غرب كردفان تبحث جهود تحرير الولاية ودحر المليشيا المتمردة    وزير الداخلية يترأس لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العامية السودانية بين قول الروب والسمحة ام جضوم .. بقلم: مبارك مجذوب الشريف
نشر في سودانيل يوم 27 - 12 - 2013

الإنسان ابن بيئته، وهذا القول لم يغادر الشعراء فيه من متردم، بل قول أثبتت الأيام صحته، فالبيئة تؤثر في السلوك وأحياناُ تحدد الطول والشكل العام، كما أنها تؤثر في اللسان، والبيئة السودانية عموما بيئة رعوية زراعية، ففي عام 1956 كانت نسبة الحضر حوالي تسعة في المائة فقط من عدد السكان، وفي إحصاء عام 1993 ارتفعت النسبة لتكون حوالي ثلاثين بالمائة، ووصلت هذه النسبة حاليا إلى حوالي خمسين بالمائة، وهذه الزيادة المضطردة في نسبة التمدن لا شك أنها ستؤثر على أشياء كثيرة وضمن ما تؤثر فيه على اللسان، فتغلب ألفاظ الحضارة و يصبح اللسان أكثر ليناً، ولكن هذا التأثير لا يحدث فوراً بل يحتاج إلى وقت طويل لكي تظهر ثماره.
ومن أمثلة ما يعبر فعلا عن تغلغل الروح البدوية لدينا ما نراه منتشراً في الأمثال الشعبية والأغاني والفنون، وهي تمثل ضمير الشعب وخزانة تراثه وتبوح بمكنوناته النفسية وتكشف طبقات التراكم الحضاري عبر العصور، ففي أمثالنا المتداولة قولنا: الجمل ما بشوف عوجة رقبته، والجواد يجقلب والشكر لحماد، والخلا ولا الرفيق الفسل، ونقول الراعي واعي، ونقول أيضاً حينما تصيبنا أنفة واستعلاء: كبير الجمل، كما نقول لمن نرى أنه قد تجاوز حدوده: (ارعي بقيدك)، ونستخدم كلمة (الروب) في مجال الاستسلام فنطلب من الخصم أن يقول الروب، وجملة (قول الروب) لها أصل فصيح، جاء في لسان العرب:
(ورابَ الرَّجلُ رَوْباً ورُؤُوباً: تَحَيَّر وفَتَرَتْ نَفْسُه من شِبَعٍ أَو نُعاسٍ؛ وقيل: سَكِرَ من النَّوم؛ وقيل: إِذا قام من النوم خاثِرَ البدَنِ والنَّفْسِ؛ وقيل: اخْتَلَطَ عَقْلُه، ورَأْيُه وأَمْرُه.)
وهي ونحن نستخدمها في طلب الاستسلام كأنما نطلب من الشخص ان يقول أن قواي قد خارت واعلن هزيمتي.
ونسمي شعر البشر صوفاً، قال شاعرنا ابو قطاطي:
وقت شفتك
شعرت الرعشة من صوف راسي
لي كرعي
ونتوسع في ذلك ونقول أن قلاناً (قام صوف) أي ركض هارباً وربما كانوا يقصدون أصابته قشعريرة الخوف فوقف شعر رأسه أو صوف رأسه.
وفي أغنية (العزيزة) استخدم شاعرنا سعد الدين إبراهيم مفردة بدوية الطابع هي الشملة ومن من النادر جدا أن تستخدم مفردة كهذه في الغناء، قال:
العزيزة الما بتسأل.. عن ظروفنا
الوحيدة الما بتحاول يوم تشوفنا
ثم بيت القصيد:
سلميلنا علي ايديك وشملة الريد أنسجيها
جاء في اللسان:
(قال أَبو منصور: الشَّمْلة عند العرب مِئْزَرٌ من صوف أَو شَعَر يُؤْتَزَرُ به)
ويبدو تأثير البداوة واضحاً حين نقول لثدي المرأة (شطر)، والشطر للناقة وللشاة
ورد في اللسان:
(وللناقة شَطْرَانِ قادِمان وآخِرانِ، فكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ، والجمع أَشْطُرٌ.) وجاء ايضاً:
(وشَطْرُ الشاةِ: أَحَدُ خُلْفَيها)
ومع تزايد نسبة التحضر تحاول لهجات العاصمة والمدن التخلص من هذا الإرث البدوي فهي أما أن تختار من الفصحى الألفاظ السهلة وتترك الوعر لأهل القرى والبوادي، أو تترك اللفظ الفصيح كليةً متى ما كان هناك لفظ سهل يحل محله سواء كان هذا اللفظ موروثاً من حضارات سودانية قديمة أو مستعاراً من لغة أجنبية أو حتى ولو من مصدر مجهول، ثم يطوعونه للسان العربي.
