[email protected] (1) سألني كثيرون عما إذا كان لدي سببٌ بعينه حدا بي لتجاوز الحزب الشيوعي السوداني في الحلقة السابقة، عند معالجتي لقضية تمويل أحزابنا الوطنية لنشاطها السياسي. وقد وقفت كثيراً عند رسالة من قارئ استنكر علىّ اهتمامي ببسط ما تناهى الى مسامعي من ذائعات حول مصادر تمويل حزب كاريكاتوري مثل حزب المسخرة الذي ترأسه السندريلا، وتجاهلي في ذات الوقت التعريف بموارد حزب الشيوعيين السودانيين، الذي كتب عنه الصحافي اللبناني الكبير فؤاد مطر ذات يوم أنه أقوى حزب شيوعي في منظومة الدول النامية. وقد كان ردي على هؤلاء الأفاضل: لا بأس. غالي والطلب رخيص. سلسلة حبيبنا المحبوب موجودة، والكيبورد رابض ومنبطح في مكانه مثل أسد، والأراشيف والوثائق على قفا من يشيل. لنخصصنّ إذن، بأمر الله، هذه الحلقة كاملة لنرصد فلوس عيال ماركس من بني شوعان، مصادراً ومصارفاً، ونفحصها فحصاً، ونعدّها عداً، جنيهاً سودانياً وروبلاً روسياً. غير أنني وددت قبل أن أهبط الى سهول المراكسة ووديانهم، التي عرفت الخصب والجدب، خلال تاريخ طويل خبرته سوح السياسة السودانية منذ النصف الاول من القرن المنصرم، أن أشير الى رسائل اخرى، أخذ علىّ فيها أصحابها أنني تقاعست في حلقتي السابقة عن فحص أطنان التقارير الاستخبارية الدولية، التي ضجت بها قراطيس الأرض وأسافير السماء خلال السنوات القلائل الماضيات، عندما أماطت بعض الدول الغربية اللثام عن مكنونات بعض وثائقها السرية، التي أباحت القوانين فض أختام الشمع الأحمر عنها، وعرضها للسابلة بعد مرور حقب زمنية معينة عليها. كتب أحد أشياخي الأفاضل من الخرطوم محتجاً: (أمر التمويل به أسرار ضخام تشى دون مواربة عن حقيقة اللعبة السياسية عندنا، وهي حقيقة تختلف تماماً او تكاد عن ما ندرك او يراد لنا أن ندرك. هل يعقل انك لم تقرأ التقرير الاستخباري للملحق التجاري البريطاني بالخرطوم ، فيليب ادامز يتحدث عن لقاء بالوزير الاتحادي إبراهيم المفتى لترتيب تمويل بريطانى لمقابلة طرد الازهرى لمحمد نورالدين ومؤيديه، ومايمكن ان يجر ذلك من عقابيل التمويل المصرى لهم لإقامة حزب منافس؟ ورغم ان الملحق عبّر عن التمنع الانجليزى إلا ان الخطوة عينها مستغربة من بذرة حكومة وطنية). وفي رسالة أخرى طالعتني هذه الكلمات من قارئ يسألني: (هل قرأت التقارير المنشورة في صورتها الاصلية في كتاب الصحافي المصري الراحل الاستاذ محسن محمد: 'الانفصال بالوثائق السرية البريطانية' الصادر عن دار الشروق عام 1994؟ وقد جاء في إحداها ان إثنين من خلفاء الختمية عبّرا بأريحية كاملة عن غبطتهما لتلقي الطائفة أموالاً من مصر، دون ان يُطلب منها تقديم مقابل! وبحسب الوثائق فقد قدمت الحكومة المصرية ضمن تلك المنح قصراً بالقاهرة وقصراً آخر بالاسكندرية للسيد على الميرغني). وهذا قارئ كريم ثالث يلفت انتباهي: (في رسالة الدكتور جعفر محمد على بخيت المنشورة عن الادارة البريطانية في السودان إشارة لتقرير للمخابرات البريطانية ورد فيه أن الحكومة البريطانية كانت تدفع ما يربو على أربعة آلاف جنيه استرليني سنوياً للسيد عبد الرحمن المهدي، وغير ذلك كثير مما تحفل به أضابير المخابرات. أردت فقط الاشارة الى أن الداء قديم ويعرف بغير اسمه في السياسة السودانية). ومثل هذه