ومن قال إن التجارب بالمجان؛ التجارب في ميدان السياسة والاجتماع لها كلفة، وعلى اللاعبين دفعها بل والاستعداد بطاقاتهم الجماهيرية لبيان تهافت وفساد ما يطرح عبر اعتماد آلية التعانف السلمي والاختلاف، لكن العقل السياسي في المشرق لم يعرف من السياسة إلا فعلها الباطني، أي بوصفها ظاهرة تتخلص بها من العالم والواقع لصالح المثال، وقد بدت تجليات مثل هذه الفرضية التي نقول بادئة للعيان ومُعَلمة إذا تمعّنا قولة زياد بن أبيه الذي يفتتح خطبته (البتراء):ب " "أيها الناس إن أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادّة (حماة)، نسُوسُكُم بِسلطانِ الله الذي أعطانا..(!!)، ترى أي حق هذا الذي مٌنح للحاكم أن يسوس الناس كيفما بدا له؟ ثم من يعطي هذا الحق؟، الإجابة داخل العبارة، "نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا!"، إنه هنا كسرى يتكلم، كسرى المُعمّد (إله) داخل حظيرة الدولة الساسانية، فلم يدع النبي (ص) أنه يسوس الناس بأمر من الله، يقول تعالى: " أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً{45}، سورة الأحزاب، هذا من موروث العرب المسلمين (الخالص)، وخطبة أبو جعفر المنصور (712- 775م) الخليفة العباسي الثاني عند توليه الحكم تقدم برنامجه السلطاني لجماهير الأمة بمسوح فارسية لا تخطئها العين، وتحقق قولنا بأن الذي كان يتكلم هو أردشير الساساني وليس أبو الدوانيق (لقب أبي جعفر لشحه)، حين تردف السلطان بالإله وتمنحه حق المنع والعطاء يقول: (أيها الناس إنما أنا (سلطان الله) في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده و(حارسه) على ماله أعمل فيه (بمشيئته) و(إرادته) وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلنى فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به..) (3/27)- جمهرة خطب العرب) والأقواس من عندي ولا تعليق.. إنها السياسة في المشرق، فالحاكم منوط به إقامة العدل، (هو) فقط، العدل كما يوجد في مرجعيته الفارسية وهو (إنزال الناس منازلهم) إنها الطبقية والتراتب الاجتماعي الذي لا تعرفه الثقافة العربية، وما اصطلحنا عليه ب(الربيع العربي) كان يمكن أن يشكل بداية لتأسيس معرفي للظاهرة السياسية والاجتماعية في منطقتنا، ذلك فقط لو توقف العقل المشرقي عن إعادة أزماته دورُ بعد دور، فأن تثور على حاكم مستبد سامك الهوان وسمم فضائك الثقافي لصالح فساد بطانته، فهذا أمر الحرية متى استطاعت أن تنفذ، لكن وبالنظر للحالة المصرية فقد دخلت من حيث خرجت، لم تجن ثمار هبتها، ولم تدفع ثمن دماء شهداء حقها في الحياة، فكأن الموت الذي شهدته الأرض المصرية (مصر هنا هي المشرق بامتياز) ما كان مهراً لحياة أفضل، فقد ظل العقل السياسي المصري المشرقي يعاني من أزمة واقعية، ولم يفهم العقل السياسي المصري أن بناء الدولة لا تحققه إرادة الخوف؛ الخوف من المستقبل، فالحجج التي ساقها ضد جماعة الإخوان تتلخص في (الخوف على مستقبل مصر) وكأن هذا المستقبل يتم بنائه في التخيل ولا يتشكل من تبعات التجارب والمعاناة، القبول والممانعة، التدافع بين القوى السياسية، فالمؤسسات نتاج لعملية تطور تدريجي لمعنى السلطة، وقطع الطريق الذي تم على جماعة الإخوان أو غيرهم ممن تولوا الحكم عبر الصندوق بحجة المخاوف هو من جنس الهرب من الأسئلة والاكتفاء بالمجاز اللغوي (مصر أم الدنيا) وحقيقة لأي مراقب أنه لن يعلم بأي أسس تُفسر معاني السلطة وفق إرادة الخوف الكامنة في عقل النخبة السياسية المصرية، هذا من بقايا تبعات (الفتنة) التي تلت تفتت تعاقد المسلمين في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان (رض) بأن أغلق المجال السياسي لصالح المخاوف، أن تمنع العقلانية والحداثة من الدخول عبر بوابات المجتمع لأجل الحفاظ على وحدة الصف، أن يصبح الركود هو الغاية من الحركة، فهل تحكمت إرادة التاريخ فوق ضغط الواقع في الرؤية للمستقبل؟. وترث الحالة المشرقية هذا الأمر، فالدعوة إلى إلغاء الآخر في مصر لا تشبه أي معنى لطبيعة السياسة، كيف يمكن أن تقيماً نظاماً ديموقراطياً كما تدعيه وفي الوقت ذاته تقصي أي طرف من الأطراف؟ أي ديموقراطية هذه التي يقوم عودها على تشقيق الظل وفق إرادة المستبد!. والدولة هي نظرية تعاقدية Contractual ، فالدولة تنشأ على عقد اجتماعي يحقق اتفاق وإجماع الأفراد (الأفراد وليس الأحزاب كما هو في المشرق، حينما تدعي تمثيل المجتمع دون سند) هذا هو تعريف السياسة المعتمد في النسخة المغاربية من الثقافة العربية، وقد ورثه من لدن تعريب أرسطو عبر الفيلسوف الكبير الوليد بن رشد الذي طور المرجعية الأرسطية في السياسة، فالإنسان حيوان سياسي لا يمكن أن يعيش من غير دولة تضمّه في فضائها. (أرسطو) وتعريف الدولة بإنها جماعة ذات تنظيم مشترك أو مصالح مشتركة أو تعيش في موطن واحد وفي ظل قوانين واحدة وتهدف كل جماعة كافلة الخير لاعضائها لإنّ البشر يتجهون دائما إلى تحقيق ما يظنونه نافعاً لهم.. وأولى مظاهر الدولة هو تواضع واتفاق شعبها على دستور يكون بمثابة عقد اجتماعي والذي بدونه لا مجال للحديث عن أي فاعلية سياسية أو اجتماعية، ولما فشل العقل المشرقي بعد (الربيع العربي) في إقامة عقده الاجتماعي، نجحت تونس وعبر آلية مائزة أن تحدث اختراقها الأكبر والأوسع لصالح السياسة العقلانية، السياسة التي تقيم تمايزاً بين الديني والسياسي، ولا تقول بالعلمانية، (في المغرب تفهم العلمانية على أنها شكل من أشكال حياد الدولة نحو الشأن الديني)، وما يتعجب له المرء أن دعاة العلمانية في المشرق صدروا عن تصور ديني لها! فكيف يستقيم الأمر؟ أن تقول بحياد الدولة (المؤسسة) عن أي مذهب، وفي الوقت نفسه تؤلف معنى خاص بك للعلمانية وتعممه بل وتفرضه بالقوة؟ إن العلمانية في المشرق بديل للدين، وهذا نابع من مراهقة متأخرة للعقل السياسي في المشرق!. إن "الشعب التونسي الذي فجر ثورات الربيع العربي، سيصل إلى تقديم نموذج في الديمقراطية، والزيجة الناجحة بين الاسلامية والديمقراطية من جهة، وبين الإسلام والحداثة من جهة أخرى". راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية - السبت 01 فبراير 2014 (جريدة هسبريس)، هذا حصاد التجربة التونسية من التغيير، ولم يتبجح أحد في المغرب بالقول إنه يريد إقامة دولة مدنية أو دينية، لأنه في الأساس لا يوجد في العلوم السياسية تعبير الدولة المدنية، بل يوصف المجتمع بأنه مدني، فقد انحصر جهدهم في الحديث عن الدولة،المؤسسة،المنظومة المُوفقة لمصلحة الجميع، ولا يصطرع المثقف المغاربي في حوارات (العلمانية والدين)، وإن تناولها فهو يقصد تناولها كما هي في حيز السياسة بالمشرق، حتى أن النخبة التونسية وفي صراعها مع الإسلاميين هناك، لم تستخدم أبداً لغة اقصائية أو تجريمية، كما نشاهد في القنوات الفضائية المصرية حينما ينفرد مذيع ألمعي لا يمثل سوى صورة مجسدة لهيمنة الإعلان على الإعلام، يتفرد بالمشاهد ويمارس دوراً استعلائياً مزيفاً بأن يشير ويوجه ويقرر ويحدد، يمنح ويمنع، يجرم ويبرئ، يفسر الأحوال ويطرح المآلات دون بضاعة فكرية يمتلكها، فأدواته هي الصراخ والدراما التلفزيونية، وترقيق وتفخيم الصوت، والبكاء والردح، إنه إعلام مطبل لراقصة عمياء. فتكريس نظرة سحرية للعالم عبر ما تصدره الآلة الإعلامية المصرية بأن الحل في (الحظر) يعكس هيمنة المفهوم الفارسي الباطني المتجسد في (الانتظار) انتظار (المُخلص) ليحمي ويقتل ومن ثم يقيم العدل!. فأي عدل هذا الذي يقوم على الدم؟! إننا أمام نموذجين للعقل السياسي، نموذج مشرقي تقوم تبعيته على وعي مهزوم، وعلى إدعاء النخبة تمثيل أيديولوجيا الطبقات المحرومة، ولكي تحتفظ هذه النخبة بموقعها الاجتماعي، تظل تردد مسئوليتها بل ووصايتها على الجميع، إنها الإيديولوجيا المقلوبة، ودافع النخبة المزيفة في المشرق بأنها تسعى لتغليب مصلحة الفقراء وأعضاء حزب (الكنبة) ما هو إلا حيلة لتحتفظ لنفسها بالريادة المعطوبة، فلا هي حققت للأغلبية الصامتة حقها في العيش، ولا سمحت لآخرين بأن يجربوا حظهم في ذلك، يحدث هذا على عكس ما نراه في النموذج المغاربي والتونسي بالتحديد، فهناك تتجمع الإرادة الكلية لصالح الشعب، تتآلف القوى السياسية لمصلحة الوطن، لا إقصاء لأحد، فالديموقراطية لا تقوم بتعذيب الآخر وتشويه صورته، الديموقراطية لعبة ومغامرة، وكلفتها في أن البقاء للأقوى والأكثر تنظيم، إن الإيديولوجيا حينما تكف عن القول بأنها فقط من يملك الحل السحري للواقع، حينها يمكن للمشرق أن ينعتق من أوهام مشاريع النهضة العربية كما هي عند الأفغاني ومن سايره، حينما نفهم بأن ميدان المعارك السياسية لا توجد فيه أسلحة سوى الرأي والرأي الآخر، لا السجن والرأي المسنود بالدبابة..!