وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقديَّة في رؤى "كمال الجزوليّ" الإسلاميّة! (2) .. بقلم: صلاح عبّاس فقير
نشر في سودانيل يوم 03 - 10 - 2009


(مقدّمات):
عزيزي القارئ، بسم الله يتّصل حديثنا حول قراءتنا للرؤى الإسلامية التي عبَّر عنها الأستاذ كمال الجزوليّ، في سلسلة مقالاته الّتي نُشرت في "سودانايل" الغرّاء، تحت عنوانٍ رئيس: "عتود الدولة"، وعنوان رديف: "ثوابت الدين ومتحركات التدين".
في الحلقة الثانية من تلك السلسلة، وانطلاقاً من مقولة "المصالح الكليّة"، الّتي "ينبغي أن تكون في أساس أيّ فقهٍ جديد يُوافي مُعطياتِ عصرنا ومَطلوباته"، يتّجه كمال الجزوليّ -في إطار الهمِّ الّذي يُقلقه، وفيما يتعلّق بالأزمة الرّاهنة على الصّعيد الوطنيِّ، أزمة العلاقة بين الدّين والدولة- يتّجهُ إلى النّظر في مفهوم الدولة في الثقافة الإسلامية.
(ثلاثُ حقائقَ أساسيّة):
وبناءً على استقراء آراء ومواقف كثيرٍ من علماء الأمة القدامى والمعاصرين، يُقرّر الأستاذ كمال الجزولي -فيما يتعلّق بمفهوم الدولة في الثقافة الإسلاميّة وفي النُّصوص الشّرعيّة- ثلاث حقائق:
أولاً: أنّ مصطلح "الدولة" لم يرد في نصوص الكتاب والسّنة، ولا في أقوال الصَّحابة -رضي الله عنهم- بل لم يظهر هذا المصطلح إلا مع العبّاسيّين، تعبيراً عن انتقال الأمر إليهم من الأمويِّين.
ثانياً: أنّ القرآن الكريم قد سكت عن تفاصيل النظم التي يُدار بها أمرُ الحكم والسياسة، "مكتفياً بإبراز أعمّ المبادئ، وأكمل المقاصد، لإدارته بالشورى، والعدل، والإحسان، ومنع الضَّرر والضِّرار وما إليه" (كلّ نصوص الأستاذ كمال الجزولي المقتبسة في هذه المقالة، مأخوذة عن الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته المُشار إليها أعلاه).
وذلك السّكوت يتوافق كما يلحظ الجزوليّ، مع موقف القرآن الكريم من العقل، باعتباره قاعدة التكليف، كما يتناسبُ مع كون هذه القضايا ممّا يعروه التَّغييرُ بمرور الزّمن!، يؤكّد هذا الملحظ أنّنا نجد فيما يتعلق بأمور العبادات وقوانين الميراث والأحوال الشخصية، كثيراً من الأحكام التفصيلية، والإجراءات العملية، قرّرتها النصوص الشرعية، في حين سكتت عن أمر الدولة وما يتعلّق به.
ثالثاً: أنّ مسألة الإمامة ليست من أصول الدِّين في شيءٍ، بل هي من فروعه! وبالتالي فالخلافُ فيها لا ينبغي أن يؤدِّي إلى "التكفير"!
(من أين أتى هؤلاء؟):
بناءً على تقريره لهذه الحقائق، يستنتجُ الأستاذ كمال الجزولي أنّ الدّولة الدّينية ليست من الإسلام في شيءٍ!
ومن ثمّ يطرحُ استفهاماً تعجّبيّاً، يقول:
"فمن أين تسلَّل، إذن، إلى الفكر الإسلاميِّ مفهومُ (الدَّولة الدّينيَّة)"؟
ويرى الجزولي أنّ "البحث عن إجابة لهذا السؤال لا يكون في القرآن، ولا في السنة، ولا حتى في أعمال الصَّحابة" وذلك بناءً على الحقائق التي قرّرها أعلاه، وإنّما تكمُن الإجابة "في وقائع الخلط والتخليط اللذين توحَّل فيهما (الخوارج) قديماً بشأن مرتبة (الإمامة)"، أي في تلك الوقائعُ التي دفعتهم في غمرة الخلاف حول الخلافة، إلى رفع شعار الحاكمية: أن "لا حكم إلا لله"، واستناداً إلى ذلك يقرّر الأستاذ كمال الجزوليّ: "إنَّ الَّذين رفعوا شعار (الحاكميَّة)، في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، ابتداءً بالخوارج، ومروراً بأبي الأعلى المودودي ثم سيّد قطب، وانتهاءً بحركات الإسلام السِّياسيِّ الراهنة، وبخاصَّة دعاة الدولة الدينية في السودان، كانوا يدركون، كما يُدركون الآن، ولا بُدَّ، استحالة استصحاب أيّ سندٍ لشعارهم من القرآن أو السنة مباشرة، وما ذلك إلا لكون مثل هذا السَّند غيرُ موجود أصلاً".