الرسائل في حاسوبي كثر. وأنا أعتذر لهؤلاء الأفاضل بأنني في واقع الأمر لم أزعم نهوضاً الى مبحث شاملٍ كامل في أمر الصلات المالية لأحزابنا الوطنية بالعناصر الاجنبية، فهذا شغلٌ جليل، ربما قام اليه فارسٌ نبيل، ذو بالٍ طويل، من الباحثين الأكاديميين أهل الهمم العالية. أما أنا فلا أملك إلا أن أشكو المحبوب الى الله، فهو الذي وحّلني في طريق المزالق، وعمّدني في سلك المهالك هذا. وماذا كنت أرجو من كوز انقلابي، قضى ثلثي عمره في التتلمذ على الشيخ الترابي؟! (2) بالرغم من أن الايديولوجية الماركسية التي هي لب الفكرة الشيوعية مستوردة كلياً من الخارج، فإن ذلك لا يمنعنا من أن نزعم – برغم التناقض الذي قد يبدو للعيان - أن الحزب الشيوعي السوداني يمتاز بخصيصة متفردة، وهي ان الأثر الخارجي في تكوينه وتمويله وتسييره يقل نسبياً عن غيره من الاحزاب السودانية. أنظر – يا رعاك الله - كيف وُلد الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي يوصف بأنه حزب الحركة الوطنية، على يد قابلة مصرية، كما أن المؤسسة الحاضنة والراعية له تاريخياً، ونعني كيان الختمية، ترعرت بدورها في كنف الخديوية. وكيف أن حزب الأمة جاء الى الحياة، يحمل راية الاستقلال، محمولاً على ظهر السكرتير الاداري البريطاني دوغلاس نيوبولد. وكل ذلك تاريخ مكتوب. ولكننا نرسم خطاً سميكاً تحت كلمتي (يقل نسبياً)، فمما لا شك فيه أن الشيوعيين السودانيين نالوا نصيباً ما، قلّ او كثر، من عدس موسكو وفومها وبصلها، عهد كان لموسكو عدسٌ وفومٌ وبصل. وأنا لا أقيم وزناً لما حملته الوثائق الامريكية التى رفع عنها الحظر قبل سنوات قليلات، عن أن تمويل الحزب الشيوعي خلال خمسينات القرن المنصرم كان يتم عن طريق توكيل حصل عليه الحزب، تحت غطاء نشاط بعض منسوبيه من التجار، لبيع سلعة تجارية معينة وهي (كبريت أبومفتاح) الذي كانت تنتجه وتصدره للسودان دولة تشيكوسلوفاكيا. إذ ان الرواية الامريكية تحيط بها العلل القادحة من أى جانب أتيتها. يكفي ان مصدرها هو الاميرالاي عبد الله خليل المعروف بغرضه وعدائه للشيوعية والشيوعيين. بيد أنني وجدت نفسي أقف متأملاً لبعض الوقت أمام التحقيق الاستقصائي الذي عرضته قناة الجزيرة قبل سنوات قلائل حول الأحزاب الشيوعية العربية وعلاقتها بالاتحاد السوفيتي، والذي استعان منتجوه لإنجازه ببعض الوثائق السرية السوفيتية التي وجدت طريقها الى العلن بعد سقوط نظام السوفيت. وبرغم أن ذلك التحقيق أثبت أن شيوعيي سوريا ومصر كانوا أذكى واكثر من حلب البقرة السوفيتية وشرب لبنها مقارنة بغيرهم، فقد طفت الى السطح من الوثائق ما كشف حقيقة ان قيادة الحزب الشيوعي في السودان تلقت بالفعل أموالاً من موسكو، وان كانت الأرقام زهيدة ومتواضعة للغاية (وأعجب لقومٍ تبلبلوا ولم يعوموا. مع أن الحكمة الشعبية تقول: من تبلبل عام). والواقع ان الحديث انحصر حول وثيقة مالية واحدة فقط من جملة المحفوظات التي فتحت خزائنها، وقد وردت الاشارة تخصيصاً الى مبلغ ستة الاف من الدولارات الامريكية. وقد أفادني قيادي شيوعي سألته عن ذلك المبلغ أنه ربما كان عبارة عن مساعدة مالية لعلاج أحد الكوادر. وذلك فضلاً عن وثائق اخرى لا علاقة لها بالأموال يُستفاد من احداها أن الحزب الشيوعي السوداني طلب من موسكو