السُّودان أمام مجلس الأمن: إيران لا تلعب أي دورٍ في الحرب ويجب ردع الإمارات.. ومؤتمر باريس كان يهدف إلى عزل السُّودان!!    إطلاق البوابة الإلكترونيةبسفارة السودان بالقاهرة وتدشين الهوية الرقمية الجديدة    بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطة طروادة: مسرح ما بعد التشبع بالغرب .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 31 - 03 - 2014


بطة طروادة: مسرح ما بعد التشبع بالغرب
الورقة التي قدمتها لأيام المسرح بالشارقة في 2012
عبد الله علي إبراهيم
[email protected]
في مسرحيتي "السكة حديد قرَّبت المسافات . . . وكثيراً" صورت جماعة من شباب القرى الذين هاجروا في العشرينات من القرن الماضي للخدمة في مصلحة السكة حديد الناشئة. وهم المزارعون الذين تحولوا إلى بروليتاريا في لمحة بصر. وعمِل بعضهم سقاء لبيوت الأقباط المصريين الذين قامت المصلحة على طواقمهم الفنية والحرفية والكتابية المستجلبة. ومطلت سيدة منهم أحد أولئك الشباب (عثيمين، وهو عبيطهم) أجره. فأخذ القانون بيده واستولى على بطة للسيدة وأخذها إلى ميز العزابة الشباب بطرف المدينة. وكان هذا المشهد من المسرحية في استقبال البطة، "طير الكفر"، كما قالوا:
-ما بخلي روزينة القبطية تحقرني. النهار ما شال أنقل لها ألمي نامن عود الجوز قص ضهري. تقوم آخرتها تسوي حسابها كوار؟ يعني عثيمين عبيط ليكم كمان عبيط للقبط. لا.لا. كتاب الله قلت لها تدفعي الخمسة فضة تدفعيها ما تدفعيها بخلص حقي نيّ. القبطية لجت "بقى بقى". قلت لها قمنا على بقبقة القبط. طَبقت البطة تحت أباطي وقلت لها إن كان فضل ليّ باقي عندك رافع عرضحالي للعزّ وجلّ يخلصه لي منك يوم الحق. وإن كان علىّ ليك باقي شوفي ليك يوم حق يا حطب النار. بت المغفلة!
وقيع الله (بتأمل): لكين ما تجيب منها إلا القشرة (البطة) دي؟
عثيمين: والله لو كان خنزير.
وقيع الله: في الشايفها بتسعى ليك منه مراح عديل وتمرقنا من الملة تب. (يقترب من عثيمين ويلمس البطة). قلت اسمها بطة؟ (البطة تصوت: كواك). كواك يا مسنوحة. شوف عليك النبي القباحة العليها دي. (لعثيمين) إنت الشيء التقول منجورة ومنجدَّة. صنعة قبط الخالق الناطق.
عيثيمين: شن خبرني! طير كفر واحد.
وقيع الله: دحين لو ما كفرانية القلب الشديدة الزول يربي جضل (جذل وهو ساق الشجرة الميت) (كواك) أي شوف يكاوكو فوقك يا مسنوحة (كواك). كواك شنو؟دلّها في الأرض. (عيثمين يفعل ويبرك وقيع الله على الأرض). كواك (البطة ترد) بتقالبني. شوف القدوم. كواك (البطة ترد. وقيع الله يبتسم) كواك. (البطة ترد). طير الكفر ما بحمل منك كلمة. ( يدور مع البطة. يكاوك وتكاوك. يكاوك وتكاوك. يكاوك وتكاوك). شوف المنجوهة. مسنوحة يا مسنوحة. يكاوكو فوقك. (إلى عيثيمين) يا عثيمين إن داير تطرد المنجوهة بتقول لها شنو؟
عيثيمين: أنا خابر!
