بعد تلكوء ومحاولات للهروب من المحتوم , وما سمى برفض البرلمان تارة, ومناقشة القوى السياسية تارة اخرى, حول استيجاد دعم " لرفع الدعم", فشل النظام فى ايجاد مخرج اخر من مازقه الاقتصادى الكارثى, سوى برفع الدعم عن الوقود والقمح. ومع انكشاف اخر غطاء كان يحاول النظام ان يتدثر به, وهو قدرته على جرجرة البلاد اقتصاديا وليس ادارتها, عبر استخراج البترول او المعادن او الاقتراض من " العدو والحبيب", تنجلى حالة الانهيار التام لنظام البشير وعدم قدرته على تحقيق اى نجاح على اى مستوى من مستويات ادارة الدولة. فالحروب المشتعلة فى المناطق المهمشة, فشل النظام فى حسمها عسكريا, وفشل بقدر اكبر فى قمع مواطنى تلك المناطق امنيا, كما تحولت كل خططه لتفكيك الصراع عبر اتفاقيات سلام هشة مع مجموعات ضعيفة الى حبر على ورق,و فشلت جميعها فى تحقيق اى استقرار, خاصة فى دارفور, التى اصبحت خارج سيطرة الدولة تقريبا من الناحية الامنية , ما عدا عواصمالولايات والتى تعانى ايضا من انفلات امنى كبير. ومع انهيار الامن, والفشل فى تحقيق انتصارات عسكرية, وانعدام فرص الاقتراض بشكل اكبر مما اقترض النظام بالفعل, مع عجزه الشديد عن تقديم اى ضمانات لاى قروض قادمة, حيث ان العجز الذى اعترف به البشير فى مؤتمره الصحفى, هو افلاس تام للدولة وليس مجرد عجز ميزانية عادى, فاذا كان دعم الوقود يساوى الميزانية كما قال البشير , اذا فليس هناك فعلا اى ميزانية, وهو ما يبدو جليا من انهيار الخدمات الاساسية وعدم القدرة على تدوير الاقتصاد, مما يظهر فى السقوط الحر للعملة, الامر الذى يعبر عن انعدام تام للانتاج فى الدولة, فقد توقفت الزراعة, وماتت الصناعة وشبعت موتا, و نضب مورد البترول مع الانفصال وسوء الاوضاع الامنية فى دارفور وجنوب كردفان وتذبذب العلاقة مع الجنوب. ومع استمرار حالة السقوط التام للاقتصاد والوضع المعيشى المتردى للمواطن السودانى, جاء رفع الدعم الذى اتى باسعار تثير السخط, وتذكر السودانيين بايام الانقاذ الاولى حيث تضاعفت الاسعار فى عدة اشهر 200%. استفزاز الشعب ان الغضب الذى اشتعل فى صدور السودانيين فى اليومين الماضيين, كان نتيجة لما قام به النظام من استفزاز لقدرة السودانيين على التحمل. فمع حالة الضنك والجوع القسرى بسبب الارتفاع الجنونى للاسعار فى الفترة الماضية, فان الضغط الكبير الذى ولده رفع الدعم, كان الشرارة التى اشعلت احتجاجات عارمة لا تشبه اى من احتجاجات العامين الماضيين, فالعفوية للمظاهرات والاعداد الكبيرة والمناطق المتفرقة التى اشتعلت فيها المظاهرات تنم عن حراك مختلف وغضب حقيقى وانتهاء لحقبة التردد والخوف, ويبدو الان وبعد اعلان النظام افلاسه, ومطالبة الشعب بان يجد طريقة ليدفع الثمن , وان يغطى كافة احتياجاته بطريقته دون وجود دولة قادرة على القيام بذلك بعدالان, فيبدو ان السودانيون فهموا الرسالة, بان هذا النظام يعلن عدم قدرته على تقديم اى شىء , بعد ان انتهى تماما الان من تحطيم اخر ما تبقى من ما يسمى الدولة السودانية. فالناظر الى حالة البلاد الان لا يجد سوى الرماد الذى خلفه حريق الانقاذ لكل موارد وامكانات الدولة , ناهيك عن الحروب المشتعلة والقلوب الغاضبة من الفقر والعوز والجوع والقتل والتشرد وكافة اشكال الظلم وغياب الدولة بجميع ادوارها. وعملية القفز من القارب الغارق التى يقوم بها النظام الان عبر رفع الدعم, والذى يعلمون سلفا انه سيثير غضب السودانيين, لم يكن له بد, فرغم رغبة الانقاذيين المعروفة فى امتمسك بالكراسى والاحتماء بالحكم, الا ان الواقع يفرض عليهم حقيقة مواجهة فشلهم الذريع فى ادارة البلاد, وبالتالى فان السقوط الحتمى للنظام, هو مما جنته يداهم اولا وثانيا من عدم قدرتهم على لملمة اطرافهم. فاللجوء الى المعارضة ومحاولة الصلح مع الاصدقاء القدامى من الاسلاميين , وحتى محاولات احلال السلام هى اخر المفاتيح التى يمتلكها النظام لضمان بقائه, ولكن الواقع وخاصة الاقتصادى لا ينتظر حدوث اى من تلك الامور لا التوافق السياسى ولا احلال السلام, فى