Abdul Jabbar Dosa [[email protected]] مع إدراكنا جميعاً أنه لا حياة بدون ماء، تتزايد حيرتنا في وطننا مع الكيفية التي تتعامل بها أجهزة الدولة في حالتي الفيضان والإنحسار، ونتائج ذلك التعامل في معالجة الأزمات التي هي في الأصل نتاج لسوء التخطيط ووبال التدبير، وحيث يتّخذ الفيضان والإنحسار مشاهد عديدة، فالحال يقتضي أن نتعامل مع جملة هذه المشاهد من منظور شمول وانتقاء، على سبيل المثال فالفيضان يأتي من جراء هطول أمطار غزيره سواء في منطقة الفيضان أو في مكان آخر ويجد الماء طريقه في الإنسياب نحو المنطقة المتأثرة بالفيضان نتاجاً لطبيعة الأرض المنبسطة التي ليس بها من متاريس طبيعية ولا اصطناعية تحبس تدفق الماء، وقد يكون الفيضان نتاجاً لنهر أو وادي يشق المنطقة متاثراً بتلك الأمطار الهاطلة في منطقة الفيضان أو في منابع النهر والوادي، والأمر في عدم وجود محابس طبيعية أو اصطناعية هي الأخرى دواعي جموح النهر بغمر ضفتيه على قدر انبساط الأرض وغزارة المياه. ولا يختلف الإنحسار عن مضمون تأثير النتائج السلبية سِوىَ أنه الوجه المعاكس للفيضان، بيد أن الإنحسار أخف وطأة لأنه لم يبلغ حد الإنقطاع. هذه الحالة التي وصفناها باقتضاب تعبيراً ومعنىً ليس سوى المدخل لما هو أكثر إلحاحاً في الحديث عنه، لأنه الأكثر مساساً ببيت الداء، فالحالة المشار إليها باقتضاب في الفقرة السابقة قد تبدو أكثر اتساقاً ومذاقاً وهضماً إذا اقترن مع وصف لحالة في ريف أو بادية أو قرية أو هِجرة أو فريق أو دامرة، لما لساكني هذه المترادفات المكانية من قدرات لوجستية محدودة بقدر محدودية المجتمع ومقتنياته في مواجهة ظروف بيئية وكارثية مماثلة. لكننا اليوم نتحدث عن حالة من حالات الهزائم الذاتية المتكررة لشعبنا في ميادين التمدّن والتحضّر، في عصر الإنتصارات المتلاحقة للشعوب الأخرى على ذات الميادين. من شاهد النيل في مدينة القاهرة يجد أنه منضبط ويمضي في انسياب لا يخاف منه القاطنون، بل أنك لتشهد المنازل وقد شيّدت متاخمة لحافة شاطئه دون أن يرتقي البنيان أكثر من بضع سنتمترات عن منسوبه المضبوط والمحكوم بقدر، ولعلنا نذكر أن والي مصر عمرو بن العاص كان قد أمر بشقّ خليج يربط بين الفسطاط والقلزم، وهو شأن من شئون ضبط انسياب النيل والتحكّم فيه قبل أكثر من ألف عام. أمر التحكم في مجاري ومصارف المياه الطبيعية ليس علماً خفياً، ولكن بلوتنا تكمن في القرارات الفوقية التي تقيّد قدرات المتخصصين من الإنطلاق في التخطيط الشامل المتكامل، وتعزيز قدرات أؤلئك المتخصصين من خلال إخضاعهم للدورات التأهيلية والتدريبية، ولكن يجب أن يُدرك الجميع أنه لا فائدة من أن يكتظ مجتمعنا بالمتخصصين بينما تقيّدهم السلطات العليا ثم تأتي فتلومهم عند المحن، هذا يذكّرني بما فعله المشير ورئيس الجمهورية الأسبق الراحل نميري، عندما زار محطة كهرباء في الخرطوم على خلفية تكرار قطوعات الكهرباء آنذاك، واشتد الجدال بينه وبين مهندس المحطة فلطم النميري مهندس المحطة كفّاً، الذي رد اللطمة للنميري بدوره وانتهى به المقام إلى أيدي الجلادين، ولم يكن الفعل ورده سوىَ تعبير