وقيع الله: (ينهض مأخوذاً) ماك خابر آعيثيمين. نطرد الحمام نقول "حم". نطرد الجداد نقول "كر". وكت المسنوحة دي تجي شايلها وماك خابر تطرده، دا العوج يا عثيمين. التراب انكتحت لينا. خازوق وركب يا عثيمين! (الجرح والغرنوق. الخرطوم: دار عزة، 2003)
حاولت في هذا النص أن أضع نحواً لإبتلائنا بالغرب. وهو نحو ينأى بنا عن انقسامنا الطويل الفطير بين من صُرعوا بالغرب ومن صُرعوا ضده في ثنائية تعيد إنتاج نفسها في كل منعطف. وأردت بالمشهد القول إنه ربما انتفعنا جميعاً، تقدميين ورجعيين لو شئت، من الغرب كمستضعفين لو نجحنا في تقعيد نحو ثقافي يضبط دفق مؤثراته على جُملنا العربية. ونقرر بعدها ما نحن بحاجة لنا منه وما هو زائد عن الحاجة. فقد سبق لفتية قرانا استئناس الحمام والحمير وعرفنا متى نوقفها عند حدها عند اللزوم. أما البطة التي جاء بها عبيط القرية، بغير التفات للعبارة الكافة الكابحة لأذاها، فهذا هو "الخازوق" الذي ركب أبداً. وسميت في مقال آخر بطة عثيمين ب"بطة طروادة" لأنها تحمل في أحشائها الجُند المُغيرة.
بقراءاتي في إبتلائنا بالغرب وجدت أن مشهدي من "الجرح والغرنوق" مثل طيب على مفهوم اتفق لي لاحقاً وهو "التشبع من الغرب". وأعني أن تأخذ منه بمقدار ثم تتخذ قراراً ب"كفاية" فلا مزيد منه لأنه من فضول القول أو التأثير. فمتى أفرطنا في تكفف الغرب والتاثر به صرنا عالة عليه. وأفضل تطبيق لمفهوم حسم التشبع والانصراف إلى شأننا خاصة هو المصور الفوتغرافي الهندي راي. فقد قال إن التصوير وسيط غربي وأنهم تأثروا به لوقت طويل. وزاد بأنه تأتي مع ذلك لكل فنان وقع تحت تأثير الغرب ووسائطه لحظة تَشَبُع منه. وقال إن لحظة تشبعه جاءت حين بدأ يستخدم نوعاً من الكاميرا البانورامية لسبب محدد ليصور الهند بطريقة فريدة وصفها. فلحظة التشبع هي تلك اللحظة التي توقف فيها راي عن الاستماع إلى الغرب، وكف عن استيراد أياً من طرائقه، وتَرَفّع ان يكون تلميذاً لأحد أو مكفوله. لقد بدأ يتجاوب مع العالم كما يراه أمامه، فالهند بدأت تلقي عليه كيف وماذا يفكر عنها (سميث 2010، 29-30).
الوعل والصخرة
إن الذي أنا بصدد الخوض فيه هنا هو المسرح كوجه من وجوه الثقافة العربية التي دار تاريخها حول إشكالية العلاقة مع ثقافة الغرب منذ القرن الثامن عشر وإلى يومنا هذا. وتأثير هذه الثقافة غالب حتى على أولئك الذين يظنون أنهم أصوليون براء من "دنس" الغرب. والأصوليون منا ربما كانوا أكثرنا تورطاً في الغرب ولكنهم يتجملون. وهذا ما كشف عنه يوسف شروري في كتابه "الأصولية الإسلامية" (1990) برد مفهوم جاهلية القرن العشرين لسيد قطب لمفهوم البربرية الذي أذاعه ألكس كاريل ( -1944)، العالم الفرنسي الحائز على جائزة نوبل وخادم المشروع النازي في النقاء العرقي في فرنسا المحتلة بالألمان، في كتابه "الإنسان ذلك المجهول" (1935) الأوسع مبيعاً لدى زمانه. وكان قطب قد بدأ الأخذ من كاريل منذ كتابه "الإسلام ومشكلات الحضارة" (1953).
جدد الربيع العربي إشكالية الإبتلاء بالغرب في ما عرف ب"الثورة الثقافية" التي لبدت سماء فكر مصر يتنازع فيها العلمانيون على بينة من الغرب (أو حلاله) والإسلاميون على شاهد من التراث. وهي حرب دارت حول المادة الثانية من الدستور بمنطوقها في أن دين الدولة الإسلام واللغة العربية هي اللغة الرسمية والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. فالحداثيون إنتظروا من الربيع العربي دستوراً علمانياً أو سمه مدنياً أو ليبرالياً مستوحاً من الغرب. ويريده الإسلاميون تجديداً للتراث الفقهي والقانوني إن لم يكن إعادة إنتاج له. وهو صراع يقسم الأمة حرفياً إلى أمتين ويُشفِق من علقوا على الثورة أن تكون اختراقاً نهائياً صوب النهضة. ولعل أدونيس من عبر بغير مواربة عن استفحال هذه الثنائية حين قال إنه لن يدعم أي ثورة تنطلق من الجامع بدلاً عن الجامعة. وتوسع صادق جلال العظم فأضاف المسرح إلى قائمة الأمكنة التي يقصر عليها أدونيس حركة الثورة.