مده بمسدسات (جمع مسدس) بمواصفات خاصة. وتشير وثيقة أخرى الى أن الحزب أوصى الحكومة السوفيتية بدعم الشيخ على عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي، والذي اشتهر بلقب (الشيخ الأحمر). وبينما توفرت الأدلة الموثقة على أن الأحزاب الشيوعية في الدول النامية مدت يدها لتتسلم ملايين الدولارات من موسكو، فالثابت ان الثقافة التي سادت عند الآباء المؤسسين للحزب السوداني استنكفت عن تلقى الأموال من الغير. وقد كان للقيادي التاريخي عبد الخالق محجوب القدح المعلي في ترسيخ تلك الثقافة. وقد قيل أن الرجل كان يري في قبول العطايا المالية مرادفاً ومدخلاً لقبول النفوذ والوصاية الاجنبية على توجهات الحزب. ولم يكن ذلك ليليق بشخصية ذات نزعة استقلالية، شديدة الاعتزاز بالخصوصية السودانية مثله. وذلك ما ثبته بكلمات قوية رئيس الوزراء الراحل محمد احمد محجوب في كتابه (الديمقراطية في الميزان)، حيث أمّن على نزعة عبد الخالق الاستقلالية كشيوعي سوداني، وأنه كان يرفض تلقي الأوامر - وبالتالي الأموال – من موسكو. وأضاف المحجوب ان عبد الخالق كان شديد الأصالة، وأنه طوع الماركسية للواقع الوطني، فضلاً عن عنايته الشديدة بالتوفيق بين الماركسية والاسلام. ولا غرو أن نزعات ومواقف عبد الخالق المتفردة وخلافاته المتعاظمة مع القيادة السوفيتية، لا سيما بعد رفضه الانصياع لطلب موسكو الاعتراف والتعاون مع النظام المايوي أنتهت به الى صقع ناءٍ بعيداً عن حب الرفاق وعطفهم. وليس أدل على ذلك من أن المنصة في المؤتمر العام للحزب الشيوعي السوفيتي الذي عقد بعد أشهر قليلة من اعدامه عام 1971 طلبت من عضويتها – كما جرت العادة – الوقوف دقيقة حداداً على قادة الاحزاب الشيوعية حول العالم الذين رحلوا خلال الفترة بين المؤتمر وسابقه. ولم يكن اسم عبد الخالق ضمن قائمة الراحلين التي تُليت! (3) غير أن حزب الشيوعيين عرف انماطآً اخرى من الدعم غير المباشر من الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوربا. من ذلك المنح التعليمية والمنح العلاجية، وتمويل نفقات مشاركة اعضاء الحزب في المؤتمرات والمهرجانات الدولية. وكانت تجربة المنح التعليمية في مجملها بائسة وخائبة المردود، اذ لم يقصرها الحزب على منسوبيه، بل اتخذ منها أداة لمكافأة أنصار الحزب واصدقائه من عامة الناس، وبصفة خاصة اولئك الذين ساندوا الحزب في عهود الضيق، وآووا منسوبيه المطاردين. ولكن الحزب في المحصلة النهائية انتهى الى واقع غريب، إذ ان نسبة مقدّرة من هؤلاء المبتعثين عادوا فانقلبوا على اعقابهم، وكانوا حرباً عواناً عليه عبر السنوات. ومن عجب أن أحد اعضاء (مجلس قيادة ثورة الانقاذ الوطني)، من الذين دبروا انقلاب الجبهة الاسلامية ضد الديمقراطية الثالثة في العام 1989، كان واحداً من هؤلاء الذين اختارهم الحزب الشيوعي وبعث بهم للدراسة في موسكو. وبعد تخرجه توسط له القيادي العسكري الشيوعي المغفور له المقدم بابكر النور للالتحاق بالقوات المسلحة! (4) سعى الحزب الشيوعي في مراحل مختلفة من حياته للدخول في مجال الاستثمار الاقتصادي كاستراتيجية لتنمية موارده وتوفير الدعم المالي لكادراته ونشاطاته، وقد تراوحت تجربته في هذا المضمار بين النجاح والفشل. وكان رجل الاعمال عبد الله محمد فرح هو