واقعي لحالة الهزال الأخلاقي والفكري والمعنوي التي عربدت في غياب النظم التي تنظّم العلاقة الإنسانية بين الراعي والرعية، قبل أن تنظم العلاقة الوظيفية الرأسية والافقية، حيث لا تُعالج الأمور كذلك، ولكن نعود فنقول أنها نتاج لحالة من حالات الخلط بين المقاعد والقاعدين عليها. في مدينة (مانشستر) البريطانية على سبيل المثال، وخلال 365 يوماً هي أيام السنة، تجد أن الأمطار تهطل في ما لا يقل عن 320 يوماً منها، تأملوا أنه رغم كل ذلك فالحياة تسير وكأنها مسطرة، فلا تجد بِركة ماء غير البِرك الإصطناعية المصممة لحفظ المياه لأغراض محددة، ولا تتوقف حركة المرور ولا تغرق الشوارع. وبينما الماء يهطل، يجد المارة طريقهم دون أن تبتل ارجلهم، وتجد السيارات طريقها بسلاسة، وتجد المياه طريقها وتنساب عبر مصارفها. تخيّلوا الخرطوم والأمطار تهطل 300 يوم في السنه، لا أعتقد بأن مخائلكم ومخائلنا قادرة على تخيّل ذلك فلا نُرهقن أنفسنا فوق ما هي عليها. قبل أقل من شهر كانت كل جوارحنا السلطوية تجأر بالشكوى لجور الأمطار التي هطلت بغير ما تشتهي الأنفس الهزيلة، وأعني بالأنفس الهزيلة، تلك القابضة على السلطة والعاجزة عن التحسّب لنوائب الأيام، والتخطيط لدرء الكوارث بالوقاية قبل أن يقع المقدور على الأنام، فتلاطمت خدودهم وعلا صراخهم لما اصاب الخرطوم من جراء سيطرة الأمطار على الأوضاع بعد أن هيأوا لها هذه السيطرة من خلال سوء التخطيط وعبث التنفيذ، فتضرر مئات الآلاف من السكان، وفقدت البلاد أرواحاً عزيزة وبريئة تراصت بدورها إلى رصيدنا المكبوس بالأرواح البريئة المفقودة في طول البلاد وعرضها، ولما كانت المفاجأة عصيبة على القابضين على السلطة وقد تركوا أمر البلاد كلها للصدفة، فلم يكن غريباً لتلك المبررات الواهية أن تنال حظها الوافر من سخرية الصغار قبل الكبار، فقد فعلت الأمطار ما فعلت من هدم لأحياء بكاملها وتوليد للناموس وخلط بين مياه الشرب ومياه المراحيض، وبؤر للتلوث البيئ، وجرف للمزروعات، ومضت مخلّفة من الكوارث ما تنوء عن ثقلها محامل الجبال، ولم نسمع عن مسئول أدمعته الحمية فتقدم معترفاً بمسئوليته، بل حتى بمجرد مشاركته مع آخرين في المسئولية، وطلب أن يترجّل، الكل متشبّث بالبحث عن تبريرات تبريء من هو ارفع درجة منه ضماناً لبقائه. هكذا يجد الشعب نفسه في مأزق بين الخيارات والبدائل ولعلّي أظلمه إذا قلت أنه جَبُل علىَ الصمت ولا يقوىَ على أكثر من ذلك. هذه الأيام بدأنا نسمع نفس الأصوات لنفس المسئولين وبعد أقل من ثلاثة أسابيع من الجأر بالأمطار والفيضان، بدأنا نسمع عن كارثة سببها إنحسار النيل المفاجيء وبالتالي قلة مياه الشرب وما إلى ذلك من ترديد لعبارات العجز المتكررة، تأملوا هذا الوطن المنكوب، وطن المفاجآت، فيضان قبل ثلاثة اسابيع كان مفاجئاً، وفي نفس منطقة ذلك الفيضان، عطش بعد ثلاثة اسابيع نتيجة لانحسار مفاجيء، رغم أن النيل يجري ولم يكل، ولم يمل حتى وإن انحسر بضع أمتار فهو لم يأت بجديد أو منكر، إنه لم يتغير، كل الأنهار في الدنيا لها مواسم فيضان وانحسار، ولكن من العجز أن نُلقي بعجزنا علىَ طبيعة