ذات يوم في الرباط زارني بمكتبي اللواء الراحل محمد عبد القادر , جلس امامي , وتشعب الحديث بيننا , فالرجل عرف بزهده وتدينه , وصرامته العسكرية, وايامه كحاكم لولاية كسلا تشهد بذلك . والحديث ذو شجون , شمل موضوعات عده , واذكر باني قد سألته عما إذا كان قد بدأ في كتابة مذكراته, ولاسيما وله تجارب عده حين تسنمه اعلي الوظائف في القوات المسلحة, والعمل السياسي, وله مواقف مشهودة مع الرئيس الراحل جعفر نميري, وأكد لي بأنه شرع في ذلك – رحل الفقيد .. ومكتباتنا مازالت خالية منها – وتأكيدا لما ظل يردده دائما بأن علي الانسان ان يلتزم بتعاليم الدين الحنيف طفق يجري مقارنة باؤلئك الذين التزموا بالتعاليم السمحة للدين, وكيف انعكس الالتزام بهذه التعاليم علي سلوك واداء الفرد , وفي هذا المضمار : قال بأنه زار احدي السفارات ووجد الدبلوماسي عمر بريدو مثالا للإنضباط, وذكر اسم زميل له اّّخر سار علي عكس سلوكيات عمر وإنساق وراء مغريات الحياة, واعطي نموذجا سيئا في الاستهتار والتسيب. قرأت كتاب السفير عمر بريدو وفي مخيلتي ماذكره اللواء الراحل, إضافة لما عرفته عنه داخل وزارة الخارجية, وأثناء سفر لي معه لأديس ابابا, فالرجل عف اللسان, جاد في نظرته للحياة ' وقد وفقه الله ان ينجح في مهامه' ويصل الي اعلي المراتب التي يصبو اليها منتسبو الخدمة العامة. اولي الملاحظات عن الكتاب ' أصالة السفير عمر في إختيار العنوان ( كقروي ) تماما كابن مدينته الراحل عبد الله رجب ومذكرات ( اغبش ) بينما هناك كثيرون ينكرون منبتهم ' ظنا منهم بأن ذلك سيضعهم في خانة غير المواكبين للحضارة ! ' ودمعت عيناي وهو يسرد بصدق حضوره احتفال عام بمناسبة تفوقه بالمرحلة الاولية : ولم يكن يملك حذاءا مناسبا : واستلف من احد زملائه حذاءا كان واسعا علي قدميه : وعاني ما عاني ليصل للمنصة لإستلام جائزته ' وهناك كثيرون يعتقدون ان الفقر عيب وسبه ! ثاني الملاحظات : ماذكره عن دور الراحل احمد خير في قبوله كدبلوماسي بوزارة الخارجية برفقة زميليه مامون ابراهيم حسن وعبد الله ميرغني رغم تقارير امنية كانت توصي بعدم قبولهم لنشاطات لهم داخل الجامعة ضد الحكم العسكري ' اعترض الوزير احمد خير علي سلطات الامن قائلا بأنه يريد في الخارجية مثل هؤلاء المهتمين بالشأن العام ' واحمد خير رجل وطني سوداني تغلغلت تعاليم الدين الحنيف في سجاياه ' ولا غروه فهو سليل اسرة صوفية ' ولكنه لم يدع يوما بأنه ناطق بإسم شرع الله ' ولم يرفع عقيرته بإدعاءات تكذبها الافعال ' وربما يصنف لدي البعض الذين تربوا علي الشعارات بأنه (علماني ). وثالت الملاحظات : ذكر السفير عمر بأن بقاءه حين طاله سيف التطهير بعد انقلاب مايو ' كان بفضل تدخل وكيل وزارة الخارجية اّّنذاك الراحل جمال محمد احمد ' والذي ظل في كل ما يتصف به اقرب الي ما يدعو اليه الدين الحنيف من نبل وصدق وتلقائية محببة ' وجمال بدوره وصفه بعض المدعين بالعلماني وكأنما العلمانية ( كفر وزندقه ). ورابع الملاحظات والتي اريد التركيز عليها ' ما ذكره السفير عمر عن تجنيده في الحركة الاسلامية منذ عهد المرحلة الابتدائية ( المتوسطه ) ورغم كثير من التحفظات علي مثل هذا التجنيد في هذه المرحلة المبكره وتأثيره السلبي علي ( التكوين السياسي ) للإنسان من حيث الانغلاق في اطار معين ' بيد أن الانتماء لحركة دينية ربما يدفع الانسان في تلك المرحلة للتمسك بثوابت الدين من صلاة وصيام ' ومن ثم محاولات الغوص في تفهم مقاصد الدين في السلوك الحسن تحت اطار ( الدين المعاملة ) و ( رأس الحكمة مخافة الله ). وفي هذا الاطار ( التربوي ) يكون التزام الفرد لهذا الخيار شيئا مقبولا ولازما ' ولكن لو انتقل هذا الالتزام الي اّخر سياسي ' فإن نتائجه وخيمة حسبما تراءي لنا في مسيرة ( الاسلام السياسي ) الذي بدأه الشيخ الراحل حسن البنا من مرحلته الاستيعابية الي الاقصائية . وهذا التحول الدراماتيكي من الاستيعابي الي الاقصائي فرضه الاقحام الغير مرشد للدين فيي اتون الصراعات السياسية ' ليحدث الانشقاق والانشطار وسط المسلمين انفسهم ' والامثلة كثيرة في هذا الصدد عند قراءة التاريخ الاسلامي منذ اغتيال امير المؤمنين عمر