النظافة من الإيمان. و النظافة عنوان لحضارة الشعوب, أي إذا أردت أن تقف علي المستوي الحضاري لشعب ما , أنظر إلي مستوي النظافة العام في البلد. الخرطوم هي عاصمة بلادنا. و هي من ناحية الموقع تعتبر عاصمة فريدة في العالم, إذ تقع الخرطوم عند تلاقي نيلين, هما النيل الأبيض و النيل الأزرق, اللذين يشكل إلتقائهما منظراً جذاباً و فريداً, قل أن نشاهده في بقاع أخري من العالم. و قد أضافت المنشآت التي أقيمت حديثاً, مثل كوبري توتي المعلق و كوبري المك نمر و المنشية و غيرها من العمائر العالية بعداً جمالياً لعاصمة البلاد. و عند إكتمال المنشآت المزمع إقامتها في منطقة مقرن النيلين ستكون صورة العاصمة أجمل بلاشك. لكن في المقابل, فإن عاصمة بلادنا تعاني من الإتساخ و إهمال عملية النظافة, إذ يلاحظ المرء تراكم الأوساخ و الأتربة علي جانبي الطرقات و في الساحات العامة و أمام المحلات التجارية و أمام البيوت . زرت الخرطوم بعد غياب نحواً من عامين. لم يسرني مستوي النظافة و لا سلوك المارة علي الطريق العام, إذ يلاحظ المرء كثرة بصق المارة علي الأرض. و لا أدري السبب الذي يجعل البعض يبصقون علي الأرض سواء من هو راجل أو راكب لسيارته, إذ يفتح البعض باب السيارة و يبصق علي الأرض, بل لا يستحي البعض من أن يبصق أمامك و كأنه يتعمد إستفزازك!! هذا سلوك غير حضاري يسئي إلينا أمام ضيوفنا. لن أتحدث عن ما فعلته مياه الأمطار من حالات غرق و تدمير لبعض المنشآت العامة و للمنازل. و معلوم أن هذه تسبب فيها عدم وجود شبكة للصرف الصحي التي تجعلنا نستفيد من هذه المياه التي تسقط من السماء كنعمة, و لكنها تتحول إلي نقمة , إذ ينتج عنها تلوث البيئة, و إنتشار الذباب و البعوض التي تنقل بدورها الأمراض, و لكني أتحدث عن تراكم الأوساخ بالكيمان علي جانبي الطرقات, و أمام المحلات التجارية, و أمام المنازل. و أتساءل: اين هي البلدية المسئولة عن نقل القمامة و التخلص منها, قبل أن تتعفن و تتحلل و تتسبب في إنتشار الأمراض؟ أوليست عملية نقل هذه النفايات من مسئولية البلدية؟ أم أنه لا توجد ميزانية كافية للنظافة؟ أين العمالة الأجنبية الماهرة في عملية النظافة و التي يتحدثون عنها؟ يؤثر عن السودانيين أنهم يعتنون بنظافة منازلهم. و في السنين الأخيرة عمل الكثيرون علي بناء المنازل العالية و السكني داخل الشقق الأنيقة, و لكن علي النقيض من هذا نشاهد الأوساخ تتراكم أمام منازلهم , و كأنه لوحة سيريالية تحكي عن واقع الأحياء السكنية في عاصمة البلاد!! إن هذا السلوك يعني ضعفاً في التربية الوطنية التي تعلي من شأن القيم العليا في الحياة, و منها إحترام النظام العام, و العناية بالممتلكات العامة. إن عملية إلقاء البعض للنفايات أمام منازلهم و في الطرقات العامة يعد سلوك غير حضاري يجمل بنا أن ننأي عنه حتي نلحق بركب الشعوب المتحضرة. قبل ذهابي إلي الخرطوم زرت عمان عاصمة الأردن مرافقاً لشقيقي الذي سافر في رحلة علاج , و قضينا بها ثمانية عشر يوم من رمضان المنصرم, ووصلنا الخرطوم أول أيام عيد الفطر المبارك مساءً بسبب تأخر رحلة سودانير عن موعدها مرتين. عمان مدينة جميلة تتمتع بمستوي حضاري عال من ناحية النظافة و تخطيط الشوارع و الساحات و إحترام الناس لنظام المرور و النظام العام. و أهل الأردن شعب ودود يتميز بإحترام النظام العام للبلد, و يبدو أن هذا هو العامل الرئيسي