النيل الذي لم يمنعنا من أن نستفيد بمائه شرباً أو استزراعاً حتى في أوجّ انحساره، لمئات السنين الناس على ضفتيه ينتظرون انحساره ليزرعوا في جروفه. يقولون أن النيل قد انحسر انحسار مفاجيء، إنه لعذر أقبح من الذنب، لماذا شنّفوا أسماعنا على مر السنين بأن هناك أجهزة قياسات على طول النيل تضبط أنفاسه صعوداً ونزولاً، وتقيس كل نسمه فيه، لدينا من السدود ما هي أقوىَ من كل رد لكنها عجزت عن أن ترد، ومع ذلك وبدون أدنىَ خجل يُقال أن المبرر هو أن النيل قد إنحسر فجأة وترك الناس وكأنهم ضر في حر بلا ماء للشرب. الآن اصبحت لدينا قواميس خاصة بنا في علوم التبرير، الفيضان زاد الطمي فأوقف التوربينات، والفيضان غمر الطرقات فعطّل الحركة والسيارات، ومصادر الإرصاد تشير إلى مزيد من الأمطار قد تهطل، ثم إنحسار النيل المفاجيء ترك مواسير السحب في السهلة، وأخيراً الوضع كله تحت تحت السيطرة، هذا الذي نتحدث عنه ليس في حلفا ولا في نمولي ولا في الجنينه ولا حلايب، هذا يا إخوتي في الخرطوم عاصمة البلاد فكيف بنا في الأقاليم، ومع ذلك هو رصيد نقدّمه ونقول من ورائه انحنا عاوزين نحتكم للشعب، وصناديق الإقتراع هي الفيصل. لله في خلقه شئون. ما هي فائدة أن نكون أول دوله افريقيه جنوب الصحراء نالت استقلالها، وأن ذلك الإستقلال قد احتفلنا بيوبيله الذهبي قبل ثلاثة أعوام باعتبار مرور خمسون عاماً منه، وما مردود أن نتفاخر بأن لنا جامعة عمرها أكثر من مائة عام، وأن الذين تخرجوا من جامعاتنا اليوم هم بمئات الآلاف. لكن دعونا لا نُلقي باللائمة على الغالب من هؤلاء، فنحن ندرك ما يمكن أن يفعلوه إذا توفرت لهم الظروف الموضوعية، لكن أيديهم مُقيّدة، وعلمهم محبوس، وخبراتهم تم تعطيلها، وحماسهم وئد، فثمة هرم متدرج للمسئوليات، فهناك من هم على قمة أعلى من هرم المسئولية، ماذا فعل من هم أسّ المسئولية في التخطيط ومن يناط بهم اتخاذ القرار في المستويات الدستورية، اين كل ذلك من ميزان أداء الواجب، ومن معايير فرائض التحفيز والمحاسبة، بل اين كل ذلك من وخزات الضمير وجلد الذات وثقافة الإعتراف بالذنب والتنحي عند العجز لمن هو أقدر، لا تُعلّم الجامعات كل هذا ولكن تكتسبها الشعوب من إرثها وتقاليدها، وعقائدها واعرافها وممارساتها وتجاربها، وتعززها وتطورها بتفاعلها وتمازجها مع تجارب الآخرين والإستفادة من عِبر المُعتبرين، وتقنّنها وتضبط إيقاعاتها بالقوانين. على اصحاب القرار الدستوري في بلادنا أن يطلقوا سراح المتخصصين حتى يؤدوا دورهم كاملاً في التخطيط والتنفيذ كما يفعل عباد الله في بلاد الله الواسعة، فإن كانوا غير قادرين أن يمنحوهم هذا الحق، عليهم أن يترجّلوا من مواقع القرار، إنها دعوة أُلقيها رغم علمي بغياب القوانين الرادعة والتطبيقات الدستورية المنشّطة لمحاسبة اصحاب القرار وبُعد حلم الشعب بوجود ما يُسمّىَ بالشهامة والإعتراف بالذنب فضيلة والهامشية والجعلية والغيرة وغيرها من العبارات التي اصبحت أخوىَ من فؤاد أم موسىَ. أدرك بأنه لا أحد سيلتقط الدعوة، ولكنها دعوة سيبقىَ رنينها دائماً حتى يستجيب مَن ينبغي أن يستجيبوا. 23/9/2009