael Beard, in Adnan Haydar and Michael Beard, 1984, Naked in Exile, pp. 38-39).
والرأي عندي إنّ قصيدة "الكهف" ليست قصيدة عن موت الحضارة العربية الحديثة، وإنما هي قصيدة وجوديّة تعبّر عن إحساس الشاعر بالإغتراب الوجوديّ الذي عاناه في تجربته كطالبِ علمٍ عربيٍّ في أوربّا. وهناك قصائد وجوديّة أخرى لحاوي شبيهه بهذه مثل: "السجين" و"المجوس في أوربّا" في ديوان نهر الرماد؛ و"عند البصّارة" و"الناي والريح في صومعة كيمبردج" في ديوان الناي والريح.
هكذا نرى انه حتى في دواوين حاوي الثلاثة الأولى، التي يمكن أن نطلق عليها، مجتمعة، المرحلة الأولى، والتي نتج عنها ذلك التشكيل الخطابي النقدي السائد الذي ذكرنه أعلاه، هناك قصائد رئيسيّة لا تتحدث عن إنبعاث الحضارة العربية بعد موتها. بل العكس، تعبر هذه القصائد عن رؤية قاتمة وسدوميّة لهذه الحضارة على أنها في حالة موت مستديم. إضافة الى ذلك، نجد قصائد رئيسية تتناول مواضيع أخرى كثيرة كالوجودية، والحب، والحنين الى الوطن ("حب وجلجلة" في نهر الرماد) على سبيل المثال لا الحصر. ويحقّ لنا القول الآن بأنّ في الخطاب النقديّ السائد تجنٍّ على شعر حاوي واختزالٌ وتبسيطٌ له، إذ أنّه شعر غني بالمواضيع والرموز الأخرى.
أما في المرحلة الثانية من تطور شعر حاوي، والتي تشمل الديوانين الأخيرين: ا لرعد الجريح ومن جحيم الكوميديا، الصادران في نفس العام، 1979، فنجد أن رؤية الشاعرالقاتمة للحضارة العربية التي تخلّلت بعض قصائد المرحلة الأولى، وطغت على قصائد بأكملها في تلك المرحلة، قد سيطرت على جميع قصائد هذه المرحلة (ما عدا واحدة، وهي قصيدة "الرّعد الجريح" في الديوان الذي يحمل نفس العنوان)، وغاب فيها التذبذب في الرؤية، وأصبحت الرؤية قاتمة وسوداوية للغاية. فقد اختفت تلك النبرة التفاؤلية المترعة بالآمال وبصور المستقبل المشرق الواعد، وحلّت محلها نبرة حزينة يائسة مستسلمة تعبر عن فقدان الأمل في تغيير الحاضر الى مستقبلٍ مشرقٍ وغدٍ أفضل. نأخذ مثالا لذلك قصيدة "ضباب وبروق". تَشُكُّ الذات الشاعرة في رؤيتها القديمة المتفائلة للثقافة/الحضارة العربية، وترى قدوم نهاية العالم الوشيك في إشارة شفافة لأحدى علامات الساعة الكبرى في الإسلام، شروق الشمس من الغرب:
أترى هل كان ما عاينته يوماً
سوى صبح غريب
شمسه تطلع من صوب المغيب
(الرعد الجريح، ص26)
ثم ترى رؤيا مغايرة تماما، هي الرؤيا المتشائمة الجديدة: ترى سقوط الفارس العربي، رمز المستقبل الواعد، في ما يشبه الجحيم:
وأرى الفارس يهوي ويغيب
وأرى البومة تهوي وتغيب
بين شطّين من الموج العباب
وأرى عبر الغياب
شبحاً يبحر في البحران
يُغويه السراب
تلتقيه في ضباب التبغِ
أشباحٌ يغشّيها الضّباب
(ص33-34)
الخلاصة:
خلاصة القول، أنّ الخطاب النقدي السائد الذي يصف خليل حاوي بأنه شاعر الإنبعاث والتجّدد، لأنه يرى أن الحضارة/الثقافة العربيّة الحاضرة جامدة ومتكلّسة وميتة، ويدعو إلى تجديدها، فيه خللان أساسيّان: أولهما، أنّ هذا الخطاب ناتج عن قراءة جزئية لشعر حاوي لا تشمل جميع شعره، وأنه قراءة اختزالية فيها تبسيط لشعر شاعر كبير متعدّد المواضيع، عميق المعاني. وثانيهما، أنه حتى في كثير من القصائد التى توصف بأنها قصائد البعث والتجدد، نجد فيها ظاهرتين: إما أنها تخلط الانبعاث المرتجى، بالموت ثانية، فتتناقض وتربك القارىء، وإما أن تكون قاتمة ترى التحجّرفي الحاضر، ولا ترى أملاً في انبعاث في المستقبل، بل موتاً مستديماً. ومعدودة هي القصائد "الصافية الإيجابيّة" التي تتحدث عن تفسّخ الحاضر والحلم بالبعث في المستقبل برؤية واضحة. والنتيجة، أنّ في كل هذه القصائد ضبابيّة في الرؤية، إذ لا يُشخّص لنا الشاعر العيوب التي تتسبب في تجمّد الحاضر العربي وتكلّسه، ولا السمات الجديدة التي يحلُم بتوفرها في الحضارة العربية بعد الإنبعاث. لذلك، ومن منظوري النقدي الذي أسِمُه بالثقافويّة، أصنّف شعرية خليل حاوي التي تتناول موضوع الحضارة/الثقافة العربية الحديثة في هذه القصائد في خانة "الشعرية الثقافويّة الهلاميّة".
ألهوامش:
*
قدّم هذا البحث للمؤتمر الثاني للمجلس الدولي للغة العربية الذي عقد في دبي في الفترة من 7 إلى 10 مايو، 2013م، الموافق 27-30 جمادى الآخر، 1434هجرية، ونشر في كتاب المؤتمر. ولصعوبة الحصول على ذلك الكتاب قررت نشره لكي تعم الفائدة، ويفتح باب الحوار.
1
تختلف "الشعرية الثقافوية" عن نظرية "التاريخانيّة الجديدة" التي افترعها الناقد الأمريكي ستيفن جرينبلات في أنّ الأولى تدرس النصوص الشعرية التي تتمحور رؤيتها حول الثقافة التي تنتمي إليها، أما الثانية فتقرأ النصوص الأدبية على ضوء السياق الثقافي والتاريخي الذي انتجها، وتقرأ النص الأدبي كجزء من تبادل ثقافي في المجتمع يشكّل المجتمع فيه نفسه. فالأولى تنطلق من النصّ إلى الثقافة والثانية تنطلق من الثقافة إلى النصّ. للإستزادة عن "التاريخانيّة الجديدة" راجع:
Veeser, H. Aram, ed, 1989, The New Historicism.
2
راجع، مثلا، غالي شكري،1978، شعرنا الحديث إلى أين؟، ط2، ص72-73، ويمنى العيد، 2008، في القول الشعري، ص421-424، والمقالات التي ضُمِّنت في نهاية ديوان الناي والريح، ط1 (1961) لعفاف بيضون، وسلمى الخضراء الجيّوسي، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأميل معلوف، ص 113-168. وإحسان عباس، 1978 اتجاهات الشعر العربي المعاصر. وبالإنجليزية راجع مثلا:
M. M. Badawi, 1975, A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry, P.249.
3
للتفصيل في شعرية أدونيس الثقافوية النقدية، راجع:
Teirab AshShareef, 1988, "The Metamorphic Vision: The Poetics of Time and History in the Work of Adunis (‘Ali Ahmad Sa'ieed)"
4
لمعرفة المزيد عن قصيدة العودةإالى سّنار، و "جماعة الغابة والصحراء"، راجع:
Teirab AshShareef, (1989), "The Jungle and the Desert: The Search for
Cultural Identity in Muhammad ‘Abd-al-Hayy's Homecoming to
Sinnar."
5
للتوسع في معرفة تفسير سامي مهدي للثقافة العراقية، راجع:
"Sami Mahdi's Interpretive Culturalist Poetics." Paper Presented at the
43rd Annual Meeting of the Middle East Studies Association of
North America, Boston, November 21-24, 2009.
6
راجع: محمد غنيمي هلال، 1973، الرومانتيكية.
7
ريتا عوض طالبة سابقة للشاعر خليل حاوى فى الجامعة الامريكية فى بيروت ،وقد أشرف هو على رسالتها للماجستير والتى كانت بعنوان" أسطورة الموت والإنبعاث فى الشعر العربى الحديث" (1974)، والتى نشرت فيما بعد فى عام 1979 فى كتاب بنفس العنوان . وهناك دراسة فيها لشعر خليل حاوى فى دواوينه الثلاثة الأولى : نهر الرماد ( 7591 )، والناى والريح ( 1961 ) وبيادر الجوع ( 1965 ). وهى من أوائل النقاد الذين أصّلوا لهذا الخطاب النقدىّ السائد عن شعر حاوى فى أنه شعر ينصبّ همّه الأوّل على موضوع موت الحضارة العربية المعاصرة والحلم بأنبعاثها وتجديدها، برغم أنها انتبهت للتناقض في تناول هذا الموضوع، ولكنها لم تسبر غوره.
8
الترجمة من صنعي.