ونريد لمقالنا هذا أن يعرض لأزمة المسرح العربي من زاوية المسرح كثقافة. وهي زاوية زكاها عبد الرحمن بن زيدان. فنسب أزمة مسرحنا إلى انقطاعه عن الأبحاث والدراسات التي "توصل إليها المفكرون والباحثون في إشكاليات الوضع السياسي والثقافي العربي، بشكل يمكننا من إثارة أسئلة نقدية واعية تنسحب على الواقع المسرحي" (حمادي 2007، 43). واقترب بن زيدون من مفهومنا للتشبع (الأخذ من الغرب قدر الحاجة ثم التوكل) بصورة مستقلة. فتجده رفض "الكونية الزائفة الغارقة في الأشكال المستوردة" عن طريق إدراك سمات العصر و"جعل الأشكال المسرحية العربية تتكلم بثقافتها" (2007، 44).
الوعي بأن التشبع من الغرب لم يقع فاش فينا. وأتخذ هذا الوعي مظهرين. الأول منهما الاعتقاد بأننا ما نزال عيالاً على المسرح الغربي البدعة لم نبلغ منه الغاية على طول تأثرنا به. والمظهر الثاني هو النعي علينا أننا لم نبلغ منه شيئاً أيضاً حين حاولنا استئناس هذا الجنس الغربي المستحدث باستصحاب تراثنا في هذه المغامرة. ولن يقوى مسرحنا على خدمة مبتكرة لمجتمعه بغير وعي بصير بهذا الفشل المزدوج في التشبع: لم نبلغ من التأثر المرغوب بالغرب إلى ما نريد ولم نبلغ شأواً بحيلنا لاستئناس هذا الجنس الغربي بتوظيف تراثنا قبل المسرحي العربي وغير المسرحي. فكيف للمسرح المصري مثلاً أن يستقل برؤية ل"الحرب الثقافية" القائمة بين أهله لا يؤجج بها بغضاء الثنائيات (حداثة وتقليد، الإرهابي والمرتد) ويلحم الأمة على صعيد النهضة معاً؟
لا تقرأ كتاباً يعرض لتاريخ المسرح العربي إلا وجدت مسرحنا كنبات الظل متسلقاً للدورة الأوربية. فننفعل بما "قبل" واقعة أصيلة غربية ثم ما "بعد"ها ضربة لازب. فغشيت مسرحنا الحداثة (ستانسلافسكي ومايرهولد وفاختنكوف وبسكاتور وبريشت وماكس رانيهارت ولأنتونا أرتو وغروتوفسكس وبيتر بروك). وغشيته ما بعد الحداثة في الثمانينات فترحل إليها بقضه وقضيضه ((حمادي 2007، 14-15، 17).
لقد "تداوينا بالتي كانت هي الداء" بالأخذ عن الغرب شفاءً منه. حتى ليحار المرء إن كان تأثرنا بالموجات الجديدة في المسرح الغربي هي مما يعيننا على تأصيل مسرحنا أم أن تاثرنا بها ضربة لازب بوصفنا جزءاً من المسرح الغربي الذي يبتعد عن الدراما الأرسطية بقراره هو وبحيثياته. بكلمة أخرى: إن تَدَاوينا بالموجات الغربية المستفحلة من أوجاع الغربة في المسرح الغربي هو قدرنا كعضو "منتسب" في ذلك المسرح وتاريخه (أمين 2011، 21). ويصعب بالطبع أن نعزو تجريبنا في المسرح لاجتهاد حر خالص لإستدراك الغرب وتنشئة مسرح عربي أصيل. فالمسرح، كما يقول صبري حافظ، "يحيا بالتجريب، ويزدهر به" (2011، 33). فلا فضل لمسرح عربي على مسرح غربي من هذه الناحية. فبرشت هو الذي قال "إن كل مسرح غير أرسطوطالي هو مسرح تجريبي" (عبدي، 2011، 100). فنحن نجرب المجرب. فخالد أمين يحتفي ب"المنعطف الفرجوي" مثلاً كمرحلة في تاريخ نشأة المسرح المستمرة بحثاً "عن طرائق جديدة لصناعة الفرجة ومنظور جديد لتلقيها" (أمين 2011، 21). وهي عبارة يمكن أن تسمعها من أي مسرحي غربي في شغله للمسرح وتنظيره له.
