لم تكن زيارتنا إلى ولاية شمال كردفان يومي الخميس والجمعة زيارة عادية إلى ولاية من ولايات السودان في غربه أو شرقه أو شماله بعد أن فقدنا جنوبه، بل كانت زيارة فوق العادة، إذ إنها جاءت بالنسبة لي من خلال دعوتين كريمتين من الأخ أحمد محمد هارون والي ولاية شمال كردفان، والأخرى من وحدة تنفيذ السدود الذين خصوني بدعوتهم إلى مرافقة الأخ الرئيس عمر البشير أو الأخ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية للمشاركة في تدشين المراحل المختلفة لتشييد سدي أعالي نهر عطبرة وستيت في ولايتي القضارفوكسلا، التي أشرقت بها شمس وجدي، مغنياً بجمالها ومفتونًا بإشراقها الشاعر الكبير الراحل توفيق صالح جبريل، حين يقول: كسلا أشرقت بها شمس وجدي وهي في الحق جنة الإشراق كان صبحًا طلق المحيا نديا إذ حللنا حديقة العشاق نغم الساقيات حرك أشجاني وهاج الهوى أنين السواقي ولما كنت من أبناء تلكم المنطقة، كنت أحرص على تلبية دعوات وحدة تنفيذ السدود، التي تجعل من مشقة الرحلة، متعة عمل ومصابرة، وجميل وفاء ومجاهدة، كل ذلك في سبيل إثبات الشهادة ومشاهدة اخضرار قواحل الوطن، المبشرات بنعيم المواطن في وسط المحيطات وغياهب المهلكات. أما زيارة أم بادر، فهي بحق زيارة من نوع خاص، لأنها سُميت على اسم بحيرة أم بادر. واشتهرت أم بادر بحادثة "كسر قلم مكمايكل" التي صارت مضرب الأمثال في مقاومة الاستعمار والتحدي. تقول قصة الحادثة إن مدير مديرية (محافظة) كردفان إبان الحكم الثنائي السير مكمايكل، كان يصدر أحكامه في النزاعات التي تقع بين قبائل وبطون المنطقة، وفي نزاع بين قبيلة الكواهلة التي تسود المنطقة وإحدى القبائل المنافسة لها، حكم مكمايكل ضد الكواهلة، وقرأ منطوق حكمه من ورق ووقع عليها بالقلم، رفض عبد الله ود جاد الله زعيم كواهلة كردفان الحكم منفعلاً وأمسك بقلم مكمايكل وكسره احتجاجاً على الحكم. وأحسب أن منطقة أم بادر تميزت بالإنسان الشاعر، فالشاعرية عندهم موهبة. فلا غرابة أن صدح الشاعر الناصر قريب الله بقصيدة عن أم بادر، مطلعها: أي حظ رزقته في الكمال واحتوى سره ضمير الرمال فتناهى إليك كل جميل قد تناهى إليه كل جمال فالشعر عندهم ليس موهبة ذكورية، بل حتى نساؤهم شاعرات، فهاهي الشاعرة حميدة عبد الله تغني شعراً لدار أم بادر: إذ تقول الليلة والليلة دار أم بادر يا حليلة، هكذا صدحت بها أم بلينة السنوسي. وكنا قبل أم بادر التي افتتح فيها الأخ الرئيس عمر البشير السد ضمن حصاد المياه، زرنا منطقة سودري، حيث افتتح الرئيس البشير كبري أبو زعيمة، إذ كان هذا الخور في زمن الخريف يقطع التواصل ما بين الغرب والشرق، وتمكث اللواري بالأشهر عاجزة عن عبوره، ولكن بعد هذا الكبري، قد زال عائق التواصل، إنساناً وحيوانًا، لذلك أشار الرئيس البشير في خطابه إلى أن الكبري (الجسر) أصبح يحل مشكلة الخريف، حتى لا تنقطع على الناس الأسباب، واعدًا أهل المنطقة بأن مدارسهم ستُبنى بالطوب بدلاً من القش وتكون المدارس لأبناء القادرين وغير القادرين. ودعاهم إلى النفير من أجل خدمة منطقتهم، بحيث أن الأهالي إذا تقدموا خطوة، فإن الحكومة ستتقدم أربع خطوات. ولما قدمنا إلى الأبيض لاحظنا التقدم العمراني في المدينة، ولكنها تعاني الظمأ، ولا أدري لماذا عندما تحدث الأخ الرئيس عمر البشير والأخ أحمد محمد هارون عن العطش، رجعت بي الذاكرة إلى عهد مايو، حيث سطع آنذاك نجم الدكتور عثمان هاشم وزير التنمية الريفية، ونحن في المرحلة الثانوية العامة وهو يتحدث عن حل مشكلة العطش في كردفان وبالأخص في الأبيض، ولكن لم تُحل المشكلة حتى يومنا هذا. فالمأمول من الأخ الصديق أحمد محمد هارون أن يولي هذا الأمر اهتماماً كاملاً، ويكون أحد إنجازات حصاد المياه، باعتبار أن الماء شريان الحياة، تصديقاً لقول الله تعالى " وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ". وأحسب أن الأخ الصديق أسامة عبد الله بعد سدود الشمال والشرق سيتجه بكلياته لإطفاء ظمأ أهل كردفان. ولقد ذقنا معهم الظمأ وقلة مياه الحمامات، فتذكرنا الشاعر العربي الذي يقول: عطاش تريد الماء على أنه من دمها أظمأ أخلص إلى أنه من الضروري أن يجعل الأخ أحمد محمد هارون والي ولاية شمال كردفان في فقه أولوياته بعد أن تسنم أمر هذه الولاية أن يُذهب عنها الظمأ، وذلك بإيجاد حلول عملية عاجلة وآجلة حتى يتسنى لإنسان كردفان أن يسهم إسهاماً، فاعلاً في التنمية المستدامة والسلام والاستقرار في إطار مراعاة النسيج المجتمعي والتمازج القبلي. وليتذكر الجميع في كردفان وغيرها أنهم بالسلام يستطيعون تحقيق الإنجازات والمعجزات، وعليهم أن يتأملوا قول الله تعالى، تذكيراً واعتقاداً " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".