لم يكن عنوان مرثية الأخ الصديق عبد الباقي الظافر، والذي عنونه في عموده اليومي بصحيفة "الأهرام اليوم" ب "عن أمي أقول لكم"، مقتبساً في مسحة حزن وأنَّة مكلوم، عنوان أغنية ذائعة الصيت في ثمانينيات القرن الماضي للأخ المطرب الغنائي أبو عركي البخيت الذي زاملتُه في معهد الموسيقى والمسرح في خواتيم سبعينيات القرن الماضي، وكم أطربتنا تلكم الأغنية التي يبتدرها ب "عن حبيبتي أقول لكم"، ولا أنسى أنني دعوتُ الأخ أبو عركي البخيت للمشاركة في منتدى الفلافسة كلية الآداب في جامعة الخرطوم، الذي كنتُ المسؤول الإعلامي في لجنته التنفيذيَّة تحت رعاية أستاذي الجليل الدكتور كمال حامد شداد، فكان حضور منتدى الفلافسة من طلاب وطالبات جامعة الخرطوم من كليات الوسط والأطراف، يطالبون الأخ أبو عركي البخيت أن يقول لهم عن حبيبته من خلال أغنية "عن حبيبتي أقول لكم". فجميل من الأخ المكلوم الظافر أن يقتبس هذه الحالة الحميميَّة للحديث عن أمِّه الراحلة التي نسأل الله تعالى لها الرحمة والمغفرة. ولمَّا كان الأخ الصديق الظافر تتميَّز علاقتُه بأمِّه الراحلة الحاجة زينب بقدرٍ كبير من الحميميَّة والصلات القويَّة، وهي يرحمها الله تعالى تُنزله منزلة الابن والابنة التي حُرمت منها، فهو بالنسبة لها الابن في تحمُّل المسؤوليَّة، والابنة في العطف عليها، والحرص على رعايتها، إذ لا يمكن لمثلي من يعرف هذه العلاقة التي تتَّسم بالحميميَّة، أن يندهش لما جاء في تلكم المرثية من حزنٍ عميق، وأسىً دفيق، يستشعرُه القارئ والقارئة، نبضاً في الكلمات، وحزنًا في العبارات، وكأنَّ لسان حاله يُردِّد ما قاله الشاعر العربي ابن الرومي في فقده لابنه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يُجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي توخَّى حِمامُ الموت أوسطَ صبيتي فلله كيف اختار واسطةَ العقد على حين شمتُ الخيرَ من أفعاله وآنستُ في لمحاته آية الرشد فالذين لا يعرفون هذه العلاقة المتفردة ما بين الظافر والحاجة زينب، اندهشوا للمرثية، بينما عارفوها، دعوا لها بنزول شآبيب الرحمة، ولابنها الصبر الجميل، متذاكرين معه قول الله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". أخلص إلى أن وفاة الحاجة زينب بالنسبة لي، لم تكن وفاة والدة صديق، بل كانت وفاة أم لم تلدني، إذ إنها كانت تعاملني معاملة خاصة عند زياراتي إلى السودان في عطلات أو مؤتمرات وتسأل عن أسرتي، مع من تركتهم في بريطانيا، فأقول لها تركتُهم مع الذي لا تضيع ودائعه فهو خير حافظ. والغريب أنها تعرفني من صوتي قبل صورتي من خلال اتصالاتي الهاتفية من لندن بالأخ الظافر. وكانت تستعصي على ابنها في تناول الدواء، وكان يدلس عليها بأني طبيب لمعرفته بأنها تسمع كلامي، فلذلك أوصيها بتناول الدواء وأتقمص شخصية الطبيب النطاسي في الحديث عن فائدة الدواء في إزالة الداء. فلا غرو أن أفردتُ هذه العُجالة لأحكي عن أم الظافر، الحاجة زينب، لأن ابنها حرص على أن يقول لكم عنها، فالقول فيه شبهة قطعية الدلالة، بينما الحكي أقرب إلى السرد الذي يتضمن في ثناياه كثيرًا من شبهة ظنية الدلالة، لأن الأخير الشخص فيه أميل إلى سرد الحكاية بشيء من تقريب الصورة الذهنية بين الحاكي والمُحكى عنه، وصولاً إلى المتلقي، لتتم معايشة الشيء المسرود. في ختام هذه العُجالة من الضروري أن أبسط القول، شهادة، في ما رأيته من علاقة حميمة بين الأم والابن، إلى الدرجة التي ما إن سمع الابن بأن أمه ارتحلت عن هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة العاقبة حتى سقط أرضاً، حزنًا وكمداً وحسرةً، من أنه لم يكن بجوارها عندما لحقت بالرفيق الأعلى، فكل هذا من باب إثبات الشهادة وعدم كتمانها، تنزيلاً لقول الله تعالى: " وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ". ونسأل الله تعالى أن يغفر للحاجة زينب. ويُدخلها فسيح جناته مع الصديقين والنبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، وأن يلهم ابنها الظافر وشقيقه وأهلها ومعارفها الصبر الجميل. " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".