ولم يسعدنا هذه التأثر بالغرب والتجريب على منواله. فلم يتأقلم مسرحنا بعد مع مطلوب ما بعد الحداثة مثلاً. فهي أطلقت الجسد من عقاله ليوصل دلالات الرؤية ورموزها "خلال أداء جسدي مكتفياً بذاته" (حمادي 2007، 17). ولم نبلغ مبلغ ما بعد الحداثة لأن جسدنا، وهو رهين تابوهات ثقافية كثيرة، تعذر عليه التفلت من قيوده في دلالات رمزية طليقة. من جهة أخرى رجَّحت ما بعد الحداثة الصورة على النص (الذي تمكن من مسرحنا في الستينات والسبعينات). فكانت تكنولجيا العرض في مسرح الغرب "أداة تخيل تأخذ بنا نحو اعتناق للواقع بروح الفانتازيا ومدركاتها المذهلة". غير أن مسرحنا، الذي امتلك تكنولجيا العرض، لم يوفق في توظيفها إلا "بشكل عشوائي" لا يعمق رؤية العرض بل يتفنن به في استعراضية مسطحة (2007، 18). وحدث نفس الشيء للصوت. وظفنا تكنولجياه كمؤثرات لا درامياً في العرض. ووصفت الحمادي هذا التوظيف كمجرد "تقليد" (2007، 19).
وخلصنا من كبوة مسرحنا في أثر الغرب بأن حمار تأثرنا بمسرح الفرنجة قد وقف في العقبة. ف"منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً وحتى اليوم ومسرحنا يدور في دائرة المسرح الغربي ترجمة واقتباساً،" وأن هناك من تخطوا النص المنقول عن الغرب من مثل يوسف إدريس وسعد الله ونوس وعزالدين المدني وعبد الكريم برشيد "للشروع في تأليف نصوصهم. ولكن محاولتهم التأليفية تلك ظلت تنطلق من بنية النص المسرحي الغربي" (2007، 84). فالتجريب لقيام مسرح عربي أصلي ترافقت مع موجات غربية (البنائية وما بعدها، الحداثة، ما بعد الحداثة، ما بعد الدراما، الفرجة، المتلقي، الصورة، إلخ) ولا تجد لها منشأ معلوماً في الخبرة المسرحية العربية. فبقدر ما نُغَيب المسرح الغربي في سبيل تكوين مسرح عربي معتمد كلما حضر هذا المسرح (الغربي) بقوة في تجاربنا لصنع هذا المسرح الأصيل "لأن تغييبه ضد التاريح" (السيد 2003، 135). وربما لم ننل من هذا التجريب سوى فش الغبينة لما أجاد سعد يوسف عبيد محمد بتسميته" مكايدة للغرب" بتقديم مسرح مخالف لمسرحهم" (محمد 2002، 12-13).
مسرح الباشخوجة
ولم نصب سداداً أيضاً بإستراتيجية تأصيل المسرح كجنس غريب على مجتمعنا. فطلب المسرحيون لجم هذه الغربة بالعثور على "مضامين عربية وإسلامية تراثية أو تاريخية أو ثقافية" مع الإلتزام بالشكل المسرحي الغربي. ولم يخل مسعى التأصيل من دعوات لإكتشاف الشكل قبل المسرحي في ثقافتنا بمثل ما دعا له يوسف إدريس وتوفيق الحكيم وجماعة السرداق في مصر والحكواتي في لبنان والاحتفالية في المغرب (حمادي 2007، 20). وفي أدبنا المسرحي في السودان كتابان مميزان درسا إرثنا بنظر لتأصيل المسرح كخبرة غربية. فنظر شمس الدين نجم الدين في المنحوتات على جدران المعابد والجبانات والكهوف الواصفة لأنواع من الممارسات الطقوسية "مما يمكن دارس الدراما من تصور طبيعة الحركة والآلآت الموسيقية المستخدمة وغيرها بالإضافة للأزياء" في مقاربة كبيرة لعلم الدراما بعلم الآثار" هو علم الآثار-المسرح (نجم الدين 2003، 6). أما عثمان جمال الدين فدرس النصوص المسرحية التي إتكأت على أجناس فولكلورية منذ 1967 إلى تاريخه وأثر هذا التوظيف في الرؤية المسرحية المعاصرة. وخلص إلى أنها لم تخلق، بالتراكم، مع ذلك "تيار مسرحي متطور بتطور مصادره وقضاياه". ولم تزد هذه التجارب منذ نحو أربعين عاماً عن وقوفها شاهداً على إمكانية تحقيق مسرح سوداني لا يستغرق في المسرح الغربي (جمال الدين 2004، 158).
