أينما وليتَ وجهك في هذا البلد المنكوب، تُطالعك مظاهر الانهيار التام: في الإمارة والإدارة، وفي التعليم، سافله وعاليه، وفي آلامن، خاصة وعامة، وفي الرعاية الصحية، "مُسرمكة" و"حاف" دون تزويق، وفي حركة السير، وحال الطرقات، وتدهور المرافق، ونظافة البيئة (أو غيابها)، وفي مستوى وسائل الإعلام... وفي القِيم. بيد ان أكثر مظاهر الانهيار الواضحة للعيان هي هذا النمط الجديد من الهندسة المعمارية الذي "طفح" علينا مع مليارات النفط الذي ذهب، وذهبت، وأطنان الذهب التي ستلحق هي الأخرى بعائدات النفط. تنظر حولك في أفق الخرطوم، فتصدمك صروح الزجاج والألمنيوم التي تنبت كل يوم في وسط المدينة واطرافها، كالفطر السام، عنوانا لاثرياء الحرب والسلام، والتمكين في المال العام، والذوق الفاسد، ودلالة جديدة، (إن احتجت لدليل)، على احتقار العلم والخبرة والرأي المستنير السديد في هذا العهد السعيد. لا أملُّ الاستشهاد بما قاله خير الدين التونسي (1820 - 1890) في كتابه (أقوم المسالك في أحوال الممالك) الذي يقول فيه قولا لا يُذهب بقيمته وبحكمته ونفاذ بصيرته مرور الزمن: "لا تستقيم أحوال الممالك (البلدان) إلا بحسن الإمارة (ما يسمى الآن بالحكم الرشيد)، المتولّد عنه الأمن، المتولد عنه الأمل، المتولّد عنه إتقان العمل!" - وأنّى لنا بالحكم الراشد الذي يبسط الأمن من كافة نواحيه، ويبعث على الأمل والعشم في الغد، ويُشجع على إتقان ما ننجزه من عمل وما نصنعه من أنظمة وسلع وخدمات... ومواطنين! لا أدري أي هندسة معمارية درسها مُصممو ومُنفذو ومُمولو و"أصحاب" هذه الصروح الزجاجية في بلد تسطع شمسه لاهبة طوال العام، وتبلغ درجات الحرارة "الرسمية" فيه 50 درجة مئوية، وتنتظر حكومته إكمال سد النهضة/الألفية الإثيوبي لشراء حاجتها من الكهرباء بعد ان فشل "سد القرن" في إنتاج ما وعدونا به من طاقة كهربائية، و"ردود" على المتشككين والمرجفين والشامتين وأعداء الله والوطن! لا يحتاج المرء "العادي" لدراسة متخصصة ليعلم أن الهندسة المعمارية هي مزيج من أداء المهمة التي صُمّم المبنى للقيام بها، وتشييده (وتشغيله) بأقل نفقات ممكنة دون الإخلال بالمتانة، وجعله مناسبا لبيئته باستخدام التصميم المناسب والمواد المناسبة، وإضافة الجماليات لمن استطاع إليها سبيلا. بنى السودانيون، قبل أن تصيبهم لوثة النفط، بيوتهم من الطين أو من القش، وجعلوا سقوفها من جذوع النخل وفروع الأشجار وسعف النخيل والقش المجدول، وجعلوا لها نوافذ صغيرة تقيهم صهد الصيف الطويل، وقرّ الشتاء القصير، في شمال ووسط البلاد، وتحميهم من المطر في باقي نواحيه. فعلوا ذلك بهدي المعرفة التقليدية المتراكمة و"اندغامهم" في بيئتهم. ثم أتى البريطانيون مسلحين بالعلم وبالخبرة، فبنوا مقار الحكومة ومنازلهم من الطوب المحروق، وجعلوا لها حوائط سميكة وممرات و"فرندات" فسيحة، ونوافذ تغطيها المصاريع الخشبية، لتناسب طقس السودان الحار صيفاً وشتاءً. وحين أتانا فرسان التمكين في المال العام، مُعجبين بصروح مدن الخليج، نزعوا المصاريع الخشبية من نوافذ المباني الحكومية الموروثة عن البريطانيين (بما في ذلك نوافذ القصر الجمهوري) وأبدلوها بألواح الزجاج، وبنوا المقار الجديدة للحكومة والقوات النظامية والمصارف والجامعات من الزجاج والألمنيوم، أفراناً تشتعل بالطاقة الشمسية المجانية المتوفرة في السودان، وتُبرّد بالطاقة الكهربائية مرتفعة التكلفة، اللاهثة دائما لتلحق بالطلب عليها. وأعجب ما في الأمر أن معظم هذه المباني لها واجهات غربية من الزجاج، تستقبل شمس الظهيرة "دون حائل كثيف". وقد فاز بقصب السبق في هذه المنافسة المحتدمة على استخدام الطاقة الشمسية "للتدفئة" مبنى ضخم مُشيد من الزجاج الخالص يقع على شاطئ النيل الأزرق في الناحية الشمالية لكبري القوات المسلحة، يستقبل أشعة شمس الخرطوم اللاهبة من كافة جوانبه، شرقاً وغرباُ، وشمالاُ وجنوباً. وسأكون أسعد الخلق حين أعرف تكلفة تبريد مثل هذا الفُرن الذري (ومن أين تأتي مثل هذه التكلفة في ظل عجز الميزانية وتبخر عائدات النفط)! السودان غني بمهندسيه المعماريين المؤهلين (أو من بقي منهم بعد هجرة الآلاف منهم). يعرفون مبادئ وقواعد وفنون التصميم المعماري السليم الذي يُزاوج بين دواعي ومتطلبات الاقتصاد والمتانة والبيئة والجماليات. لكنني على يقين أنهم لا يُستشارون ولا تتم الاستفادة من خبرتهم وعلمهم، مثلهم مثل غيرهم من الخبراء في كل مجال آخر في السودان. لا عجب إذن في تسارع وتيرة الانهيار التي يُمثلها انتشار "موضة" الأفران الزجاجية التي تزحم أفق الخرطوم (ومدن الأقاليم لا شك)! رحم الله خير الدين التونسي الذي وضع، قبل نحو قرن ونصف من الزمان، اصبعه على موطن الداء: حُسن الإمارة!