وجدت نفسي منذ فترة ليست بالقصيرة أتأمل بإعجاب النجاح الذي ظلت تحققه أثيوبيا في مختلف المجالات. وتشهد بلاد الحبشة منذ سنوات نوع من الاستقرار السياسي يندر نظيره في إفريقيا، كما أن تجربتهم الديمقراطية الأولى تمضي بخطى ثابتة. ويقيني أن تجربة الحكم التعددي التي انطلقت بعد سقوط نظام منغستو في عام 1994، ستترسخ وتثبت أقدامها. أنها بمقاييسنا عاشت حتى الآن فترة أطول من كل العهود الديمقراطية "مجتمعة" في السودان. ولم نسمع بالجيش ينتقد ضعفها ويتوعدها بالزوال، ولا بأحزاب معارضة أو برلمان يتجاوزن أصول اللعب بالصورة التي من شأنها أن تئد الحياة الديمقراطية الوليدة. ومع هذا الاستقرار السياسي، يبدو أن حكومتهم طبقت إصلاحات عديدة نجحت من خلالها في اجتذاب الاستثمار الأجنبي والمحلي، وفي تحقيق نمو اقتصادي سريع أشادت به منظمات التنمية الدولية. كما أصبح لأديس أبابا دور عسكري إقليمي في حفظ السلام معترف به على النطاق الإفريقي والأممي، ويشهد عليه التدخل الأخير لجيشها في الصومال وأنتشاره في باحتنا الخلفية في "أبيي". ومع هذه النجاحات المشار إليها، هناك انجازات رياضية تستلزم الإطراء. فقد حملت إلينا وسائل الإعلام يوم أمس خبر نتيجة قرعة التصفيات النهائية في إفريقيا لبطولة كأس العالم 2014 في البرازيل. ولا بد أن الكثيرين دهشوا مثلي لوجود الفريق الإثيوبي ضمن العشرة الكبار في كرة القدم الإفريقية. الحبشة التي قد نميل في السودان لاستصغار شأنها الرياضي، أصبحت على بعد مواجهة واحدة من صنع التاريخ وحمل لواء إفريقيا في المحفل الرياضي العالمي. وأتمنى من أعماق قلبي أن يتمكن الفريق الإثيوبي من حجز مقعده ضمن المتأهلين لكأس العالم في البرازيل، ولم لا وهم أهل حضارة عريقة، وجديرون بتمثيل القارة كون بلادهم، على الأقل، تستضيف مقر رئاسة الاتحاد الإفريقي. لقد دفعني التأمل أعلاه إلى التفكير في أن مثل هذا النجاح المتعدد الأوجه وخلال فترة وجيزة من الزمن، لم يكن ليحدث هكذا ضربة حظ. لا بد وأن تكون وراءه حكومة رشيدة، وسياسات أكثر رشدا، وفوق ذلك، سياسيون ومسؤولون على درجة عالية من الكفاءة، والوعي والاخلاص الوطني مما دفعهم لوضع مصلحة بلدهم في إطارها الصحيح. وتأكد لي بأن أبناء الحبشة، لم يعودوا أولئك الحفنة من المهاجرين الذين تكالبت عليهم صروف الدهر ودفعتهم إلى التشتت في أرض الله الواسعة. وبكثافة واضحة عندنا هنا في السودان، رغم ضعف جاذبية بلادنا للمهاجرين. لابد أن حكومتهم استعانت بشيخ صوفي واصل، أعطاهم الطريقة، ومن سار على الدرب وصل. ودفعني التأمل والتفكير إلى الإقرار بأن الحوكمة في أثيوبيا تتفوق على نظام الحكم عندنا في مناح شتى، وإن كنا نستصغر شأن الأحباش من واقع المهن الهامشية التي يشتغلون بها في السودان. لكن ماذا عساهم أن يفعلوا في بلد يعاني جل مواطنيها من التهميش، وانعدام فرص التوظيف. وأوجه تفوق الحكم الإثيوبي عديدة. ومن الواضح للمتابعين أن مسيرة التنمية عندهم تسير قدما إلى الأمام، وينمو اقتصادهم، ويضطلع حكامهم بمسؤولياتهم في خفض الفقر، ومعالجة مشكلات الجهل، والمرض، والحروب الأهلية. لكن العكس تماما يحدث عندنا. لا تنمية ولا نمو اقتصادي يستحق التنويه، بل تردي مخيف في مختلف ضروب الحياة. ومع هذا، ينشط أهل الحكم عندنا في زيادة واقع الفقر على الفقراء، وبدأوا يتحدثون هذه الأيام عن رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، وكأن كارثة السيول والأمطار الأخيرة لم تكن كافية لزعزعة كيان الفقراء. لقد بدأت الحكومة الإثيوبية خطوات جادة في التنمية وعكفت على تشييد "سد النهضة" أو "سد الألفية" في زمن عز فيه الأسمنتي (الياء هنا مقصودة)، لتوفير مياه الري وتوطين الكهرباء. وحتى إذا سلمنا جدلا بمنطق مؤيدو نظام الحكم عندنا بأن "الردود تكون بالسدود" على المجتمع الغربي، الذي يعادي الشعوب من دون الحكومات ولا يتمنى أن يراها تحقق انجازات تنمية حقيقية، نجد أن الأحباش متفوقون في هذه الجزئية. لأن في "سد النهضة" ردا ابلغ وأشد تأثيرا من "سد مروي". حتى مصر، مع وزنها الإقليمي والدولي الكبير، وتاريخها "السدودي" الحافل