في الماضي ، كان أثر البريد العادي في الغناء السوداني وما يتضمنه من تبادل الرسائل الغرامية الورقية المطولة بين العشاق والأحباب السودانيين ملموساً ومحسوساً بشكل بالغ اللطافة والجمال ، فقد أراد أحد الشعراء الطماعين أن يبقي حبل الوصل ممدوداً بشكل دائم مع محبوبه الغائب عنه عبر تبادل سيل من الرسائل التي لا تنقطع مطلقاً فكان ذلك سبباً لميلاد أغنية "إنتا أكتب لي وأنا أكتب ليك ، بالحاصل بي والحاصل بيك" التي تغنى بها الفنان العظيم الراحل المقيم الكاشف! وتعرض شاعران آخران لمقلب عاطفي كبير حينما أرسل كل منهما رسالة مكتوبة إلى محبوبه ولم يتلق منه أي رد على الإطلاق فكان ذلك سبباً لميلاد أغنية "البريدو مالو اتأخر بريدو ياناس؟!" ولا يخفى على أحد ذلك التلاعب اللفظي والمعنوي الرائع بين كلمة "البريدو" التي تعني المحبوب وكلمة "بريدو" التي تعني الرسالة الكتابية المرسلة عبر البريد العادي وأدى نفس السبب إلى ولادة أغنية" رسلتا ليك أجمل خطاب لليلة ردك ما وصل ، زعلانة ولله شنو الحصل؟!" التي يغنيها المطرب الشعبي كمال ترباس ولا أحد يعرف حتى الآن مصير تلك الشكوى البريدية وما إذا كانت كربة الشاعرين قد فُرجت باستلام رسالة من المحبوب المطنش أم أنهما لم يتلقيا منه أي رد حتى تاريخ اليوم ، وغضب أحد الشعراء غضبة مضرية من محبوبه فكانت تلك الحرب الأهلية العاطفية سبباً لميلاد أغنية "إنتا رجع لي رسائلي والرسائل العندي شيلة شيلة ، والصور لو قتا برضو وكلو ذكرة ريد جميلة شيلة شيلة!" وتعرض أحد الشعراء المغتربين لحصار عاطفي قاسي ومقاطعة وجدانية شديدة من قبل محبوبه الذي انقطع عن مكاتبته مدة طويلة دون إبداء أي أسباب ومن ثم كان ميلاد أغنية "مافي حتى رسالة واحدة بيها اتصبر شوية ، والوعد بيناتنا إنك كل يوم تكتب إليا ، ما بيجوز والغربة حارة بي خطاب تبخل عليا!" والتي يعتبرها معظم السودانيين من أجمل الأغاني التي كُتبت في شأن الرسائل المكتوبة على الإطلاق! أما في هذا العصر السريع الإيقاع والذي سادت فيه ثورة الاتصالات السريعة ، فقد أضرب العشاق السودانيين عن إرسال الرسائل الورقية الطويلة التي تتطلب إجهاد الذهن والوجدان وتستغرق كتابتها ساعات وساعات وصاروا يتبادلون الرسائل الغرامية القصيرة للغاية عبر البريد الإلكتروني والهاتف الجوال ، وبلغ الكسل العاطفي ببعضهم مبلغاً عظيماً إلى درجة أنهم يختارون رسائل غرامية مجهزة سلفاً من قبل آخرين ثم يقومون بإرسالها إلى المحبوب الذي قد يقوم بدوره بإرسال رد مجهز سلفاً بالضغط على "إعادة إرسال" ومن ثم يريح نفسه حتى من مهمة كتابة كلمة أو كلمتين! وعلى أي حال ، فإننا لم نسمع حتى الآن بأي أغنية سودانية جميلة حول رسائل الإنترنت أو رسائل اس ام اس العاطفية ونأمل بشدة أن يتحفنا فنانو هذه الأيام ، من أولئك الذين يمثلون الحداثة الغنائية ويبرمون شعر رؤوسهم على هيئة مسامير ، بأغنيات سودانية جديدة تعبر عن التواصل والانقطاع والتشاجر العاطفي الالكتروني بصورة خفيفة الظل وبشكل فني مقنع ومقبول من حيث الكلمة واللحن والأداء وإلا فسوف يظل السودانيون يستمعون بشغف شديد لأغاني الرسائل الورقية القديمة رغم أنف الطنين الصادر من الجوالات آخر موديل والصمت الأخرس المخيم على شاشات الكمبيوترات الحديثة! فيصل علي سليمان الدابي/المحامي/الدوحة/قطر