العقل زينة. وكان عنوان هذه الزينة طوال الأسبوع الماضي كلمة للدكتورة ناهد محمد الحسن عن وقائع "هبة سبتمبر" في قول البطل. فبينما تهارج ثوريو المهاجر، واعتصموا بغريزة الويل والثبور للإنقاذ، وانشغلوا بشجرها دون غابها، كان عقل ناهد حاضراً. فلفتت إلى قصورنا في التفكير الإستراتيجي الذي يكشف عوراته مثل منعطفنا للتغيير اللائح. فطرقت موضوع البديل القادم من زاوية لم تطرأ لثوريّ المهاجر الذين يعتقدون أن لا سوء يعقب الإنقاذ ( على وزن لا سم يعقب النار) فلتذهب أولاً وستأخذ الأشياء مسارها مهما يكن. ولكن من رأى ناهد أن مستحق البديل أكثر من هذه العشوائية. فقد ظل أقوى أسباب الحكومة للبقاء لربع قرن إما أن البدائل غير مخدومة أو مخيفة. ومنع حياء ناهد أن تقول لكريم العين يا كريم العين (وآسف للإسفاف). فقالت إن أكثر الناس غالباً ما اكتفوا بما تعودوا من زمانهم ولن يخرجوا عنه ما لم يروا ضوءاً واضحاً في نهاية النفق. وهذه البشارة شغل مر مفروض على مثقفين في المهاجر السودانية استعاضوا عنه ( على تمتعهم بالمؤهل التام وتوافر إمكانات بحث غير محدودة حيث سكنوا) بعقيدة كسول مفادها فلتذهب الإنقاذ وليكن ما يكن. ولم تكن ناهد صريحة العبارة في التوبيخ كما جاء عندي. فيكفينا شاهداً على هذا التبطل الثقافي قول المعارضين إنهم سيعقدون مؤتمراً اقتصادياً بعد زوال الإنقاذ لإصلاح الحال وكأن ذلك تعذر من خبراء لوامع ولربع قرن بحاله. ومن دلائل نضج ناهد أنها نبهت بقوة إلى ما ينبغي أن يحذره ثوار المهاجر. فقالت إنهم سيضعفون الهبة متى زايدوا عليها. وضربت مثلاً بتعليق صور مجهولة المصدر على الإنترنت أو إذاعة أخبار عنها بغير استيثاق. وكلا الأمرين حدثا بالطبع. أما أرشق ما جاءت به ناهد فهو دعوتها إلى وطن بلا إقصاء. فالوطن، الذي قالت بشاعريتها الرطيبة إنه يشتهي البنفسج، يسع الجميع. فرحبت بكل قادم لإسعاف الوطن حتى "في آخر الليل". فرحبت بمحتوى مذكرة السائحين القاصدة حقن الدماء والتراضي عند وطن رحب. وسيأتي إليه كل منا بشحنة تاريخية ساءت أم حسنت. وسيأتي إليه من طال عهد إساءتهم ومن لم تطل. ولم يغلق أحد باب الوطنية كما حدث لباب الإجتهاد في فقه الإسلام فنشف فكرنا. وحذرت ناهد صريحة من احتكار صفات الوطنية المصحوب عند البعض بحجز المقاعد في النظام القادم. ونصحت بخبرتها في علم النفس إلا نترك أحداً وظهره إلى الحائط فيسف ويؤذي، وألا نترك أحداً بلا إنتماء: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فإذا جاءت جماعة متأخرة إلى مائدة التغيير فحسابها في يوم ليس هذا وسيأتي حين تستفتي الشعب فيها في يوم الإنتخاب. لا يزايد أحد بالطبع على ناهد في حب الوطن. كانت في الجيل النقابي الأول للنقابات المضادة لنقابة المنشأة. ولقيت الأمرين حتى اعتصمت مضربة عن الطعام في دار الزعيم الأزهري. وما تزال تغشى المحاكم عقاباً على صوتها الجهير في شتى قضايا المرأة والوطن. ولا أعرف من استحق اللجوء