أول مستثمر لأموال الحزب في حقبة الستينات الاولى، وقيل انه حقق نجاحاً لا بأس به في مهمته. وبحسب العارفين فإن أفضل من وظف أموال الحزب وقام بتثميرها تجارياً كان هو رجل الاعمال المرحوم حامد الأنصاري. ولهذا كان الرجل من اوائل الاهداف في قائمة النظام المايوي، عندما احتدمت حالة العداء بين النظام والحزب، حيث اعلن رئيس النظام، اللواء آنذاك جعفر نميري، في بيان أذاعة شخصياً عبر جهازي الاذاعة والتلفزة في العام 1970 قراره بمصادرة اموال وممتلكات حامد الانصاري. هذا على الرغم من أن الانصاري كان من أثرى أثرياء السودان آنذاك، وان استثماره لأموال الحزب كان شأناً جانبيا هامشيا في نشاطه كرجل اعمال. أما عن تجارب الحزب الاستثمارية الخائبة فحدث ولا حرج. من ذلك شركات للاستثمار في مجال الأدوية المستوردة من بعض الدول الاشتراكية في مراحل ما قبل سقوط المنظومة الشيوعية. وقد اغتني من هذه الاستثمارات بعض الافراد، بينما خرج الحزب صفر اليدين. كما عاني شيوعيونا من ابتلاءات الضعف البشري وتغير النفوس، فكم من كادر حزبي إلتوى بما في عهدته، ومنها أموال جمعت كدم الحجامة لأغراض حساسة. مثال ذلك الرجل الذي كلف بمهمة ترقية وتجديد مطبعة جريدة الميدان عقب ثورة اكتوبر، فتسلم الأموال المخصصة، ولكنه استطابها فحمل مال البروليتاريا في جيبه وغادر الحزب. (5) تاريخياً كانت اشتراكات العضوية هي المصدر الأساس لمالية الحزب. والتعويل على استنباط المال عن هذا الطريق لم يكن شكلاً تقليدياً راتباً، بل هو عقيدة راسخة في حقل اصول مبدئية روى تربتها الآباء المؤسسون. بل أنهم جعلوا من الاشتراك الشهري شرطاً من شروط العضوية الثلاثة، وأولها القبول بالبرنامج واللائحة، وثانيها الانتساب الى منظمة حزبية، فأما الشرط الثالث المعقود بناصية العضوية فهو دفع خمسة بالمائة من دخل العضو شهرياً وبصورة منتظمة. وها أنت – أعزك الله – ترى أن اعتناق الماركسية ليس شرطاً من شروط العضوية في الحزب الشيوعي. بل أنك يمكن ان تكون وهابياً من جماعة بن باز ثم تلتحق بالحزب لو أنك أمّنت على الشروط الثلاثة. ونزيدك من الشعر بيتاً، أن لائحة الحزب تنص على أن من توقف عن تسديد الاشتراك لمدة ثلاثة أشهر يتم فصله على الفور. كذلك فقد جعل الشيوعيون الأولون من تبرعات اعضاء الحزب واصدقائهم لمشروعاته سُنّة وربما فرض كفاية. بيد أن لدينا ما نضيفه هنا، وهو أن النص بفصل العضو في حالة عدم السداد توقف تطبيقه منذ عهد طويل، لسبب غاية في البساطة، وهو ان تفعيله في زماننا الحاضر ربما يعني عملياً فصل اكثر من نصف اعضاء الحزب! التردي والتراجع في الوفاء بالالتزامات الحزبية لا يطال غمار الشيوعيين وحدهم، بل أن الرقص يشمل ضاربي الدفوف في مختلف المواقع. على سبيل المثال تنص اللائحة على ان يلتزم من يكون عضوا في البرلمان من منسوبي الحزب بدفع مرتبه كاملاً للسكرتارية المالية، على ان يتسلم هو راتبه العادي كمحترف متفرغ بعد ذلك. وقد كان هذا هو الحال مع الأوائل ممن جلسوا تحت قبب البرلمانات وعلى رأسهم الراحل عبد الخالق محجوب. ولكن أحداً من اعضاء الحزب الذين دخلوا برلمان الانقاذ بعد اتفاقية 2005 لم يلتزم بهذا النص. إذ كان هؤلاء يتسلمون المرتبات والامتيازات وقطع الاراضي، ثم يلوذون بالنسيان. وقد سمى