إذن، مفهوم الحاكمية، هو الّذي تأسّست عليه "الدولة الدينية" في نظر الأستاذ كمال الجزولي!
(مفهوم الدولة الدينية):
إذن، ماذا يعني الأستاذ كمال الجزولي بالدولة الدّينية؟
إن كان يعني بها تلك الدولة التي يدَّعي حاكمُها أنه ظلُّ الله في أرضه، وأنه يحكمُ بموجب حقٍّ إلهيٍّ في الحكم، فهذه لا وجود لها في الإسلام باتّفاق!
وكان الفقهاء والعلماء، يُميّزون جيّداً بين "أمور الدين"، و"أمور الدُّنيا"، الّتي يجيءُ في مقدّمتها أمر السلطة السياسية التي تحكم الناس وتسوسهم!
ولكنّ ذلك التّمييزُ بين الدّينيّ والدنيويّ، لم يكن يعني الفصلَ بينهما، لأنّ نصوصاً عديدةً تؤكّدُ أنّ الإسلام قد جاء ليهديَ الناس في جميع مجالات حياتهم: السّياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ذلك قوله تعالى: ((قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين)) (الأنعام، 17)، وذلك أمرٌ معلوم من الدّين بالضّرورة.
وفيما يتعّلق بالجانب السياسيّ، يقول كمال الجزولي: "وبالحقِّ، فإن القرآن والسنة يقدّمان هداية عامَّة حول الشورى، والعدل، والإحسان، والمساواة، والحريَّة الدينية، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانات إلى أهلها، وغيرها، إلا أنهما لا يتضمَّنان نصوصاً قطعيَّة في تفصيل نظام الدولة، أو شكل السلطة، أو أحكام السياسة، أو ما إلى ذلك. فتلك كلها (أمور) مرهونة بظرفي الزَّمان والمكان"!
إذن، بناءً على ما قرّره الأستاذ كمال نفسه يمكنُ الحديث عن "دولةٍ إسلاميّةٍ" تقوم على تلك الأسس الشّرعيّة، وتُراعي في تكوينها تطوّر الفكر والنظام السّياسيِّ، في كلّ عصرٍ ومصر، معتمدةً في ذلك على تشغيل ميكانيزمات التّدبُّر العقليِّ في فهم نصوص الشرع!
بيد أنّ كمال الجزوليّ يُقرّر بأنّ لفظ الحكم في الإسلام، لا يدلُّ على (النظام السّياسي) أو (السُّلطة السّياسيَّة العليا) في المجتمع، وإنّما تقتصر دلالتُه "على (القضاء)، ... أو (الحِكمة)، ...، أو (النبوَّة)"!
ويرى أنَّ الخوارج قديماً وحديثاً أخطؤوا في فهم دلالة مصطلح الحكم في القرآن الكريم، ثمّ "اشتقُّوا منه، بصورة متعسِّفة، مصطلح (الحاكميَّة)"، الّذي قامت على أساسه الدولة الدينية!
إذن، فالسؤال الّذي ينبغي إجابته والوقوف عنده، يتعلّقُ بتحديد معنى الحكم في النّصوص الشّرعيّة، وقبل ذلك في اللغة العربية.
(معنى الحكم في اللغة والقرآن):
إنَّ التَّأمُّلَ في الحصيلة اللُّغويَّة الواردة حولَ مادَّة "الحاءِ والكافِ والميم" في "لسان العرب"، يُفيدُ بأنَّ مفهومَ الحكم في اللُّغة العربيَّة، يدلُّ بصورةٍ جوهريَّةٍ على: (مَنع وقوع الفَساد في أمرٍ من الأمور، وإصلاحِه؛ حتَّى يُحقِّقَ أعلى درجاتِ كمالهِ الممكن، وذلك اعتماداً على الفقه والعلم والحكمة).
