مَراسِميّات . . [email protected] ( 1 ) على أيّامي سفيراً للسودان في لبنان، جلسنا مرّة في دارة الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل، نلبّي دعوته لنا، نحن السفراء العرب في بيروت وقتذاك، لمأدبة غداء. كان محور الحديث في تلك الجلسة، يدور حول تطور الأوضاع الداخلية في لبنان، إثر أزمة مؤسسة الرئاسة اللبنانية التي أحاط بها تشكيكٌ في شرعية التمديد الذي نعم به الرئيس اللبناني السابق العماد إميل لحّود. لم يخرج الحديث في مجمله مع أمين الجميّل عن "الدردشة" العفوية، ولم نجنح فيها لرفع أيّة انتقادات لأطرافٍ سياسية في الساحة اللبنانية، سواءً لجهة حزب الله أو لجماعة 14 آذار التي يقودها سعد الحريري في الجانب الآخر. حين بدأت مداخلتي قلت مخاطباً صاحب الدعوة : "يا دولة الرئيس.."، ومضيت في مداخلتي إلى نهايتها. وبعد وداعنا لمضيفنا همس سفير صديق ونحن نخرج من دارة الرئيس الجميّل في أذني : "فات عليك يا أخي السفير أن تخاطب صاحب الدعوة بلقبه الرسمي وهو "فخامة الرئيس. . " فخاطبت فخامة الرئيس أمين الجميّل :ب "يا دولة الرئيس. ." ، فكأنك قلّلت من مكانته المراسمية. .!" قلت أوضح لمحدّثي:" أنّي حديث عهدٍ ببيروت، وربّما فات عليَّ التنبّه لتلك الألقاب واختلافاتها، وقد أحتاج إلى مراجعة التقاليد البروتوكولية المتبعة في لبنان في مخاطبة الرؤساء والوزراء وغيرهم". برغم ما رأيته أنا زلة لسان لم تقتضيني الإعتذار لأمرٍ بروتوكولي غير ذي بال ، لكني عكفتُ بعد ذلك، على مراجعة ذخيرتي المراسمية في ألقاب المخاطبة الرسمية والمخاطبة الشفاهية للمسئولين الرسميين، والتحقّق من ظروف استعمالات هذه الألقاب والمسمّيات، والتقصّي عن مصادرها ومرجعياتها. ( 2 ) لعلّه من البديهي ملاحظة أنّ الفصل بين المراسم والإتيكيت، أمرٌ عسير بسبب تداخل الممارسات، وتشابه الإجراءات فيهما. . وفيما نجد "الإتيكيت" في أكثره عرفاً غير مكتوب، ويتصل اتصالاً وثيقاً بقواعد الذوق والسلوك السليم والآداب العامة في التعامل مع الآخر، فإن المراسم - أو لو ركنا إلى المسمّى اللاتيني: "البروتوكول"- فإنها تشكل منظومة من الإجراءات والقواعد والطقوس التي تنظّم سبل التواصل مع الآخر بصورة عامة، وفي مجال التمثيل الدبلوماسي، وهى القواعد التي تضبط التمثيل الدبلوماسي بين الدول. ومدلولات كلمة "بروتوكول" اللاتينية القديمة، تتعلّق بترتيب الأولوية والتقديم في المعاملات الدبلوماسية بين الدول. لعلّ مؤتمر فيينا الذي انعقد عام 1815 أي قبل نحو مائتي عام، تحت قيادة وزير خارجية النمسا المبادر، ذلك الزمان "ميترنيخ"، وهو المؤتمر الذي حدّد هذه الإجراءات، بما تطور لاحقا ليشكل ركيزة من ركائز تنظيم العلاقات الدبلوماسية بين الدول. ولا ينبغي أن يغيب عن نظرنا أنّ ثمّة معنى آخر لكلمة "بروتوكول" في مجال القانون الدولي، يشير عادة إلى الاتفاق التنفيذي لأيّ معاهدة أو اتفاقية ، وقد يكون هو الاتفاقية نفسها، أو يكون الإضافة المكتوبة لإتفاقية قائمة، وذلك ما تقول به مراجع القانون الدولي. ( 3 ) لآداب المخاطبة ، كتابة وشفاهة تقاليد مرعية، قد تختلف باختلاف ثقافات الشعوب ، كما قد تتباين باختلاف اللغات والمدلولات اللغوية. ولأنّي لاحظتُ مراراً ما يرد في مخاطباتنا الرسمية وغيرها ، أو ممّا سمعته في المنتديات العامّة والتخاطب