وكان هذا ما خلص إليه محمد بقوله إن التيارات المسرحية التي نجمت عن الممارسة العربية في الاتكال على التراث، واستثمار الممارسات الشعبية الاحتفالية، "لم تنشء مسرحاً عربياً حقيقياً. فبعضها حاول مصارعة الشكل الغربي داخل المعمارية الغربية (مسرح العلبة الإيطالي) ففرض الشكل الغربي على الشكل العربي تنازلات حدّت من أثره وأجبرت بعض التحارب على النكوص للشكل الغربي . . . لم تتعد التجارب التي حاولت تقديم مسرح عربي رافض لمعمارية المسرح الغربي طور التجربة إلى تأسيس مسارحها الدائمة وكتابها وفنانيها الذين لا يشركون بينها وبين الشكل الغربي" (محمد 2002، 10-11). وهو نفس ما توصلت له حمادي أيضاً بقولها إن مسرحة التراث عندنا ما تزال متعثرة الخطى لا بل أنها "ما زالت تعاني من قصور في الرؤية وعدم معرفة بآلية الاستلهام والتوظيف". وتضيف أن "المسرح المستلهم من التراث لم يوفق في أغلب ممارسته في مسرحة هذا التراث" (2002، 40).
ما زلنا لم نبرح سؤال: كيف نؤصل لمسرح عربي. والأدهى أننا لم نبرح من السؤال شاغل توفيق الحكيم الذي دعا إلى التعادلية بين استلهام التراث الصالح لعصرنا والانفتاح على تراث المسرح العالمي (السيد 2003، 30). بل ربما لم نبرح مبحث مارون النقاش التأسيسي عن هوية عربية إسلامية للمسرح وهو يدخل بنا بالمسرح "الزمن الحضاري الغربي" ( السيد 2003، 124) مدركاً لوجوب إعادة إنتاجه لكي يستسيغه العرب. وللسبب لجأ إلى التراث من ألف ليلة "هذا الالتجاء الذي لا زال يحكم دعاوى التجريب في المسرح في الوطن العربي" (السيد 2003، 125).
ومن المفارقة الدالة على أننا لم نبرح بتوظيف التراث متردماً مراوحتنا عند المقامات بعد مرور نصف قرن من بدء مسرحتها. فلقد سبق المدرس أحمد محمد الجداوي الأسواني، باشخوجة المدرسة التي أنشأها رفاعة رافع الطهطاوي في الخرطوم بعد نفيه للسودان، الطيب الصديقي إلى الصنعة بزمان طويل. فمَسرَح الباشخوجة المقامة الحريرية الفقهية في عام 1881. فمثل الطالب طه دور أبايزيد السروجي ومثل حسين دور الحارث بن همام بلهجة عربية فصحى "واصوات تمثيلية غاية في الذروة في الاتقان بإشارة الأيدي والرؤوس" (جمال الدين 2005، 12-13).
ولعل أبلغ وأصرح من أدان دوراننا حول أنفسنا تفسيراً للماء بالماء هو فاروق نوهان القائل إن أشكال المسرح العربي "ظلت معتمدة على ما يقدمه المسرح الغربي من تقنيات فنية أو توجهات فكرية في كثير الأحيان. وحتى هذه المحاولات التنظيرية أو الممارستية التي سعت إلى تأكيد الذات العربية وتأصيلها والارتقاء بها إلى مستوى فرجوي يساهم فيه المتلقي مساهمة فعالة،فإنها قد أثارت ردود فعل إيجابية وسلبية إلى حد أن بعضها قد عُدّ أكثر من مجرد اجترار لبعض محاولات المسرح في محاولته الخروج على الممارسة التقليدية وتفجير أساليبه" (حمادي 2003، 39).