وممّا ورد في "لسان العرب"، مؤيِّداً وُجودَ هذه الدّلالة قولُهم:
1. "من صفات الله: الحَكَمُ والحَكِيمُ والحاكِمُ، ومعاني هذه الأَسماء متقارِبةٌ"، فالحاكمُ "هو القاضي" و"قيل للحاكم بين النَّاس حاكِمٌ؛ لأنه يَمْنَعُ الظَّالمَ من الظُّلم"، و"قال الأصمعيُّ: أصلُ الحُكومة ردُّ الرَّجل عن الظُّلم، قال: ومنه سُمِّيت حَكَمَةُ اللِّجام؛ لأَنها تَرُدُّ الدَّابَّة.".
2. والحاكمُ كذلك: "هو الذي يُحْكِمُ الأَشياءَ ويُتقنُها"، "والحُكْمُ العِلْمُ والفقه والقضاءُ بالعدل".
3. "وفي الحديث: (إنَّ من الشعر لحُكْماً) أي: إِنَّ في الشعر كلاماً نافعاً، يمنعُ من الجهل والسَّفَهِ." ويقودُ إلى الهُدى والرَّشَد.
4. "وحَكَمَ الشيء وأَحْكَمَهُ، كلاهما: منعه من الفساد".
5. و"عن إبراهيم النَّخعيِّ أنه قال: حَكِّمْ اليَتيمَ كما تُحَكِّمُ ولدَك، أي: امنعه من الفساد وأصلحْهُ كما تُصلح ولدَك، وكما تمنعه من الفساد، ... قال: ونرى أن حَكَمَة الدَّابَّة سُمَّيت بهذا المعنى؛ لأنها تمنعُ الدَّابَّة من كثير من الجَهْل." (انظر: لسان العرب، مادة "حكم").
إذن، فما الّذي يجعل مفهوم الحكم قاصراً في دلالته فقط على "الحكم القضائيّ"، أو الحكمة، أو النّبوّة؟!
وبناءُ على المفهوم المتكامل لمدلول الحكم في اللغة العربية، ننظر في القرآن الكريم، وخاصّة إلى آيات سورة المائدة الثلاث: ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم)) (الكافرون- الفاسقون- الظالمون)، والتي يتمسّك الأستاذ كمال الجزوليّ في تفسيرها بما تدلُّ عليه أسبابُ النزول، مُعرضاً عن تلك الدّلالة الواضحة لمفهوم الحكم في اللغة العربية، قائلاً: "لقد أجمع الأئمَّة، ومن بينهم، على سبيل المثال، ابن كثير والواحدي النيسابوري وجلال الدين السيوطي، نقلاً عن الأحاديث التي وردت في الصّحاح والمسانيد المعتمدة، أن هذه الآيات نزلت لأسباب تتعلق بإقامة بعض الحدود"، ثمّ يؤكّد مع خليل عبد الكريم قائلاً:
"ومن ثمَّ، فإن أيَّ مسعى لسحب دلالتها إلى حقل (الحكومة) أو (السُّلطة السّياسيَّة) لا يعدو كونه ضرباً من التعسُّف"!
بل: إنّ التّمسّك بظرفيّة سبب النزول، وحصر دلالة الحكم فيما ذكره الأستاذ كمال الجزولي تبعاً للدكتور محمد عمارة، هو عينُ التّعسّف!
وفي الواقع، لقد ذهب معظم الأئمة في تفسير آيات المائدة الثلاث، إلى ما قرّرهُ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه "أضواء البيان" من قوله: "واعلَم أنَّ تحريرَ المقام في هذا البحث: أنَّ الكفر والظلم والفِسق كلُّ واحدٍ منها ربما أُطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفرَ المخرجَ من الملة أخرى, ((ومَن لم يحكم بما أنزل الله)) معارضةً للرُّسل وإبطالاً لأحكام الله؛ فَظُلْمُهُ وفِسْقُهُ وكُفْرُهُ كلها كفر مخرج عن الملة، ((ومَن لم يحكم بما أنزل الله)) معتقداً أنَّه مُرتكبٌ حراماً فاعلٌ قبيحاً؛ فَكُفْرُهُ وظُلْمُهُ وفِسْقُهُ غيرُ مخرج عن الملَّة، وقد عَرَفْتَ أنَّ ظاهر القرآن يدلُّ على أنَّ الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النَّصارى، والعبرةُ بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب" (أضواء البيان، سورة المائدة، تفسير الآيات 44، 45، 47).
