بسم الله الرحمن الرحيم قراءة في كتاب: "هوّية السودان الثقافية: منظور تاريخي": للعلاّمة أحمد محمد علي الحاكم بقلم: بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير* الكتاب من القطع العادي، يبلغ (111) صفحة مزودة بالرسومات والخرائط الإيضاحية. ونشرته دار جامعة الخرطوم للنشر(1990م). زين الغلاف، الذي صممته الفنانة التشكيلية أم سلمة إبراهيم، بلوحة تراثية جامعة ذات خلفية خضراء وألوان بيضاء وسوداء. وتعبر هذه اللوحة بجلاء عن أبرز الحضارات التي رفدت التاريخ السوداني منذ أقدم العصور (الفرعونية والمسيحية والإسلامية). فالحضارتان الفرعونية والمسيحية رمز لهما بأشكال لسودانيين (زعماء وأفراد عاديين) بملابس وزينات متباينة وتظهر على جباه وخدود بعضهم الشلوخ. أما الحضارة الإسلامية في السودان فقد رمز لها بعنصر زخرفي معروف في العمارة الإسلامية وهو "الطبق النجمي" باللونين الأبيض والأسود.ونعيد مراجعة هذا الكتاب القيم بمناسبة مرور الذكرى الثامنة عشر لرحيل مؤلفه في فبراير من هذا العام،فضلاً عن أن قضية الهوية القومية كانت ولاتزال حاضرة بقوة في واقعنا الثقافي والسياسي الآني. مؤلف الكتاب عالم الآثار السوداني الراحل البروفيسور أحمد محمد علي الحاكم(1938-1996م) الرئيس الأسبق لقسم الآثار بجامعة الخرطوم (1971-1981م) والمدير السابق للهيئة القومية للآثار والمتاحف (1990-1994م).وهو أحد أبرز علماء الآثار سيرورة في العالمين العربي والأفريقي،وشخصية علمية مرموقة في الأوساط العلمية في الغرب الأروبي في مجال الدراسات الكوشية-المروية. ربطتني بالبروفيسور الحاكم صلة تلمذة وزمالة وصداقة وثيقة العُرى حيث قُيضَّ لي أن أتعرف عليه عن كثب منذ التحاقي بجامعة الخرطوم لدراسة الآداب في مطلع سبعينات القرن الماضي .وكنت أحد غرسه الأول في حقل الآثار السودانية وأكثر تلاميذه مشاركة له في أعماله الآثارية الميدانية في مناطق متفرقة من السودان (1973-1983م، 1990-1991م). ويعتبر هذا الكتاب أحد أبرز مؤلفاته العديدة في حقل الآثار والتاريخ القديم. جدير بالذكر أن معظم أن معظم مؤلفات أحمد الحاكم منشورة –باللغة الإنجليزية- في دوريات علمية محكمة داخل وخارج السودان. ويعتبر كتابه "هوية السودان الثقافية: منظور تاريخي" هو عصارة خبرة عالمنا الراحل في حقل الثقافة السودانية من خلال رؤية آثارية-تاريخية. وقد سطر هذا المؤلف في سني عمره الأخيرة مساهمة منه كما نوه لذلك في مقدمته "لإثراء نقاش الهوية الثقافية في السودان" والذي وجد زخماً متزايداً في العقود الأخيرة ونظر إليه العديدون من الكتاب برؤى متباينة حددتها إتجاهاتهم وتعدد منطلقاتهم الفكرية. يحتوي الكتاب على مقدمة وإثني عشر فصلاً. يتناول الفصل الأول البعد التاريخي للسودان أرضاً وشعباً مع التعريف بالأسماء التي عرف بها في الأزمنة القديمة (ستي، نحسيو، كوش، اثيوبيا، نوبيا والسطنة الزرقاء). وخصص الفصل الثاني للحديث عن النظريات والأيدولوجيات التي أفرزها الفكر الأوربي وإنعكاساتها على كتابات العديد من الباحثين حيث عمقت مفاهيم ثنائية