الشفاهي، خلطاً بريئاً وغير مُتعمّد في مجمله، في استعمال ألقاب المخاطبة عند الإشارة إلى أشخاص رسميين وغير رسميين. كلّما طرق سمعي لقبٌ يطلق في غير محله، أتذكّر على الفور "أبا المراسم" في السودان : الراحل "البروتوكوليست" أحمد حسن مطر، أوّل من وضع كتاباً صغيرا مُختصَراً عن المراسم في السودان. وممّا أتيح لنا من قليل خبرات متواضعة ، أرجو أن يجد القراء وسواهم من المعنيين باتباع واعتماد ألقاب رسمية ، في القائمة أدناه ما يفيد، بل وإضافة ما يزيد عليها ويثريها : الملك: "صاحب الجلالة" ("جلالة الملك" في بلدان المشرق، "مولانا" في المملكة المغربية)، - نائب الملك :"ولي العهد" و "صاحب السمو الملكي"، - أمير : "صاحب السمو"، رئيس الجمهورية : "صاحب الفخامة" في المخاطبة المكتوبة، و"فخامة الرئيس" في المخاطبة الشفاهية ، - رئيس البر لمان : "صاحب السيادة"، و"دولة الرئيس" في بلدان الشام ، - رئيس الوزراء في بلدان الشام : "دولة الرئيس" ، - رئيس الوزراء في بعض بلدان المشرق: "صاحب السيادة"، - الوزير: "صاحب المعالي" في المخاطبة المكتوبة على الأغلب، و"معالي الوزير" في المخاطبة الشفاهية المباشرة، - السفير : "صاحب السعادة" في المخاطبة المكتوبة، و"سعادة السفير" في المخاطبة المباشرة، - القاضي: "مولانا"، - رئيس المحكمة : "الرئيس" عند المصريين، - المحامي : "الأستاذ" في السودان على الأكثر، - المدير : السيد . . ( 4 ) قبيل الاستقلال في يناير من عام 1956 تنبّهت قيادة البلاد إلى أهمية وضع ترتيبات مراسمية للتعامل مع مُمثلي الدول الذين اعترفت حكوماتهم باستقلال السودان. كان السيد أحمد حسن مطر وقتها موظفاً في وزارة الشئون الاجتماعية والتي أوصى السيد إسماعيل الأزهري بتعيينه فيها بعد أن عاد من غربة طويلة في امريكا اللاتينية. بادر السيد مطر بوضع مذكرة مطولة وتفصيلية حسب وصفه لها في مذكراته المنشورة، عن خبراته في إدارة البروتوكول من واقع تجربته العملية في الخارجية المصرية وفي الخارجية الارجنتينية وبعض دول أمريكا اللاتينية الأخرى. رفع الرجل مذكرته للزعيم الأزهرى ذلك الزمان، فقدّر دوره ووافق على اعتماد ترتيبات بروتوكولية وفق تلك المذكرة ، ولكن رأى الزعيم أن توكل مهمة الاشراف على المراسم إلى القطب الاتحادي السيد ابراهيم جبريل، وذلك بالطبع لاعتبارات سياسية غير خافية. برغم الإحباط الذي أصاب السيد أحمد حسن مطر ، لكنه واصل عمله مساعداً لمدير المراسم ، ووضع لبنات الترتيبات المراسمية للسودان المستقل في يناير 1956، وهي ذات المنظومة البروتوكولية التي سارت على هديها إدارات المراسم في رئاسة الجمهورية وفي وزارة الخارجية لسنوات طويلة، وتطوّرت على أيدي خبراءٍ آخرين ودبلوماسيين آخرين من وزارة الخارجية بعد ذلك. إنّ الكثير من التخبّط الذي نراه في الطريقة التي نتخاطب بها، والأسلوب الذي ندير به لقاءاتنا ومنتدياتنا ومؤتمراتنا، هو مؤشر لضرورة وأهمية الالتفات لجوانب المراسم والإتيكيت . ولا ينبغي التغافل عن هذه الترتيبات بذريعة أنها من الأمور الشكلية، أو هي ممّا يجوز اهماله لدواعي الاهتمام بسواه من أمور أكثر حيوية، بل إن ما يفشل هذه الأمور نفسها، هو إخراجها في أكثر الأحوال، بمظهرٍ اعتباطي يضرّ أكثر ما يضرّ بمقومات الهيبة وموجبات الاحترام.. الخرطوم -أول أكتوبر 2013