رائحةُ زهرةِ الكسبراء تعطِّر في هذه الأثناء العشيَّةَ الباردةَ طقْساً والدافئةَ شعوراً بالتضامن مع نَفَس النِّيل المُضمَّخ بتنْهيداتِ الطَّمِي وبآهاتِ الصفْصاف والطرفاء ، وهسْهسات اللوبيا والعدسي والذُرة الشاميَّة ووسْوسات أغصان السنط في آذان السنابل اليانعة والراقصة تمنُّعاً يُفيد الرغبة ! باندياح الأغنيات وأريج الزغاريد ونفحات الليل النديَّة بعُصارة الطِّيب الوديك الفائحة من هامِ الرجال الباسقين ! العطور النسائيَّة الصارخة بين جداول الخرير الخفيت .. والنيلُ يفتح ذراعيْه هاشَّاً لاحتضان الزفَّة واحتواء النشيد بالنشيد لتجديد الوعد والرؤية وبَيْعة العشق التليد ! الأقدام التي تحملها أمواج (الدلّوكة) المُنتشية وأغنيات الصبايا وزغاريد النساء ؛ تنحدرُ بين الحقول صوب النهر الهائم في الملكوت ..وبين أُسْرتين مؤثَّلتين من النَّخْل وعلى كتف الضفَّة المعْشوْشبة ؛ تتوقَّف السيرة عن المسير دون أن تتوقَّف عن الرقص والنُقزان والتلويح في فضاء الطرب والبشارة والفأل الحسن بجريد النخل والعِصي والخيزران والعمائم والشالات والطواقي ..بينما تسلَّل نفَرٌ قليلٌ منهم يتقدَّمهم العريس نحو النيل الذي اعتزل جَزْرَه ريثما لامستْه الأقدامُ الحافية وارتشفتْ منه الأكُفُّ النديَّةُ واغتسلتْ الوجوهُ الناضرةُ وتراشقتْ أناملُ العشق برذاذ التيمُّن بالخير والضحكات القافزات للضفة الأخرى للانعتاق من فضاء التَّوْق إلى قفص السعادة ! طقْسُ خطابِ النيل كفاحاً يبدأ بهمْهمات الخالات المُستقاة من تعاويذ الجَدَّات المطوَّلة .. من جراب الزمن العتيق ومن طوايا الغابر الحاضر ولآلئ الأميرات وقماقم الأسرار الساحرة وطمْطمات الفراعنة الأوائل وضراعاتهم بين يدي (إيزيس) ربَّة القمر والأمومة والخصوبة ، في حضرة هذا المُنساب منذ (كُن) الاولي ! حثوات الأدعية في لجَّة الالغيوب وبسْط صُرَّةً تُؤاخي بين سنِّ الغزال والفحمة والذُرة والحلوى والسوميت وخصلةً من أُمِّ رأس العروس ، قبل أن تتلقَّفهنَّ بنات الحواري من عمق النيل السادر في رُشده الأزلي ! صدرتْ الزفَّةُ عن الحضرةِ النيليَّة مُخلِّفةً وراءَها صورةَ القمر المتكسِّرة على الأمواج .. ظِلَّ الجبل الشامخ .. عباءةَ النيل وقد ازدادت بياضاً بنصوع القمر لتشمل هالتها الشاطئ البهيج ! مفارق النخيل والسنط والحراز تتمايل طرَباً في غبَش الليل المُضاء .. خوار الجُزُر وثغاءها ومُكاء السُّرى وخرير القرون .وغمغمات الضفَّة وصدى الزغاريد التي تعبر إلى الضفَّة الأخرى ، ثم تعود ، ثم لا تلبث أن تُسْرجَ قشْعريرتها تارةً أُخرى على صهوة الأثير ! نهنهات الأرض الشبقة وبوح الأزاهر الشفيف ، وبقايا أغنيات وآمالٍ ونجوى ورجاء ..,عداً مؤجَّلاً لاعتناقِ السِّحْر في سوق القصيد ! تزحف (السيرة) يتقدَّمها العريس مُيمِّمةً وجهَها بيتَ العروس والشاطئان خلفها يستنْسخانها لأجل عيون بنات الحور ، و( البُلطي ) و (القراقير) و(أم دريقات) و (السُّقُد) و (التناقير) والجريد والأغصان التي تلوِّح بالحبور ، بحيث تُصبح الزفَّةُ زفَّتين والزغرودةُ إثنتين .. والخطوةُ خطوتين ؛ إحداهما في اتِّجاه مغرب الشمس لتَطَّوَّف حول البيت السعيد .... والأخرى ناحية المشرق حيث الصدى يبعث الماضي الحاضر من مَرْقده الخصيب ! تنبتُ خُطى الأجداد التي طالما غرسوها على حواف الجداول ووِهاد الجروف وداخل بطون الحيضان وهم يهندسون حيواتهم .. ويجوِّدون أراضيهم للسُّقْيا ، وإنْ شئتَ الدِّقَّةَ للحُبِّ والبقاء ! تتداخل الأصوات المُتباعدة المُتقاربة ، فينفلق نوى الصدى عن جلابيبهم البيض وشالاتهم الخُضر وعمائمهم الملفوفة بعناية على رؤوسهم ..وعِصي الخيزُران وهم يمخرون عُباب الزمن وعلى شفاههم تغريدة التجلِّي والانبجاس والفيْض الروحي وبين أياديهم (الطار) والطبول والأجراس ..ومن على كتوفهم تتدلَّى (نوبات) الهيام أنْ : شئ لله يا حسن ..يا سلطان الزمن ..! رويداً رويداً تنحسر الأصوات وتتلاشى أو تكاد الأصداء حين تتباعد المسافة بين الخطوتين والصوتين ..ويعود النيلُ إلى هدوءه وانسيابه الطبيعي بعد نوبات القشعريرة الناتجة عن الوحدة والظهور فيُقلع - إلى حين - عن (الترجمة) الفورية للأحداث والحديث ! /////////