الذي يزينه سدها العالي، اعترض سياسيوها واحدثوا صخبا بسبب سد النهضة، لكن "الجمل" الإثيوبي ماض في سيره. بالله كيف يكون "الرد بالسد" أبلغ من هذا. ويتفوق الحكم الأثيوبي على أنظمة الحكم السودانية حتى في أسبقية الموافقة على "حق تقرير المصير"، إن كان حق تقرير المصير من الأمور التي تستحق الاحتفاء بها أصلا. لقد وافقوا منذ وقت مبكر على انفصال اريتريا، وقبل تقرير المصير لجنوب السودان بزهاء العشرين عاما. ولا بد أن النظرة الواقعية وإلحاح الحاجة إلى التنمية جعلتاهم يقدمون على شرب الدواء المر، ونبذ الحرب العبثية لأن الاستقرار وارساء دعائم التنمية الاقتصادية مقدمان عند حكمائهم على الوحدة الوطنية التي لا تحظى بإجماع اهل البلاد. إني أغبط الأحباش حتى في تاريخ أول أتصال لهم بالإسلام. وتحفظ لنا كتب السيرة النبوية، أن الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أصحابه إلى الخروج إلى هناك بعد أن اشتد عليهم العذاب من قبل المشركين. وكان من بين من هاجروا نفرا من خيار الصحابة، جعفر بن أبي طالب، وعثمان بن عفان وزوجه رقية بنت محمد، وعثمان بن مظعون، رضوان الله عليهم أجمعين. كان ذلك قبل الهجرة النبوية إلى يثرب بزهاء ثمانية سنوات. أما نحن، فقصة إتصالنا الأول بالإسلام، تحفظها لنا كتب التاريخ المدون بفتح بلاد النوبة بواسطة عبد الله بن أبي السرح في عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وتوقيع "اتفاقية البقط". كان ذلك في عام 31 هجرية أي بعد ما يقارب أربعين سنة من هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة. وعلى ذكر سيرة عبد الله بن أبي السرح، تقول كتب السيرة أنه كان مسلما ثم ارتد ثم عاد إلى حظيرة إلإسلام، وحسن إسلامه فيما بعد إلى أن توفاه الله في عام 37 هجرية. وفي قصة ارتداده عن الإسلام تتعدد الروايات. والثابت في التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد ائتمنه وأوكل إليه مهمة كتابة الوحي مع آخرين، لكنه حدث منه جرم كبير جدا، وارتد عن الإسلام وهرب سرا إلى مكة معلنا عودته إلى ديانة العرب وبدأ يوجه سهامه إلى الإسلام ونبي الإسلام. ويوم فتح مكة اهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأمر أصحابه أن يقتلوه ضمن أربعة رجال وإمرأتين، حتى وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة. وقد أجاره أخوه في الرضاعة، عثمان بن عفان، رضي الله عنه فصفح عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أعرض المعصوم عن مصافحته ثلاث مرات، وعاتب فيما بعد أصحابه لأن أحدا منهم لم يستل سيفه ويضرب عنق إبن أبي السرح، بعد أن أعرض صلى الله عليه وسلم عن مصافحته، مما يعني بأن جرمه كان كبيرا للغاية ومن النوع الذي لا يمكن الصفح عنه. مغزى ذكر هذه القصة ليس الدفع إلى التظني في سيرة الصحابي عبد الله بن أبي السرح- رضي الله عنه، والذي عاد تائبا إلى حظيرة الإسلام ومنّ الله عليه بقيادة فتوحات عظيمة وانتشر الإسلام على يديه، كلا ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن مكانة النجاشي أسمى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مكانة عبد الله بن أبي السرح. وتقول كتب السيرة بأن النجاشي أسلم سرا، وأنه عندما مات، نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وصلى عليه صلاة الغائب. وقد تكون هذه المقارنة خارج السياق تماما لأن الأول كان ملكا، بينما الثاني من عامة الناس لا يستطيع تقديم الكثير لنصرة الضعفاء. والشاهد في الأمر أن الأحباش تاريخ اتصالهم الأول بالإسلام أنصع من تاريخنا إذا جاز لنا استخدام مكانة مليكهم وفاتح بلادنا مقياسا للتقييم. ولا أظن أن أحدا كان سيستكثر على مسلميهم ريادة شأن الإسلام في إفريقيا إن سعت حكومتهم إلى ذلك. وإني لأعجب كيف لحكومتنا ان تملأ الدنيا ضجيجا بإسم الإسلام في السودان وفي إفريقيا، ونحن أدنى منزلة في معانقة رسالة خاتم النبيين من جيراننا الأدنون، وإلا أن يكون النجاشي والمسلمين الأوائل في الحبشة من عندنا، وما أسهل السلبطة في التاريخ القديم. Ali A. Elhadi ([email protected])