ومن الألفاظ التي يتحرج أهل المدن من استخدامها لفظي (أيي) و(أيا)، بمعنى نعم، فهي في نظرهم قروية جافة، رغم أنها أقرب للفصحى من (آآآي)، جاء في اللسان:
( وإِيْ: بمعنى نعم وتوصل باليمين، فيقال إِي والله، وتبدل منها هاء فيقال هِي(
لكن(آآآي) الممطوطة تبدو أكثر نعومة خصوصاً في أفواه النساء، وإن أتى معها قسم زاد المط فتصبح ملحنة (آآآي والله)، ومن لم يمط مطاً فهو لا شك متخلف لم يتمدن بعد، أو جلف من البداة، ومن المدهش أن هذا المط (الحضاري) يصبح مدعاة للتندر علينا لدى أهل الخليج، فإذا أراد البعض من شباب الخليج ممازحة احد السودانيين تصايحوا (آآآآآآي)، وما دروا أنها لهجة يختص بها أهل الحواضر والمدن، وكان الأصمعي لا يعتد بلسان أهل الحواضر.قال الأصمعي:
) أقمت بالمدينة زمانا، ما رأيت بها قصيدة واحدة صحيحة، إلا مصحفة، أو مصنوعة)
وفي سعي أهل المدن لخفة اللسان وحلاوة اللفظ اختاروا (الزير) لوصف الإناء الفخاري المخصص لخزن الماء، وركلوا (الجر) وتركوه لأهل القرى والأرياف، والجر فصيحه (الجرة) بضم الجيم وجمعها جرار وفي الحديث الشريف أَنه نهى عن شرب نبيذ الجر. كما تركوا الرغيف واختاروا العيش، وربما كان ذلك بتأثير من لسان حواضر مصر، جاء في لسان العرب: (رَغَفَ الطِّينَ والعَجينَ يَرْغَفُه رَغْفاً: كَتَّلَه بيديه، وأَصل الرَّغْفِ جمعك الرغيف تُكَتِّلُه. والرغيف الخُبْزة، مشتقّ من ذلك)
أما العيش فقد ورد فيه:
ويقال عَيْش بني فلان اللبَنُ إِذا كانوا يَعِيشون به، وعيش آل فلان الخُبز والحَبّ،
وعَيْشُهم التمْرُ، وربما سمَّوا الخبز عَيْشاً
ويقرن أهل مصر أحياناً بين الرغيف والخبز فيقولون (رغيف الخبز) وتارة (رغيف العيش). روى الجاحظ قصة بخيل مع الرغيف فقال:
كان يجىء من منزله ومعه رغيف فى كمه (جيبه) فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم (بلا ملاح). ولو كان بخيل الجاحظ هذا حياً في زمننا لعاتب الجاحظ وردد مع محجوب شريف القصة ما قصة رغيف.
وكلمة (كراع) مستهجنة لدي متحضري العاصمة والمدن واللفظ السائد هو رجل، والرجل كما جاء في اللسان تطلق على الإنسان وغيره، أي الحيوان، بينما الكُراعُ فيها تفصيل فهي من الإِنسان: ما دون الركبة إِلى الكعب، ومن الدوابِّ: ما دون الكَعْبِ. ولخصوا الاستهجان في طرفة (شيل كراعك من رجلي)
وكلمة (جضم ) القروية تلك الكلمة بشعة الجرس لها أصل في الفصاحة فقد ورد في القاموس المحيط:
الجُضُمُ، بضَمَّتَيْنِ: الكثيرُو الأَكْلِ.