اى وقت قريب, فاى من تلك الامور تحتاج الى شهور او ربما سنوات من التفاوض والاجراءات الجذرية. الهروب الامن من ناحية اخرى فان اختيار النظام لرفع الدعم مدفوعا بنصائح البنك الدولى المعروف بسياساته الكارثية والمعادية لمصالح الشعوب , والمتواطئة لصالح الاقتصادات الكبرى والنظام الاقتصادى العالمى الربحى, فانما هو محاولة ايضا لاسترضاء الغرب وبيع ما تبقى من السودان للشركات المتعددة الجنسيات التى ترغب فى الاستيلاء على الاراضى الخصبة ومناطق التعدين والبترول المحتملة وغيرها من الموارد المعروفة والكامنة فى السودان, ويظل النظام الفاشل الحالى هو الشريك الافضل للبنك الدولى المنفذ لسياسات تلك الدول والشركات والتى لا تعينها الشعوب فى شىء. حيث ان النظام الحالى لا يرى باسا من التحالف مع الشيطان لاجل انقاذ نفسه, وهنا قد يكون المخرج للطغمة الحاكمة الان لا يبدو فى الاستمرار فى الحكم بل ربما الخروج الامن قدر المستطاع هو الغاية التى يسعى لها الكيزان بعد احتراق المركب وقربها من الغرق. وحتى محاولات البشير للذهاب الى نيويورك لحضور اجتماعات الاممالمتحدة, والتى تحمل عدة ابعاد, الا انه من ضمنها فى هذا السياق, فرض الامر الواقع بتحدى المحكمة الجنائية وانهاء تاثيرها الفعلى على حركة البشير وبالتالى ضمان خروج امن له هو ايضا. غضب وتفاؤل مع التفاؤل الكبير بتواصل المظاهرات و اتساع رقعتها مع الايام, مع انعدام رغبة الشرطة فى قمع المحتجين, واضطرار الامن لمواجهة الوضع وحيدا فى كثير من الحالات, فيبدو ان الوضع مرشح للخروج عن سيطرة الحكومة, وهذا ما بدا جليا من هلع الاجهزة الامنية واقدامها على اطلاق النار فى وجه المتظاهرين فى وسط العاصمة وهو امر نادر, ورغم التضارب فى اعداد القتلى المؤكدة حتى الان, الا ان مجرد استخدام هذا القدر من الرصاص الحى لتفريق المظاهرات بحسب شهود العيان من مناطق مختلفة فى الخرطوم ومدنى امس ينم عن هلع حقيقى وفقدان للسيطرة على الوضع من قبل النظام, خاصة وان الاجهزة الامنية قامت بحملة اعتقالات استباقية لاعلان رفع الدعم, استهدفت قادة المعارضة والناشطين المعروفين لديها بمشاركتهم فى محاولات تحريك الشارع السابقة. ولكن واقع الحال فاق التوقعات حتى من جانب المعارضة. فالمظاهرات التى بدات بطلاب الثانوية امس, تفصح عن ان قيادة الشارع الان فى يد الجماهير وليس المعارضة اوالاحزاب او سواها, فمدارس الثانوى هى الى حد كبير خارج مدار الصراع السياسى منذ مدة وخاصة فى الخرطوم, واعتاد طلاب الجامعات وهم الاكثر استهدافا من قبل القوى السياسية قيادة الاحتجاجات فى العامين الماضيين, لكن الوضع الحالى يبدو انه تجاوز كل ذلك واستدعى الجميع للمبادرة والقيادة. ان لسان حال المتظاهرين اليوم يقول انه ليس لديهم ما يخشونه او يخشون عليه, وليس هنالك اشرس ممن يقاتل وليس لديه ما يخسره. فالمرتبات لا تكفى لسد الرمق ولا تحويلات المغتربين تغطى ارتفاع الاسعار الجنونى, وخاصة بعد رفع الدعم. ومع الوضع الحالى لا يبدو ان هنالك اى طريق للعودة الى الخلف عن قرار رفع الدعم بالنسبة للنظام , ولا المتظاهرين المطالبين باسقاط النظام حفاظا على ما تبقى من دولتهم, ليس لديهم خط رجعة ايضا, حيث ان اى ارتداد عن هذه الهبة الجماهيرية الان ستكون نتيجة كارثية على المدى القصير والطويل, فالانهيار التام للاقتصاد والدولة ايضا هو امر وشيك للغاية بحيث لن يتمكن رفع الدعم من ايقافه, ومع عجز قوى المعارضة خرج الناس ليتحملوا مسؤولية مصائرهم ويصنعوا التغيير بايديهم , وفى حالة الغضب المتدفق فى الشوارع الان يكون الامل فى ان توحد الازقة والهتافات والوقفة ضد النظام, فتات السودانيين بكافة اعراقهم واديانهم وثقافاتهم, وان تجمعهم الرغبة فى التغيير على اختلاف وتباين دوافعهم ومظالمهم, والتحية لكل من خرج من اطفال المدارس والشباب اليافع وللشهداء الذين سقطوا, وما كان سقوطهم الى علامة على تعبيرا عن الخوف العارم داخل من النظام من نهايته المحتومة التى قد افترب اجلها. [email protected]