في وصول الأردن إلي هذا المستوي المتقدم رغم فقرها في الموارد الطبيعية. نعم أن حسن الإدارة و كفاءة التنظيم هما عنصرين ضرورين للنجاح. رغم هذا الفقر إلا أن هذا البلد تمكن من توظيف الموارد البشرية توظيفاً سليماً, و من ذلك بناء قاعدة ضخمة لخدمات العلاج, تمثل أكبر قاعدة علاجية في العالم العربي و تمكن الأردن من جذب الكثيرين للعلاج و أضاف إلي دخله القومي. من هؤلاء الذين يزورون الأردن بكثرة, السودانيين حيث تبلغ تحويلات السودانيين للعلاج فقط نحواً من أربعمائة مليون دولار سنوياً! و رغم تقديرنا لخدمات العلاج التي يلقاها السودانيين في هذا البلد, إلا أن هذه الأموال الضخمة التي تحول إلي هناك تمثل هدراً لموارد بلادنا. متي ننهض بخدمات العلاج و التطببيب في بلادنا حتي نحافظ علي مواردنا المالية؟ في عمان أفادني أحد السودانيين و يقيم هناك منذ أكثر من ثلاثين سنة, أن عمان لم يكن بها حتي أوائل السبعينات من القرن المنصرم غير شارعين, و لكنها اليوم مدينة كبيرة و أنيقة تضارع في عمرانها عواصم أخري سبقتها في ميدان المدنية. الأمر الآخر الملفت للنظر في عاصمة بلادنا, هو قلة خدمات التاكسي, إذ كاد أن ينقرض هذا التاكسي في العاصمة. و السيارات الموجودة هي سيارات قديمة و متهالكة, أكل عليها الدهر و شرب. خدمات التاكسي تعتبر من أهم الخدمات التي ينبغي أن تتوفر للمواطن و للسائح الأجنبي, إذ يعمل سائق التاكسي دليلاً لهذا الأجنبي. قبل سفري بيومين و بعد إكمال إجراءات الحجز و السفر لدي مكتب سودانير الذي يقع في نهاية شارع المك نمر من الناحية الشمالية, أي ناحية شارع النيل, قمت بجولة في شارع النيل لرؤية المنشآت الجديدة. إقتربت من سيارة تاكسي كانت تقف بجوار كوبري توتي المعلق, و كان سائقها يتأهب لغسلها, و طلبت منه أن يعبر بي إلي توتي عبر هذا الكوبري الجديد. رحب بي هذا الرجل ترحيباً حاراً و كان رجلاً كريماً, إذ عاملني كضيف قادم إلي البلاد, و طلب مني جنيه واحد فقط , فنفحته جنيهين (صم). قمنا بجولة قصيرة في جزيرة توتي, و هي موقع متفرد في حاجة إلي عمل و تجميل حتي تصبح قبلة للسياح و تضيف إلي سكانها من الدخل. لقد قمت برحلة مماثلة لهذه إلي كوبري دنقلا الجديد, و ذلك عند ذهابي إلي دنقلا لإنهاء إجراءات تأشيرة السفر. أصطحبني سائق سيارة (أمجاد) و عبر بي إلي الضفة الشرقيةلدنقلا العرضي, حيث ربط هذا الكوبري مناطق دنقلا و المحس و حلفا مع بعضها و أصبح السفر ميسوراً. أذكر أن سائق التاكسي في الخرطوم وقف عند إحدي إشارات المرور, و تبادل الحديث مع سائق تاكسي زميل له وقف بجانبه, و علق هذا الرجل علي ضرورة إحترام نظام المرور وان هذا النظام لم يعد يلتزم به غير سائق التاكسي. أمنت علي حديثه و أفدته أن سائق التاكسي ينقل بسلوكه هذا للأجنبي الزائر صورة صادقة عن سلوك أفراد المجتمع و مدي تحضرهم. آمل أن تهتم الدولة بخدمات التاكسي و أن يعاد للتاكسي مجده الغابر, بدلاً من هذه السيارات الصغيرة التي تملأ الشوارع, و يعمل سائقيها حسب المزاج. كما آمل أن تهتم الجهة المختصة بعملية النظافة, و توعية المواطن بضرورة أن يسلك سلوكاً حضارياً في تعامله مع الطريق العام, و عدم رمي النفايات علي قارعة الطريق و الساحات العامة. إننا بسلوكنا نساهم في تجميل عاصمتنا و نعكس صورة للآخر عن ذاتنا إيجاباً كانت أم سلباً. رشيد خالد إدريس موسي الرياض/ السعودية