الانسان انساناً لأنه ينسى! وقد عاني الحزب معاناة شديدة في السنوات الاخيرة بسبب قلة الموارد المالية اللازمة لمجابهة احتياجاته، حتى اصبحت من الممارسات الراتبة - قبل وفاة السكرتير العام السابق المغفور له الاستاذ محمد ابراهيم نقد - أن يذهب هو شخصياً لطلب المال من الموسرين من غير اعضاء الحزب. وقد كان بعض هؤلاء – وما يزالون – يبذلون بسخاء. وتذهب حصيلة هذه التبرعات في العادة لتغطية مدفوعات المحترفين المتفرغين والايجار الشهري لدار الحزب. وفي عهدنا الراهن فإن المصدر الاساسي لدخل الحزب، الى جانب تبرعات الموسرين، هو مساهمات الشيوعيين واصدقائهم من المقيمين خارج السودان، وبصفة خاصة السعودية والخليج وامريكا الشمالية واوربا. وفي الطليعة بين هؤلاء شيوعيو بريطانيا العظمي، حيث يتلقى الحزب اكبر ايراداته من انجلترا التي تضم أعداداً كبيرة من الشيوعيين الملتزمين اصحاب الدخول المجزية. وكنت في وقت مضى قد أشرت عرضاً، ضمن إحدى مقالاتي، الى الدعم الاستثنائي الذي يقدمه للحزب الملياردير محمد فتحي ابراهيم، الذي يرد اسمه بصورة راتبة ضمن أشهر أثرياء العالم في تقرير فوربس السنوي. وقد أحفظت إشارتي تلك بعض الرفاق. والحقيقة أنني لم اكن أول من وضع هذه المعلومة في المجرى العام للاعلام السوداني. وإنما نشرها قبلي أحد اعضاء الحزب الشيوعي المقيمين في بريطانيا، وهو الاستاذ منصور جعفر محمد على بخيت، إذ ضمّنها بطن مقال له منشور على الشبكة الدولية. ومعلوم أن الملياردير محمد فتحي ابراهيم عضو في الحزب الشيوعي منذ ستينات القرن الماضي، إبان عمله مهندساً في مصلحة المواصلات السلكية واللاسلكية. وكذلك شقيقه الدكتور أحمد فتحي ابراهيم، الذي عمل لسنوات طويلة طبيباً في مركز صحي الكلاكلة شمال الخرطوم. (6) تجربة الحزب الشيوعي السوداني في مضمار التمويل الذاتي، برغم انحسارها بأخرة، بسبب من انكسار اليقين في المستقبل الديمقراطي وخيبات النماذج التطبيقية على أرض الواقع العالمي، تظل تجربة فريدة. وهي تجربة تربوية سياسية في المكان الاول، صار بها استخلاص المال من بين يدي العضوية سبيلاً للتعبئة والحشد نحو المراقي، وتلك سمة من سمات الوعي الحركي الاجتماعي الفالح. وربما صح القول ان سوانح وفرص استقامة هذا الجانب في شغل الأحزاب والتنظيمات السياسية الاخرى تقوى وتزداد بتمثل واحتذاء تقاليد بني شوعان الناضجة في توطين الالتزام البصير بمعاني المشاركة. ولايهولنّ أحزابنا الكبرى أن تجد أنفسها امام نداء كهذا يناصحها بأن تأخذ عبرة المسير من عيال ماركس، ففي تراث الممارسة السياسية، كما في الحياة ككل، فإن الله يضع سره في أضعف خلقه. وفي الأثر "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها". وقد وقفت كثيراً وأنا بسبيل تحرير هذا المقال على بعض فقرات من مجموعة (شيبون: جمر الجسد، صندل الشعر – عن جيل الخمسينات الشيوعي) لشيخنا الدكتور عبد الله على ابراهيم. ثم على رثاء شيخنا للقيادي الشيوعي الراحل سمير جرجس. وقد أدهشتني من جملة ما قرأت دقة النظم وصرامتها وتقشفها، في زمن بني شوعان الذي مضى، والمتابعة الدقيقة لكل قرش منظور حتي يدخل مدخله أو يخرج مخرجه. كما أذهلتني جسامة التضحيات التي بذلها منسوبو الحزب من المحترفين المتفرغين للعمل السياسي في