وتلك الحقائق الثلاث التي قرّرها كمال الجزوليّ، حول مفهوم الدولة في الثقافة الإسلامية، لا تحولُ بين الدولة وممارسة الحكم الشرعيِّ، بدعوى عدم وجود أحكامٍ تضبط حقل السياسة والسلطة في الإسلام، لماذا؟ لأنَّه قد وردت في القرآن الكريم أحكامٌ تتعلّق بقضايا الأحوال الشخصية والجنايات وغيرها، فهذه الأحكامُ مَن الّذي يُصدرُها ويَفرضُها حتّى تكون واجبة النّفاذ؟ أليس هو الحاكم أو السلطة السّياسية، كيفما كانت، وأيّاً كانت؟!
(علمانيّة أم حاكميّة؟):
فالأستاذ كمال الجزولي، كأنه يسعى اعتماداً على النصوص الشرعيّة، إلى تقرير مبدأ الفصل بين الدين والدولة، لكنّ الأدلّة التي ذكرها -كما رأينا- لا تُعينه على ذلك.
لا يُعينه على ذلك إلا ما ذكره بنفسه من "وقائع الخلط والتخليط اللذين توحَّل فيهما (الخوارج) قديماً بشأن مرتبة (الإمامة)"، وكذلك وقائع الخلط والتّخليط اللتين توحّلت فيهما حركاتُ الإسلام السّياسيّ المعاصرة، وخاصَّةً حركة الاتجاه الإسلاميّ، والجبهة الإسلامية القومية في السودان، ومن خلال ما سمَّوه بالمشروع الحضاريِّ الإسلاميِّ، والّذي تجسّد في سيِّئة الذّكر حكومة الإنقاذ الوطنيّ.
أمّا النّصوص الشرعيّة، فإنّها صريحة في الدِّلالة على مفهوم "الحاكميَّة الإلهيّة"، باعتباره مظهرَ الخضوع والعبوديّة لله -عزّ وجلّ- أو كما قال تعالى: ((إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)) (يوسف، 40)، فالقرآن كلُّه والسّنة المطهّرة، كلُّ حكمٍ فيها من الله -عزّ وجلّ- أو رسوله، سواءٌ تعلّق بدائرة العقيدة أو الأخلاق أو الضوابط الاجتماعيّة أو المعاملات المدنيَّة أو التّقنينات الجنائية، إنّما هو لبنة في صرح الحاكمية الإلهية، الّتي أمر الله –عزّ وجلّ- بإقامتها في حياة الفرد وحياة المجتمع!
وهذا المفهوم لا يتعارضُ مع حقيقة الفراغ الّذي تركه الشارع، فيما يتعلّق بالنظام السياسيّ وشكله وضوابطه، وما ذلك إلا ليُنشئ كلّ مجتمعٍ أنظمته السياسية والاجتماعية، بمراعاة المرحلة التطورية التي يمرُّ بها، وبما يُحقّقُ مبادئ العدالة والمساواة. (راجع: النظريات السياسية الإسلامية، لضياء الدين الريس).
(الحاكميّة تشملُ أمري الدّين والدنيا):
ويُمكننا باستخدام مفهوم التّمييز بين "أمر الدّين" و"أمرُ الدنيا" أن نقول: إنّ مفهوم الحاكمية يتمثّل في "أمر الدّين" الّذي يجب على كلِّ مسلمٍ إقامته، لكن في حدود الإمكان والوُسع والاستطاعة، وبالتّالي فإنّ مفهوم الحاكمية كذلك يتمثّل في "أمر الدّنيا".
ونحن في الواقع أمام ضربٍ من الصّيرورة، يتواردُ فيه معنى الوجوب الّذي يحمله قولُ الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه حق تقاته)) (آل عمران، 102)، ومعنى الإمكان الّذي يحمله قول الله تعالى: ((فاتقوا اللَّه ما استطعتم)) (التغابن، 16)، في سياق الصَّيرورة الإنسانيّة والاجتماعيّة!
إذن، فالإسلام يشمل كلا الأمرين: "أمر الدّين" حيث تتمثّل الغايات النهائية التي ينبغي على المسلم فرداً أو جماعةً أن يسعى إلى إقامتها، و"أمر الدنيا" أو البيئة التي ستشهدُ حركة الإنسان وسعيه، وتَرد هنا كلُّ النّصوص الشرعية الّتي تُشير إلى معنى الاستطاعة والإمكان، بل هنا قد يؤول الأمر إلى مُطلق الفكر الإنسانيّ، وذلك فيما يتعلّق بالقضايا العلميّة والتّقنية البحتة، خاصّةً.
