أحسبُ أنّه من غير الصَّوابِ أن يتذمرَ البعضُ في السُّودانِ إذا احتفلنا بمناسبات طيبات، على سبيل الذكرى والوفاء والعرفان، بحُجةِ أنّ هذه المناسبات استنها قومٌ من غير ديننا أو ملتنا. من هنا، لا أجدُ غباراً على الاحتفالات التي انتظمت بلادنَا من خلال بعض المؤسسات والشركات والمنظمات، حتى من الأفراد في يوم الأم، الذي صادف أمس (الجمعة) 21 مارس 2014، ولكن أرى أنّ تلكم الاحتفالات بيومِ الأمِّ لا يتعارض مع بعض مفاهيمنا الدينية، ولا غبارَ عليه تديناً، لأن القاعدة الأصولية أنّ كلّ العبادات حرام ما لم يأتِ نصٌ يحللها، وكلّ العادات حلالٌ ما لم يأتِ نصٌ يحرمها. ففي الأولى لا يمكن أن نشرع صلاةً أو صياماً، تعبداً وتقرباً من الله تعالى، سواء تلك التي شرعها علينا الله تعالى، وأبلغنا بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وألا صلاة بغير تلك التي أمرنا بها رسول الله صلى الله على وسلم، في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وفي الثانية، لا ينبغي أن نحرّم من العادات ما لم يأتِ نصٌ صريحٌ بتحريمها، كأكل لحم الخنزير والميتة والدم، وما أُهلّ لغير الله، فالتحريم هنا، تنزيل لقول الله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". وأحسبُ أنه من الضروي أن نؤكد أن الإسلام جبَّ كثيراً من مظاهر العبادات، ونهى عن القليل من العادات. وفي رأيي الخاص، أن التأصيل بالاحتفال بيوم الأم يتماشى مع فهمنا لتعظيم الله سبحانه وتعالى لدور الأم، تنزيلاً لقوله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وعمْداً لا أسمي هذا الاحتفال بعيد الأم، بل أسميه يوم الأم، لأنّ العيد في الإسلام عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى، تصديقاً لقول النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ الله بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمُ الفِطْرِ وَيَوْمُ الأَضْحَى". أما مناسبة الاحتفاء بيوم الأم، فهي مناسبة سبقنا إليها الغرب، ولكنّها لا تتعارض مع ديننا، ولا تتنافى مع تديننا، بل إنّها إذا تأملناها، نجد فيها حكمةً ووفاءً. لأنّ هذا الاحتفال، بمثابة تذكر لعظيم ما تقدمه الأم، تضحيةً ونكرانَ ذاتٍ، ووفاءً لهذا الجميل الذي يطوق أعنقانا، عرفاناً بأن لها حق ومستحق علينا. وفي الأم يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق الأم روض إن تعهده الحيا بالريّ أورق أيما إيراق الأم أستاذ الأساتذة الألى شغلت مآثرهم مدى الآفاق ولما كانت للأم مكانة خاصة، وأثر عظيم في قلوب أبنائها وبناتها، نجد أن الشاعر الراحل نزار قباني خصها بخمس رسائل منها: صباحُ الخيرِ يا حلوة.. صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة مضى عامانِ يا أمّي على الولدِ الذي أبحر برحلتهِ الخرافيّه ولم يتخلف الشعر الغنائي السوداني في الاحتفاء بالأم، والتأكيد على دورها الريادي في تنشئة الأبناء وتربيتهم، وما تغدقه من عطفٍ وحنانٍ عليهم. وفي ذلك يقول الأخ الصديق الشاعر الغنائي التجاني حاج موسى، في القصيدة التي صدح بها وأشهرها الأخ الصديق، الفنان الكبير كمال إبراهيم سليمان أحمد المعروف ب"كمال ترباس": أمي.. الله يسلمك ويديكي لي طول العمر وفي الدنيا يوم ما يألمك.. أمي .. الله يسلمك.. أمي يا دار السلام يا حصني لو جار الزمان ختيتي في قلبي اليقين يا مطمناني.. بطمنك أمي.. الله يسلمك خيرك عليَّ بالحيل كتير يا مرضعاني الطيبة بالصبر الجميل يا سعد أيامي وهناي لو درتي قلبي، أسلمك. أمي.. الله يسلمك أنا مهما أفصح عن مشاعري برضو بيخوني الكلام وقولة (بحبك) ما بتكفي وكل كلمات الغرام يا منتهى الريد ومبتداه.. يا الليا.. الله يسلمك.. ويديكي لي طول العمر وفي الدنيا يوم ما يألمك.. أمي.. الله يسلمك.. أخلصُ إلى أن الأم مدرسةٌ نحتاجُ أن نحتفي بها، تذكراً لمتاعبها معنا، ووفاءً لتضحيتها من أجلنا، وعرفاناً بجميلِ معروفها، وعظيم جهدها. وجميلٌ من شركة الهاتف السيار (زين) أن تخصص احتفاءً كبيراً بمناسبة يوم الأم أمس (في قاعة الصداقة بالخرطوم، وليت كثيراً من المؤسسات والشركات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية تتدافع إلى تنظيم مثل هذه الاحتفالات التي تُشيع البهجةَ والسرورَ وسط الأمهات، وبين الأبناء والبنات. وأكبرُ الظنّ عندي، أن مثل هذه الاحتفالات تترك أثراً طيباً لترسيخ معاني الوفاء ومفاهيم العرفان. وفي خاتمة هذه العُجالة، لا يفوتني أن أغتنم هذه السانحة الطيبة، لأدعو الله خالصاً مخصاً، أن ينزل شآبيب رحمته، وواسع مغفرته، على أميِّ الحبيبة، وأن يجعلَ قبرَها روضةً من رياض الجنة، وأن يتقبها قَبُوْلاً طيباً حسناً، ويُلهمني دائماً وأبداً الصّبر الجميل، وأن يدخلها فسيح جنانه مع الصِّديقين والشُّهداء وحسن أولئك رفيقاً. ولنستذكر في هذا الصّدد قول الله تعالى: "وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ". وقول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: لولا التقى لقلتُ: لم يَخلُقْ سِواكِ الوَلدا! إن شئتِ كان العيرَ أو إن شئتِ كان الأسدا