الأصول السكانية للسودان. وإستطرد في الفصل الثالث حديثه العلمي عن خطل نظريات السلالات النقية مبيناً أن دراسات الهياكل العظمية البشرية وأشكالها التشريحية من مختلف أنحاء السودان تؤكد التداخل الإثني (العرقي) والإستمرارية في البنية السكانية لأهل السودان منذ الألف الثالثة قبل الميلاد وحتى الألف الميلادي وتشير بشكل جلي إلى إختلاط الأعراق والثقافات في السودان بشكل كبير. لهذا أطلق علماء الأنثروبولوجيا صفة "السودانية" على المجموعات السكانية التي قطنت –ولا تزال- حدود السودان الحالي تمييزاً لها عن نظيراتها في الجوار الأفريقي والعربي. وأفرد الفصل الرابع لموضوع اللغات في السودان القديم (الكوشية الشمالية والنايجركردفانية والنيلية) وعلاقتها بالمجموعات الرئيسية في شمال وغرب أفريقيا وجزيرة العرب. وأبان في الفصل الخامس خصائص اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية والديموطيقية والهيراطيقية) مع تبيان تأثيرها على اللغات المحلية السودانية وعلاقتها بالمروية التي يقال أن الأخيرة تحدرت منها. وناقش الفصل السادس بإستفاضة طبيعة اللغة المروية بخطيها الهيروغليفي المصري والنسخي الكوشي بإعتبار أنها أول لغة مكتوبة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وأجلى الباحث في الفصل السابع التقارب اللغوي بين نوبية النيل والصحارى في غربه مبيناً صلاتها الواسعة مع لغات ولهجات محلية في كردفان والنيل الأزرق والأقاليم الجنوبية. وأشار في الفصل إلى اللغة العربية التي بدأ التعامل بها منذ القرن السابع الميلادي مبيناً أسباب انتشارها في السودان. وتطرق في الفصل التاسع لنشأة الحضارات السودانية منذ فجر عصر ما قبل التاريخ (300,000 ق.م.) وحتى عصر مملكة كرمة (2500-1500ق.م.). ودلف في الفصل العاشر يحدثنا عن مملكة كوش الثانية (مملكة مروي، 900 ق.م.-350م) وكيف إستطاع المرويون قيادة السودان نحو وحدة ثقافية وبناء شخصية قومية للسودان القديم. ونوه الحاكم في الفصل الحادي عشر للسمات المتميزة للحضارة المسيحية (543-1504م) ونقلها للمجتمع السوداني آنذاك من المحلية إلى رحاب العالمية بكل إنعكاساتها الثقافية في الآداب والفنون والأخيلة. وأوضح في الفصل الأخير (الثاني عشر) أن الإسلام كدين عالمي استطاع أن يستوعب الكثير من السمات السودانية وأن يتعامل مع هذا المحيط الخاص به وما فيه من تعددية. وقد ترك الأثر الحضاري الإسلامي بصماته على المظهر الثقافي السوداني حيث إتسمت الشخصية السودانية –بشكل عام- بسماحة الإسلام وسعة أفقه حتى غدا إسلام السودان متفرداً وقومياً. وفي تقديري أن هذا الكتاب يعتبر إضافة جديدة لمعرفتنا بالثقافة السودانية من وجهة نظر آثارية-تاريخية تستحق كل الترحاب.وإنني لعلى ثقة بأن هذا الجهد المعرفي كان وسيظل مصدراً مهماً لايقتصر أثره فقط على باحثين في مجال الدراسات الثقافية السودانية بل يطال القارئ العادي أيضاً.ومن المؤمل أن يكون هذا الكتاب فاتحة لمؤلفات أخرى في المستقبل المنظور تثري البحث العلمي في مجال التراث وقضايا الهوية القومية في السودان.