وكجُنْدَبٍ: الضَّخْمُ الجَنْبَيْنِ والوَسَطِ.
والتَّجَضُّمُ: الأَخْذُ بالفَمِ.
ولكن (جضم) لن تنافس كلمة (خد) هذه الكلمة الرقيقة الفصيحة السلسلة في لسان أهل المدن، ويكاد أهل المدن يحصرون استخدامها على النساء، غنى ابراهيم الكاشف:
فوق الخديد عاجباني شامه ومن العيون ياالله السلامه،
ورأي أسلافنا أن الخد المشلخ أكثر جمالا من الخد السادة فنظموا في ذلك الأشعار:
النهيد رُمان
والشلوخ مطارق
جوز البرتكان
الكان في قلبي حارق
وقال ابو صلاح في أغنية بدور القلعة:
ياأم شلوخا عشرة مسطره
جلسة ياأبو الحاج اتذكرا
والشلخ فصيحة، جاء في اللسان:
الشَّلْخُ: الأَصلُ والعِرْقُ
ولو تمعنا في هذا القول لوجدنا أن مهمة (الشلوخ) الأساسية لم تكن مهمة جمالية بل كانت لتمييز القبائل، وهو ما ذهب إليه البروفيسور يوسف فضل حسن، ويؤيد هذا التفسير أن لكل قبيلة (شلخاً) يختلف عن القبيلة الأخرى، ثم انحسر الشلخ عن الرجال تدريجياً وبقي مع النساء، ومن الطبيعي في ظل خضوع المرأة له أن يكتسب دلالات جمالية، ثم اختفى كلية بانتفاء مبرراته العرقية والجمالية. ومثلما آمن الشعراء بالشلخ في دهر كفروا به في دهر تال عند انتشار التعليم وارتقاء الثقافة والاحتكاك بحضارات أخرى، قال سيد عبد العزيز:
جنن عقلى يالسادة
وحب الكايدة حسادة
والسادة هي الخدود دون شلخ.
وغنى ابو عركي من أشعار عوض جبريل:
الجميل السادة وضاح المحيا
التفت يوم شفته ما قبلان تحية
وكلمة (سادة) نفسها هذه الكلمة الشهيرة فارسية، وتعني الخالي من الزخرف والنقوش، وارتبطت بشدة مع الشاي والقهوة إشارة لخلوهما من الحليب.
وإن كان الشعراء تغنوا بالخد والخديد، فالجضوم لسوء الحظ لا تذكر إلا في معرض الذم، ولم نسمع شاعرا من شعراء الأغاني تغنى بجضوم حبيبته، بل تركوا هذا اللفظ غير مأسوف عليه لشعراء حلمنتيش يجضمونه تجضيماً ولا يبالون. قال احد شعرائهم:
احبك انتي يا ام قدوم؟
احبك انتي بس كيفن
ووشك انتي كلو جضوم؟
وانشد الجاغوم بن بلاع:
نعستي يا السمحة أم جضوم؟
وغير بعيد عن الجضوم يستقر الشعف، وهو اللفظ المستخدم في القرى لوصف مقدمة شعر الرأس وأعلاه، جاء في اللسان:
(ومنه حديث يأْجوج ومأْجوجَ: فقال عِراضُ الوُجوهِ صِغارُ العُيون شُهْبُ الشِّعافِ من كل حدَب يَنْسِلُون؛ قوله صهب الشِّعاف يريد شعور رؤوسهم، واحدتها شَعَفة، وهي أَعْلى الشعر.)، وأهل المدن في الخمسينات والستينات كانوا يصفون الرجل إذا أشعف بانه صاحب ( قجة)) أما قجة فهي تركية وقال آخرون بل هي من لغة التيجراي وتعني القطية، وكلمة قجة لا تطلق على شعر كل من هب ودب ولا على شعر كل شخص أشعث اغبر بل على من أشعف ثم استخدم المشط وأصابت يد الحلاق شيئا من جوانب شعره تاركة القجة تتوسط رأسه كعلامة من علامات التحضر، ومن أشهر قجج الستينات من القرن الماضي أن جاز التعبير قجة ابراهيم عوض، وهناك واحدة أخرى شهيرة لإسماعيل عبد المعين.