بن الخطاب ' ثم مجئ سيدنا عثمان بن عفان الي سدة الخلافة ومجابهة بعض المسلمين له وإغتياله ثم اندلاع الفتنة الكبري والتي قتل خلالها أمام المتقين علي بن ابي طالب وراح ضحيتها حفيدا الرسول (ص) الحسن والحسين : وتحولت الخلافة الي ملك عضوض ' وخلاف مخيف بين البيت الأموي والعباسي :والامثلة كثيرة في هذا المجال . ما اود ان اخلص اليه بأن نشأة السفير عمر في جو ديني ' ومن حوله الانصار والمتصوفة ' قد جعلت منه النموذج الذي حكي عنه اللواء الراحل محمد عبد القادر ' وجعلته صادقا مع نفسه يثني علي الكثيرين من الذين عملو معه او عمل تحت إمرتهم – وهذه البيئة الفاضلة التي نمت تحت رايات التصوف والاسلام الشعبي والالمام بحضارت السودان المتنوعه ' قد اثرت في تكوين الشخصية السودانية وانتجت امثال :- اسماعيل الازهري ' واحمد خير , وجمال محمد احمد ' وفخر الدين محمد ' وعبد الكريم ميرغني ' وصلاح بخار ' وعبد الحليم علي طه ' وصغيرنا لزين ' ومصطفي شرف ' ومنصور خالد ' وسر الختم الخليفة ... والقائمة تطول ... وهؤلاء الالي ذكرت ابتعدوا من اطروحات ابو الاعلي المودودي والراحل سيد قطب في مراحله الاخيره ' واللذان يعدان مرجعين للإسلام الاقصائي بالدعوة الي ازالة الجاهلية والحاكمية لله ' وتجسدت افكارهما في جماعات متطرفة كجماعة التكفير والهجرة ' وتنظيم الجهاد .. ثم القاعده في شكل مغاير ' وهي جماعات تدعو للتغير عن طريق العنف والاحلال ليولد هذا العنف عنفا مضادا وتساهم في تصوير الاسلام كصنو للإرهاب وسط استهداف خبيث تحركه دوائر ماكرة . من خلال السرد السابق اخلص بأن للسودان في مجال الدين ذاتية خاصة ' لأن الاسلام قد دخله تدريجيا ' وكان لرجال التصوف الاثر الاكبر في تشكيل وجدان السودانيين ' ومنذ الاستقلال لم يشهد السودان توجها يسعي لإبعاد الدين من حياة الناس ' وإن كانت هناك بعض المظاهر المنافية للأخلاق الاسلامية والانسانية كأنتشار الحانات .. وبيوت الدعاره والتي تم القضاء عليها لما لها من تأثير ضار علي مسيرة المجتمع . وما فتأت كل الفعاليات السياسية من التأكيد بأن الدين هو مسكن الهوية وصمام الامان لتاّّّلف ابناء الوطن الواحد. تابع القراء مسيرة السفير عمر من خلال الكتاب ' مثمنين عاليا مسيرته الظافره ' ولكن ظلت هناك علامة استفهام كبيره تطل علي افئدة القراء امثالي عن السفير عمر منذ ولوجه الخارجية بدعم محمد خير وحماية من جمال محمد احمد ' اين هو بعد عام 1989 ! ففي المقاله التي دبجها السفير عبد المحمود عبد الحليم عن الكتاب تحت عنوان ( حضرنا ووجدناكم ) قال في الفقره الاخيره ( لقد حمل الكتاب بين دفتيه العديد من الشواهد والاحداث ' وان كنا نأمل وقد اهتمت الاصداره بالجانب التوثيقي والمعالم البارزه ' ان نري كتابا قادما للسفير بريدو يسلط فيه الضوء علي الزوايا التي لم تجد حظها من الافاضه وخاصة من خلال فترة عمله بالرياض وتقلده وظيفة الوكيل ). افرد السفير عمر بعضا مما لاقته السفاره السودانية في الرياض ابان الازمة بين البلدين ' وفي هذه الفتره اعلن دبلوماسي في السفاره كشخص غير مرغوب فيه .. كأول ابعاد في ما اظن لدبلوماسي سوداني لأسباب سياسية ' لم يذكر السفير شيئا عن هذه الواقعة ' واظن كان من حق القراء .. ان يعرفوا خفايا هذا الابعاد وماذا جري بعد ذلك سواء علي مستقبل المبعد بعدئذ واسباب الابعاد بالتفصيل كعظة لناشئة الدبلوماسيين ' ثم ان فترة الوكالة الي تبوئها تحتاج الي الكثير من الشرح والتوضيح حول ملابسات فصل الكثيرين من الدبلوماسيين تحت لافتة الصالح العام ' وتغول لا مثيل له من افراد دخلوا الدبلوماسية دون الايفاء بشروط دخولها .. واضحوا بين ليلة وضحاها لهم الكلمة العليا في تسيير الوزارة وتقييم الاّّخرين .. ويظل هناك سؤال حائر يحتاج الي اجابة هل كان اختيار الراحل علي سحلول اختيارا موفقا في تلك المرحلة ؟ ' وهنا يحق لنا ان نقارن بين دور الحافز الديني في خلق الانسان القادر علي العطاء ' ثم كيف يكون الانسان غير متسق علي ما تربي عليه حينما يتجه الدين الي اتجاه سياسي دنيوي ' يجعلنا ندعو عقب كل صلاة اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا .