اصدرت حكومة الانقاذ قرارات بحل النقابات ومصادرة ممتلكاتها واغلاق مكاتبها واعتقال وتعذيب قادتها منذ يومها الاول. والحقت ذلك باصدار قانون 1992 والذى واجه معارضة محلية وعالمية عنيفة شارك فيها حتى مكتب العمل الدولى التابع للامم المتحدة. وبعده اصدرت قانون 1996 وتلاه قانون 2002 ثم اخيرا قانون 2010. جوهر تلك القوانين هو تحويل النقابات لنقابات منشأة حيث تضم نفس النقابة من المدير والى الغفير وليس غريبا ( حسب تلك القوانين) ان يكون المعتصم عبد الرحيم وكيل وزارة التربية رئيسا لنقابتها! كما اعطت تلك القوانين سلطات مطلقة لمسجل النقابات فى التحكم فى العمل النقابى. وجاءت تلك القوانين بعد صدور قوائم ما سمى بالصالح العام وتشريد مئات الالاف من العاملين واحلالهم بكوادر التمكين.ولكن هل تحمى القوانين السلطة عندما يقرر الشعب انه لا يمكن العيش تحت ظل هذا النظام؟ هذا ما سنجيب عليه فى السطور التالية من تجارب شعبنا مع الدكتاتورية الاولى ( 1958-1964) والتى اسقطتها ثورة اكتوبر. ثورة أكتوبر لم تكن انفجارا عفويا ولا نتاج لخطبة عصماء لخطيب مفوه قادم من السوربون وانما كانت نتاج تراكم نضالى مستمر خاضه المزارعون والعمال والطلاب والنساء والضباط الاحرار والاحزاب. نضال ابتدأ من اليوم الاول للانقلاب وتعرض للصعود والهبوط ولكنه واصل زخمه ، بوتاير مختلفة، حتى حدث الانفجار الاكبر عند توفر شروط نضوج الازمة الثورية. وكمثال من مئات المعارك المتفرقة التى خاضتها مختلف فئات الشعب نتعرض اليوم لتراجع النظام النسبى امام الحركة العمالية. بدا النظام حياته بالغاء النقابات ومصادرة جريدة اتحاد العمال واعتقال القادة النقابيين وسجنهم لسنوات طويلة. رغم كل ذلك لم تتوقف الحركة الجماهيرية وابرزها اضراب عمال السكة الحديد فى 2 نوفمبر 1959 واضرابات طلاب جامعة الخرطوم والمعهد الفنى ( جامعة السودان حاليا). واستمرار مطالبة النقابيين بارجاع نقاباتهم المحلولة وواكب ذلك ضغط عالمى قاده النقابى ابراهيم زكريا من منبر اتحاد النقابات العالمى وكما لعب مكتب العمل الدولى دورا فعالا فى الضغط على الحكومة العسكرية. وقد قالت الحكومة فى ردها على مطالبة مكتب العمل الدولى بحماية الحريات النقابية انها كونت لجنة والتى اوصت بدورها باصدار قانون جديد للنقابات. تراجع النظام العسكرى تحت تلك الضغوط واصدر قانون النقابات لسنة 1960 والذى يسمح باعادة انشاء النقابات بعد القرار المتعسف بالغائها. وكان ذلك اول انتصار للحركة الجماهيرية التى ما توقفت عن محاصرة السلطة العسكرية. عند احساس النظام بحماس العاملين لاعادة انشاء نقاباتهم حاول المماطلة مرات والمراوغة مرات اخرى ولكن هيهات بعد صدور القانون وتمسك العاملون بحقهم فى التنظيم. وقراءة سريعة لقانون 1960 نجد انه شك تراجعا بينا عن قانون النقابات لسنة 1948. فقد وضع القانون الجديد عدة معوقات امام امام العمل النقابى وكمثال حدد الحد الادنى لانشاء نقابة بخمسين عضوا رغم انه من المعروف ان اعدادا كبيرة من العمال تعمل فى مؤسسات صغيرة. وزاد القانون من القيود بمنع العمال من الانضمام لاى نقابة ماعدا تلك التى تنشأ فى مقر عمله مما يعنى حرمان مئات الالوف التى يعملون فى منشات صغيرة. كما منع القانون اى نقابة من الاتحاد مع نقابة اخرى مما يعنى عمليا عدم قانونية اتحاد العمال. واعطى القانون مسحل النقابات سلطات كبيرة تمنحه حق التحكم فى العمل النقابى. ويمضى القانون فى قيوده ويلغى حق النقابات فى وضع دساتيرها وقوانينها حيث يعطى مدير مصلحة العمل سلطة اصدار قواعد فيما يتعلق باهداف واغراض النقابة واموالها واشتراكات اعضائها واوجه صرف هذه الاموال. ورغم هذه القيود تنادى النقابيون لاعادة تكوين نقاباتهم حيث اكتمل اعادة انشاء النقابات الاساسية فى صيف 1961. وحينها بدأت النقابات فى تقديم مطالب عضويتها وكانت فى مقدمتها نقابة عمال السكة الحديد. والتى بدأت بجدية فى التفاوض مع المخدم حول حقوق العمال ولكن الصلف العسكرى تجاهل صوت العمال. اعلنت نقابة السكة الحديد الاضراب من 17 والى 24 يونيو 1961 بعد ان تجاهلت الدولة مطالبها وهى: * زيادة الاجور بنسبة 45% * تعديل كادر ويكفيلد * الغاء قانون النقابات لسنة 1960 والرجوع لقانون 1948 * رفع حالة الطوارئ ونلاحظ هنا الربط بين المطالب الاقتصادية الخاصة بالعاملين والقضايا الوطنية العامة مثل رفع حالة الطوارئ التى كانت من ادوات الدكتاتورية لقمع الشعب السودانى. وبلغ الهلع بالسلطة مداه واستخدمت كل ترسانتها من الحيل والارهاب والتهديد والوعيد وعندما فشلت فى ارهاب العمال الذين قرروا المضى قدما فى تنفيذ اضرابهم قررت حل النقابة قبل 3 ايام من موعد تنفيذ الاضراب. ورغم كل ذلك نفذ العمال اضرابهم فى اجماع وقوة كانت البداية الحقيقية لسقوط النظام مثلما هى انتفاضة سبتمبر 2013 التى هى بداية سقوط الانقاذ. وكان من الاثار السياسية لذلك الاضراب التاريخى تحركت احزاب المعارضة وواجهت النظام لاول مرة منذ 1959 مما ادى لنفى زعماء المعارضة الى جوبا فى 13/7/1961. وبعد ذلك تواصلت المعارك وتصاعدت لتصل اوجهها فى اكتوبر 1964 التى اسقطت النظام. وهكذا مهما وضعت القوانين من قيود فان حركة الشعب ستتخطى تلك القوانين. وتجارب نقابة اساتذة جامعة الخرطوم وتحالف مزارعى الجزيرة والمناقل واضرابات المعلمين واعادة نقابة الاطباء الشرعية هى محطات هامة فى تخطى القوانين التعسفية واعادة الحركة النقابية لموقعها الطليعى. وفى الختام نقول ونؤكد ان احد اهم دروس تلك التجربة مع قانون 1960 انه مهما وضعت السلطات من قيود قانونية فان ارادة الشعب لا غالب لها. siddig elzailaee [[email protected]]