وافتتنت الفتيات بأصحاب القجج فجاء شدوهن:
حبيت اب قجيجة اريته اب صلعة طاير
وغنت أخرى:
اب قجيجة الرسول تتم الريدة
وغنت ثالثة:
الكوبري قفلوه
وأنا قلبي فتحوهو
عشان حبيبي أب قجيجة
لي كوستي نقلوه
وانتبه مصممو الأزياء إلى وله النساء بأصحاب القجج وهم في الغالب من طبقة الأفندية، مع ما تعنيه كلمة أفندي في ذلك الزمان من رغد العيش والرقي والتحضر، فأنتجوا للنساء ثوباً أطلقوا عليه اب قجيجة، ونثروا على صفحته كتل خيوط صغيرة ترمز للقجة، وكان هذا الثوب في أول أمره عزيزاً ترفل فيه نساء علية القوم، ثم أصابته غوائل الدهر وسقط من عرشه مفسحا المجال لغيره في تداول حميد للسلطة.
ونقيض القجة هي (التفة)، فالأولى تشير إلى النظافة والترتيب والثانية تشير للفوضى، جاء في اللسان في مادة تفف: (وقال أَبو طالب: قولهم أُّفٌّ وأُّفَّةٌ وتُفٌّ وتُفّةٌ، فالأُفُّ وسخُ الأُذن، والتفّ وسخ الأَظْفار، فكان ذلك يقال عند الشي يستقذر ثم كثر حتى صاروا يستعملونه عند كل ما يتَأَذَّوْنَ به) وأهل القرى يستخدمون (التفة) عند التأذي من كثرة الشعر فيقال فلان أب تفة، أو امشي با ولد احلق التفة دي، ولما سقطت دولة الأفندية وذهب ريحهم وأصبحوا كالأيتام على موائد اللئام، وكفت الفتيات عن التغني بهم وبقججهم، توارت القجة وجاءت (الخنفسة)، وهو لفظ جاء من فرقة االخنافس البريطانية التي اشتهرت ردحاً من الزمن في الستينات من القرن الماضي واشتهر أفرادها بإطالة شعورهم، ووصل تأثيرها الحضاري لنا في بداية السبعينات في ما سمي بموضة الخنفسة، وتفة هؤلاء القوم إن طالت استرسلت ونزلت على الأكتاف بينما تفتنا نحن أن طالت اشعثت وارتفعت لأعلى فكأنها نبتة حناء أو شجيرة طندب. وآخر علاجها الكي لتسترسل ويصبح جمعها سبطاً.
لم يكتف القرويون بالشعفة فقط بل جرت على السنتهم وفي بطونهم أم شعيفة، وهو إدام من بصل وماء وبهارات تضاف لها البامية الناشفة (الويكة ) مع تغييب قسري في هذه الجلسة لسيد الطعام اللحم، قال عبد الله الطيب:
وأعلم يا صاح أنه إذا خلا ملاح الويكة من اللحم أو الشرموط فإنه يسمى ملاح أم شعيفة .. ومن هنا جاء المثل : " أم شعيفة كيّة المرأة الضيفة " !