السياسي وتوافرت له فرصه مثلها واستدبرته بأنفة بينما يبتذل قوم أنفسهم ابتذالاً لاستيفاء شرطه: أن تكون حياتك في خطر. جاءت إلى الولاياتالمتحدة وطافت تلقي محاضرات علمية ثم عادت أدراجها للوطن. كأن لم يكن. وسماحة عقلها وظيفة من وظائف تواضعها في الصبر على الوطن. فحريتها خلافاً لثوريّ المهاجر ليست في تضييق الواسع الوطني بمقاس ضرر الواحد منا من نظام سياسي. فسمعت خلال الهبة من قال فليصبروا فقد أحالوني للصالح العام في عام كذا. وهذه هي الحرية الترف. والحرية إدراك للضرورة. وكل ثوري مشفق على الوطن (لا على نفسه وخسائره) يدرك إن إسعاف الوطن، هذه الضرورة، مشرعة الأبواب إلا لمن أبى وتجبر فيذوق العذاب الأكبر. والمعروف بالطبع أنه في المهاجر ينبت الغلو والتطرف لأنه بإنقطاع المرء عن الوطن، إقليم المساومة المستمرة، يتوحش المرء في التطرف ويغالي. ولم استغرب ألا يعلق أحد (زيرو) من ثوريّ المهاجر على كلمة ناهد المنشورة منذ أكثر من أسبوع بمنبر السودانيزأونلاين وأن يقرأه نحو مائتي متصفح فقط في منبر يتدافر الالآف للتعليق على الهوت دوق وأخواتها. و"احتل" التعليق الذكي لعقل من أميز عقولنا ولإمرأة شجاعة الخاطرة إلى قعر المنبر بسرعة. 2-حق التعبير بعد 23 سبتمبر: عن الحضارة وانتشارها بدأت أخشى أن تكون الحكومة بسبيل استخلاص الدروس الخطأ من الأحداث التي ترتبت على رفع الدعم عن المحروقات. فبرغم تلطفها بقولها إنها تتفهم دوافع من قاموا بها وترحمها على قتلاها بتسميتهم شهداء إلا أنها لم تكف من تصوير الأحداث نفسها ك"ثورة حرامية" إذا استعرنا وصف الرئيس السادات لهبة المصريين ضد سياساته في رفع الدعم عن الخبز في 1977. فالوزير كرتي لم يجد ما يقوله للزائر الإيطالي الذي "عاتبه" على فظاظة الحكومة مع المتظاهرين سوى بأنهم لم يكونوا سلميين بل مخربين. والشرطة صريحة في أن قوى ما استقطبت مشردين بغرض التخريب. واحتلت أخبار تعقبها "للجناة" صدارة الصحف في حين أصمِت كل نبأ آخر. فقالت إنها ألقت القبض على متهمين بإشعال النار في الطالب عبد الكريم مدني (يا لله!) بعد سرقة موبايله ووصفتهم بمعتادي إجرام. كما تتعقب الآن من داهموا مستودعات وثائق الأرض في الثورة زقلونا والفتح في أم درمان التي استبسل موظفوها في حمايتها. ووصفت الشرطة الداهمين بمزوري أراضي. بالطبع التخريب عدو طالب التغيير عن استحقاق وجدارة. ولكن لم تخل ثورة منه. بل مر زمان كان التخريب هو الأصل في الثورة. فقد كانت بدايات التعبير العمالي عن بؤس حالهم في القرن التاسع عشر هو تحطيم آلآت المصنع التي تستعبدهم. ولكن تجاوزوا ذلك إلى الوعي النقابي المعروف. بل نشأت في سياق الثورة الاجتماعية طوائف الفوضويين الذين يريدون مسح كيان الرأسمالية بالأرض حتى يقوم العالم على معنى العدالة من أول وجديد. وبجانب حرق المركبات شهدت ثورة أكتوبر 1964 هجوماً كاسحاً على البارات. ومن رأي مؤرخ أن ذلك كان عملاً قاصداً لا من فعل الرجرجة