صبر وايثار نادرين، فقد لجم الحزب كادره من جهة المال وطبّعه بعادة التقشف والتضحية، حتي أنه جعل للمتفرغ أجراً مكافئاً لأجر أدنى العمال. ثم خطر لى ان ابعث للشيخ أساله ان كان عنده مزيد على ما هو كائن في مساهماته المنشورة، فرد علي قائلاً: "صفحة الحزب الشيوعي مع المال بيضاء بشهادتي. وأرجو ألا تخوض خوضا". وأنا لا اخوض، بل اُفتش واهترش! غير أنني تفحصت بعض ما سطّر عبد الله عن قومه السابقين فلفت انتباهي أنه كتب مرتين، في موردين مختلفين، عن انقسام الشيوعين في العام 1970 حول قضية مساندة انقلاب مايو. ومن ملاحظاته أن غالبية المنقسمين كانوا من الكادر المتفرغ في الحزب، حتي اطلق على الانقسام لقب (ثورة المتفرغين)، الذين ربما ارهقهم طول البذلان وكثرة التعب والنصب. واغلب هؤلاء جاءوا الحزب أيفاعاً، فمنحوه شبابهم ثم كهولتهم، حتى تفاقم بهم العمر. وشيخنا هو الأعلم بطبيعة الحال، فهؤلاء قومه وهو أدرى بهم. وأتصور ان من عناهم من المحترفين المتفرغين المرهقين، الذين خلبت ابصارهم صولة مايو ووهجها وبريقها، ووجدوا فيها (جمّة) من حرّ النضال، كانوا من الأواسط والأصاغر. أما المحترفين المتفرغين من القادة والرموز الذين خالفوا قائدهم عبد الخالق المحجوب فهجروه، وركبوا مركب مايو فشأنهم آخر. وأنا أقرر ذلك تأسيساً على ترجيح عندي، تسنده الادلة والقرائن، بأن القادة المتفرغين المنقسمين كانت لهم في الأصل مواجدهم الذاتية على السكرتير العام للحزب، فاستثقلوا سلطته، وابتغوا فكاكاً من أسر زعامته الطاغية. ألم يكن على رأسهم معاوية ابراهيم الذي أبعده عبد الخالق عن موقع السكرتير التنظيمي ذي النفوذ الضارب، وأحاله الى رتبة دنيا سكرتيراً للعلاقات الخارجية؟ ألم يكن بينهم فاروق ابوعيسى الذي عزله عبد الخالق من المكتب السياسي واللجنة المركزية معاً، فانخرط الرجل من فوره في التنسيق مع صديقه رئيس القضاء السابق بابكر عوض الله لتفعيل الانقلاب على الديمقراطية؟ ألم يكن حادي ركبهم أحمد سليمان، الذي أحفظه على عبد الخالق أنه حرمه من عضوية المكتب السياسي؟ وكانت أسهم احمد سليمان قد ارتفعت بعد ثورة اكتوبر حتي كاد ان يتحول الى اسطورة. ولكن الزعيم الحديدي، مع ذلك كله، لم يره أهلاً لعضوية المكتب القيادي في حزب الطبقة العاملة! (7) ها نحن – أعزك الله - قد خرجنا من قضية التمويل الى لجج الصراعات التاريخية التي وسمت حزب المراكسة اللينينيين. وقد كان ولوغنا في أمر تمويل عيال ماركس لحزبهم هو نفسه خروجاً على المسار العام لهذه السلسلة، التي ابتغت في الاصل التعقيب على وثيقة حبيبنا المحبوب بن عبد السلام، فاختلط حابل هذا بنابل ذاك. وثيقة المحبوب لا شأن لها بحزب الشيوعيين السودانيين، فهي تتناول قضية مراجعة وتقويم الأداء العام للحركة الاسلاموية – لا الحركة الشيوعية - فما الذي أتى بهؤلاء الى المولد؟ ومال المحبوب بعيال ماركس، ومراجعتهم وتقويمهم؟! هل فرغ من قومه الاسلامويين، ثم تطوع ليراجع ويقوم الرهط من الشيوعيين؟ نسأل الله ان يعيننا على ما ابتلانا به. وان يثبت وجداننا، ويقوى ابصارنا، ويخرجنا من سماديرنا، فلا نري الديك حمارا والليل نهارا، ونفرق حيث اختلط الجمعان، بين الكيزان وبين بني شوعان. وهو الهادي الى سواء السبيل. نقلا عن صحيفة (الرأى العام)