إذن، يمكننا القول، إنّهما حاكميّتان:
أولاهما: حاكميّة إلهية تستهدفُ -بوعيٍ كامل- تحقيق الكرامة الإنسانية وإعلاء قيم العدل والمساواة والإخاء، وذلك من خلال سعيها إلى تحقيق قيم الدّين بصورةٍ كلّيّة متكاملة، تشملُ في المقام الأول بناء القاعدة الأخلاقيّة: (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق) على أساس العقيدة، ثم تسعى إلى تطبيق "الأحكام الشرعيّة" بصورة متدرجة تُراعي تطوُّر المجتمع. ويُشكّل الحضور الإلهيُّ في هذه الحاكميّة ضمانةً لاحترام تلك القيم والمبادئ الإنسانيّة.
والأخرى: حاكميّةً سياسيّةً قانونيّة، تسعى -بوعيٍ أو بدون وعيٍ- إلى تثبيت الأوضاع الراهنة بكلّ ما فيها من ظلمٍ واستغلال، وذلك خدمةً لمصالح بعض فئات المجتمع، مُعتمدةً في ذلك على الاجتهاد في تطبيق الحدود والزّواجر الإسلاميّة خاصّةً، ومن الواضح أنّ الحضور الإلهيّ في هذه الحاكميّة، هو ضمانة لتحقيق مصلحة الفئة الحاكمة، الأمر الّذي يجعلها قريبةً من القول بنظرية الحقِّ الإلهيِّ في الحكم، التي يقومُ على أساسها النِّظام الثيوقراطيّ، أو الدولة الدينيّة بمعناها المنبوذ اتّفاقاً.
وكما رأينا في الحلقة الأولى من هذه القراءة، فإنّ "قوانين الحدود والجنايات" إنّما شُرعت بعد قيام المجتمع الإسلاميّ المتكافل في المدينة المنورة، ومن أجل حمايته، وبالتالي فإنّ البدء بإقامتها قبل إقامة مثل هذا المجتمع، هو خطأٌ وخطرٌ كبير، من شأنه أن يؤدّي إلى نظامٍ ثيوقراطيٍّ مستبد!
وأُريد أن أُنبِّه إلى خطأ واضح، وقع فيه الأستاذ كمال الجزولي، إذ جمع بين "الخوارج" و"سيّد قطب والمودودي" في سلّةٍ واحدة، والأخيران لا يستحقّان منه هذا المكان، لكنّهما ضحيّة لسوء الفهم من أتباعهما في المقام الأول، ولولا ضيقُ المجال لذكرت نصوصاً عديدة من كتب الرجلين ومؤلّفاتهما، تؤكد أنّ الحاكمية عندهما تشمل "المشاعر والشّعائر والشّرائع"، وأنّهما أبعدُ ما يكونان عن "الحاكمية الإلهية السّياسيّة"!
(خاتمة):
ختاماً لهذا السّجال الفكريّ، أعود إلى البدء حيثُ قرّر الأستاذ كمال الجزوليّ: أنّ نصوص القرآن الكريم والسّنة الصَّحيحة، هي مصدر الشرعية الإسلامية العليا، لأقول: وبما أنّها نصوصٌ لغويّة، إذن فهي "نصوصٌ فكريّة" تقبل الدراسة العلميَّة والنقدية!
بل هي تتضمّن دعوةً موجّهةً للمسلمين وغيرهم أن تدبّروا وتفكَّروا في معانيها!
ومن لوازم هذا التفكر، أن يسعى الباحثُ إلى بلورة رؤيةٍ متكاملة، يُوظِّف من خلالها جملة النصوص الشرعيّة، غيرَ مسقطٍ من حسابه أيّ نصٍّ من هذه النّصوص، بل يُعملها جميعاً بحسب دلالاتها اللّغوية، وينظر إلام تؤدّي!
وعندئذٍ، وبمقتضى هذا النظر المنهجيّ، في النّصوص الشرعية، ينبغي على من يُريد إثباتَ أو نفيَ أيّ حكمٍ أو مفهومٍ، يتعلّق بالإسلام في أيّ جانبٍ من جوانبه، أن يكون واعياً بالجوانب الأخرى من الصّورة الكلية.
هذا المنظور المنهجيّ، غفل عنه دعاةُ الإسلام السّياسيّ، كما غفل عنه المناوئون لهم! والله تعالى أعلم!
يتجدّد لقاؤنا بإذن الله في الحلقة الثالثة من هذه القراءة.
صلاح عبّاس فقير
الثَّاني من أكتوبر 2009م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.