كما ظنناه. وأزعجني بالفعل أن يكون رجلاً عالماً راشداً مثل زميلنا الساعوري من بين من صرفوا الاحتجاجات على أنها محض تخريب. فأشار بأصبع الاتهام إلى عصابات النقرز (وقد نفت الولاية مراراً وجود مثل هذه العصابات) وخلايا نائمة لحركات مسلحة. فحتى الأحزاب في رايه لم تكن في الاحتجاج لخلوه من لافتات باسمها وشعارات ضد رفع الدعم. وشكك في تلقائية التظاهرات المخربة لأنها تحركت في وقت واحد وشكل واحد وبروح لا علاقة لها بالسياسة. وأضافت أميرة الفاضل قائلة بأن التخريب لا يشبه أخلاق الشعب السوداني. ووجه الوالي الخضر تهمة الاحتجاج المخرب للوجود الأجنبي. وهذه لعبة خطرة سيشقى منها أجانب لا شبهة لنا عليهم. فقال إنهم قبضوا 60 منهم في أعقاب الأحداث الأخيرة. كما أعترف بوجود عصابات تطوق العاصمة. ولا أدري إن كان المفروض على الناس أن يتحملوا الضنك المشاهد لأن الأمن والشرطة لم تقم بواجبها في ضبط مثل عصابات النقرز وغيرها؟ ومن عجائب الصدف أن ينشر في نفس يوم تصريح الخضر احتجاج مزارعي القضارف على الوجود الأجنبي. فقالوا إنهم اضطروا لجلب عمالة أجنبية لأن البنك الزراعي رفض تمويل حازمات السمسم. والأدهي أن الحكومة المحلية والفدرالية تفرض رسوماً مقدارها 53 جنبهاً مقابل استخدام كل رأس أجنبي. فأرتفعت تكلفة الإنتاج بصورة قال المزارعون إنها تهدد الموسم الزراعي. فأنظر من يشكو من الوجود الأجنبي ومن يتقاضى الشيء الفلاني على كل رأس منه! من بين الدروس ذابلة المعني قول الحكومة أنها لرحبت بالاحتجاج لو كان حضارياً. بل قال الوالي الخضر ليتهم طلبوا إذناً بالتظاهر وأحرجونا. ووافقه الساعوري. ولو كان الأمر بيدي لتقدمت بطلب للإذن لا طمعاً في نيله ولكن لأصل مع الكاذب حتى جحره. ولي من التجارب خلال حملتي الإنتخابية في 2009 وخلال خدمتي في اتحاد الكتاب السودانيين ما أزهدني في قيام نشاط غير حكومي بصورة حضارية حتى لو كان في مثل ندوتنا عن العرب في السودان في حوش الاتحاد. فلم أسمع طوال الأيام التي سبقت الاحتجاجات دعوة من الحكومة ليستأذن الراغبون في القيام بها من الشرطة حتى توفر لهم الحماية التي تحدث عنها الخضر بعد الفوت. ولا بأس على الحكومة أن تحرج المحتجين أيضاً. وكان كل ما يصدر عن الولاية هو جاهزية شرطتها للتصدي لكل من تسول له نفسه إلخ. وكان قبيس من المؤتمر الوطني يعلن أنهم تركوا الأمر كله للأمن ليقوم بواجبه خير قيام. فحديث التظاهرة الاحتجاجية الحضارية حديث خرافة يا مولانا الساعوري بالذات. ونحن مع ذلك ولاد الليلة. ولتتطهر الحكومة من أوشاب الدروس الخاطئة عن الاحتجاجات الأخيرة فلتعلن عن التزامها، قولاً واحداً، بتطبيق الدستور من جهة كفالة حق التعبير والإجراءات التي تؤمنه، والسبل إلى القضاء متى حجبته . فقد وضح لها أن عائد غمط هذا الحق فادح وغير حضاري. فمتى حجبته خرج لها المخنقة والموقوذة والمتردية وما أكل السبع. Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]