9
الترجمة من صنعي.
ثَبت المراجع
1-مراجع باللّغة العربيّة:
أدونيس (علي أحمد سعيد)، المسرح والمرايا، بيروت: دار الآداب، 1968.
__________ ، الثابت والمتحول، ج1-3، ط7، بيروت: دار الساقي، 1994.
__________، الكتاب، ج1، بيروت: دار الساقي، 1995.
__________ ، الكتاب، ج2، بيروت: دار الساقي، 1998.
__________ ،الكتاب، ج3، بيروت: دار الساقي، 2002.
حاوي، خليل، نهر الرماد. بيروت: دار العودة، ط2،1972.
__________، ا لناي والريح، بيروت، دار الطليعة، 1961.
__________، بيادر الجوع، بيروت: دار الآداب، 1965.
__________، الرعد الجريح، بيروت: دار العودة، 1979.
__________، من جحيم الكوميديا، بيروت: دار العودة، 1979.
حاوي، إيليّا، مع خليل حاوي في سيرة حياته شعره: بيروت: دار الثقافة، 1986.
رزّوق، أسعد، الأسطورة في الشعر المعاصر: الشعراء التمّوزيّون، بيروت: منشورات مجلة آفاق،
1959.
شكري، غالي، شعرنا الحديث الى أين؟بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط2، 1978.
الصفدي، مطاع، "بيادر الجوع: عن المعاناة والمسؤولية"، الآداب، مج 13، العدد 7 (يوليو 1965)،
ص8-10؛ 60-66.
عبّاس، احسان، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني
للثقافة والفنون والآداب، 1978.
عبد الحي، محمد، العودة الى سنّار، الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر، 1972.
عوض، ريتا، "أسطورة الموت والإنبعاث في الشعر العربي الحديث"، رسالة ماجستير، الجا معة
الأمريكية في بيروت، 1974.
__________ ، أدبنا الحديث بين الرؤيا والتعبير، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979.
العيد، يمنى، في القول الشعري-الشعريّة والمرجعيّة-الحداثة والقناع، بيروت: دار الفارابي، 2008 .
مهدي، سامي، لاقمر بعد هذا المساء، رام الله: بيت الشعر: 2008.
__________ ، أبناء ايننّا، عمّان: دار أزمنة، 2008.
هلال، محمد غنيمي، الرومانتيكيّة، بيروت: دار العودة، 1973.
2- مراجع باللغات الأجنبيّة:
AshShareef, Teirab, "The Metamorphic Vision: The Poetics of Time and
History in the Work of Adunis (‘Ali Ahmad Sa'ieed)," Ph.D. Disserta- tion, Indiana University, Bloomington, 1988.
__________, "The Jungle and the Desert: The Search for Cultural Identity in Muhammad ‘Abd-al-Hayy's "The Homecoming to Sinnar," in Malti-Douglas, Fedwa, ed. Critical Pilgrimages: Studies in the Arabic Literary Tradition, Literature East and West, Vol. 25 (1989), 89-103.
__________, "The Poetics of Cultural Pluralism: The Construction of Cul-
tural Identity in Contemporary Sudanese Poetry." Paper Presented at
the 27th Annual Meeting of the Middle East Studies Association of
North America, Research Triangle Park, North Carolina, November
11-14, 1993.
__________, "Sami Mahdi's Interpretive Cuturalist Poetics," Paper Pre-
sented at the 43rd Annual Meeting of the Middle East Studies
Association of North America, Boston, November 21-24, 2009.
Badawi, M. M. A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry. Cambridge:
Cambridge University Press, 1975.
Fish Stanley, Is there a Text in this Class? The Authority of Interpretive
Communities. Cambridge, Mass. : Harvard University Press, 1980.
Foucault, Michel, The Archaeology of Knowledge, Trans. A. M. Sheridan,
New York: Pantheon Books, 1972.
Haydar, Adnan and Beard, Michael, Naked in Exile: Khalil Hawi's The
Threshing Floors of Hunger: Washington, D.C.: Three Continents
Press, 1984.
Jayyusi, Salma Khadra, Trends and Movements in Modern Arabic Poetry.
Leiden: E. J. Brill, 1977.
Khouri, Mounah, Studies in Contemporary Arabic Poetry and Criticism.
Piedmont, California: Jahan Book, 1987.
Saba, Ruba, "La Mort et la resurrection de la civilization arabe. Essai
d''etude cririque sur l'oeuvre de trois poetes arabes moderns:
la mythologie et les symbols". (Ph.D. Dissertation, the Sorbonne,
Paris, 1973.
Veeser, H. Aram, ed. The New Historicism. New York: Routledge, 1989.
Teirab Ashshareef [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.