وذكر عبد الله الطيب أيضاً إن السيد عبد الرحمن المهدى ابتدر تقديم الملاح السودانى مع العصيدة وقدمه لعلى ماهر باشا لما زار السودان عام 1936، يقول عبد الله الطيب وهو يصف انطباع على ماهر: "واعجبه الملاح ولكن لم تعجبه بداوة إشتراك الناس فى أكله من إناء واحد فقال: بس ولو كان كل واحد معجنته لوحديها "
وكلمة الملاح نفسها لها أصل في الفصيح وذات صلة بحياة التنقل والترحل، وقد وردت بضم الميم وتشديد اللام، جاء في اللسان:
)وقال ابن سيده: قال أَبو حنيفة: المُلاَّحُ حَمْضَة مثل القُلاَّم فيه حمرة يؤكل مع اللبن يُتَنَقَّلُ به، وله حب يجمع كما يجمع الفَثُّ ويُخْبز فيؤكل، قال: وأَحْسِبُه سمي مُلاَّحاً للَّوْن لا للطعم)، والحمض المقصود هنا هو كل نبت في طعمه حُموضة، فبداية اللفظ كانت نبات معين يؤكل مع اللبن ثم عمم عندنا على كل نبات مطبوخ سواء مع اللبن أو بدونه. من ملوخية أو رجلة أو غيرها والرجلة لدى العرب هي البقلة الحمقاء، ورغم فصاحة (خضرة) التي ينطقها أهل القرى (خدرة) فقد اختار أهل المدن ملوخية عوضاً عنها وهي كلمة فرعونية جاء في اللسان:
والخُضْرَةُ والخَضِرُ والخَضِيرُ: اسم للبقلة الخَضْراءِ
ويولع أهل المدن بتنويع الطعام وانواع (الملاح) اوالتفنن في الطبخ ورغم كل ذلك لا يجدون بأسا في أكل ما هو تيئ لا يعرض على النار من شاكلة ما يفعله جمهور عريض من اهل القرى والبوادي خصوصا في ايام الاضحية من أكلهم الكبد والكرش وام فتفت طازجة، وام فتفت فيها شيء من فصاحة، جاء في اللسان:
والفُتَّة: بَعْرة، أَو رَوْثة مَفْتوتة، تُوضَع تحتَ الزَّنْدِ عند القَدْح.
وكما هو واضح فإن لفظ أم في االإسم يشير إلى احتوائها الروث وهي كذلك.
ومن الحضارة انتعال الشبشب داخل المنزل وما كان أهل الأرياف يعرفون ذلك، والشبشب أصلها قبطي (سب سويب) ومعناها مقياس القدم، وفي أحد أحياء العاصمة قبضت النسوة على لص فأوسعنه ضرباً بالشباشب وهو غير مبال، إذ لا عكاز لاح في الأفق، ولو درى أن عز الدين ايبك زوج شجرة الدر لقي حتفه بشباشب الجواري لاستغاث من ساعته بالشرطة.
وينتصر أهل المدن للفصيح السهل في كلمة (شفة) رغم أنهم ينطقونها بتشديد الفاء فمن الكبائر في المدن أن تقول (شلوفة) لوصف ذلك الجزء من فم الإنسان، وقد كان (دق الشلوفة) طقساً من طقوس الزواج في كثير من مناطق السودان خضعت له جداتنا بحثاً عن اللمى وهو سمرة الشفاه، وكان طقساً مرعباً واكتفت الأجيال الجديدة بالتيمن باللمى بعيداً عن عذابه فكان اسم (لمياء) ، وقدم احمر الشفاه الحل لهن دون تكبد مشاق ولا وخز أبر. ورحم الله جداتنا فقد بذلن كل نفيس وغال لإرضاء أجدادنا من ختان، ودق شلوفة، وثقب انف وأذن ، ورغم ذلك ما لان هؤلاء الجبابرة لصوت بلابل الدوح.
ومن الألفاظ التي تغيرت باستمرار في لسان الحواضر كلمة المرحاض، فهي تتبدل مع تبدل الغزاة، فالمرحاض لم يكن ضرورة في بدايات تأسيس المدن الكبرى، وحين أصبح ضرورة سمي بالمستراح وهي في الفصيح المخرج والعلاقة واضحة، ثم تحول إلى ادبخانة عند مجيء الاتراك، ثم دبليو سي عند دخول الانجليز السودان، من W.C وترجمها المترجمون ترجمة حرفية هي دورة المياه، مع أنها ليست كذلك، فالمياه فيها تمضى في اتجاه واحد ولا تدور ولا تعود مرة أخرى، ثم اشتهرت أيضاً توليت وهي كلمة ذات أصل فرنسي، وأخيرا أتى أهل المدن بكلمة حمام الفصيحة فقطعت جهيزة قول كل خطيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.