وعي بالتأخر: الزمان المتثاقل
أجيء إلى إشكالية المسرح العربي في تمييز هويته عن مؤثره الغربي الغالب من دراسة لي في محنة التعريب في الجامعة العربية. خلصت فيها إلى أن مأزقنا حياله منبت الصلة بقصور مزعوم للعربية في تعاطي العلوم المستحدثة أو في نجابة اللغات غيرها في هذا الباب. وصَحَّ بالتالي أن ننظر للحيلولة دون العربية وتدريس العلوم لا في نقص مفترض فيها بل في علم اجتماع المعرفة الذي يكتنف المستضعفين المُستَدرِكين. وهم من وقعوا في براثن "الزمان المتثاقل" الذي هو العبارة الفنية عن الوعي بالتأخر كما يقول عبد الله العروي في كتابه "العرب والفكر التاريخي" (بيروت، 1973). وهو وعي كشفت عنه عبارة للشاعر السوداني التيجاني يوسف البشير: "هنا في البلد الذي لا تضع فيه كلمة هنا إلا ووراءها النقص". والتعريب والمسرح سواء كوجوه ثقافية خرجنا منها بما لا يشفي الغليل من ابتلاء الحداثة كما فهمناها وخرجنا لكسبها.
وقد نصح سيد حسين العطاس، الأكاديمي الماليزي، منذ 1972 بالأخذ بعلم اجتماع المعرفة في دراسة شغل الصفوة المبتلية بالغرب. فوصف شغل اكاديميّ العالم الثالث من علماء الاجتماع ممن وطئهم الاستعمار بأنه يصدر عن "ذهن أخيذ" (captive mind) مستتر خلف شغلهم الفكري الخبير. فبمثل هذا العلم الاجتماعي للمعرفة نُخضع فكر هؤلاء العلماء العلمي ونتاجهم للتحليل فنفككه ونقف على مصادره وطرائق تشكيله.
وأقترح العطاس أن نبدأ تحليل ذلك الذهن المرتهن للغرب بالنظر إلى ما يسميه الاقتصاديون ب "مزية البرهان" (demonstration effect". وهو مصطلح استمده الباحثون من دراسات سلوك المستهلكين. وفهموا به كيف ينفق المرء على ما يعتقد أنها البضائع ذات القيمة العالية مثل المسرح وتقنياته غير ملق بالاً للإدخار. ويقع هذا الصرف المجازف لأن المستهلك يريد أن يرقى في العزة بالنفس غير عابيء لموضوعية نفع تلك البضائع له. فمعدل استكثاره من تلك البضائع القيمة وقوته يعتمدان على معدل احتكاك المستهلك بها. فكل احتكاك بها برهان جديد على سمو تلك البضائع ومزيتها والرغبة في الاستزادة منها.
فمتى جئنا إلى حقل التثاقف مع الغرب، وقد استبدلنا مفردة "بضاعة" ب"معارف"، وجدنا أن الدافع الغالب في هذا التثاقف هو العقيدة في نفع وسمو معارفه. فطول الاحتكاك بالغرب، مثل حالنا في المسرح لقرن ونصف ونيف، يضاعف مزية البرهان ويُسَعِر الرغبة في اقتناء المنتوج الغربي. ولذا بقينا ننتظر "جودو" المسرح العربي تام التأصيل يأتي بعد طول مكث في نظرياته الغرب الدرامية، وننتظر أن يشتد عودنا فنستقل عنها. ولكن بدا واضحاً أنه كلما طال احتكاكنا بالغرب غلبت بضاعته في نظرنا واستطبناها وعضضنا عليها بالنواجذ. فبرهان علو الغرب قائم في طول الاحتكاك به لأنه كلما طال كلما شغفنا به. فنحن لسنا مأخوذين بهيبة معارفه المستحدثة فحسب بل، وربما الأهم، مصابين بتبخيس قدر موروثنا أو ارتجال في منزلتها من الإبتلاء بالغرب (العطاس 1972، 10-11).
ولبازل ديفدسون، المؤرخ البريطاني لأفريقيا، تشخيص جيد للصفوة الأفريقية المحدثة على ضوء علم اجتماع المعرفة. فطول احتكاكها بالغرب مَكّن من مزية البرهان لمعارفه ومنتوجه فيها فتدأب لإقتنائهما بما يشبه الإدمان. ففي كتابه "عبء الرجل السود: أفريقيا ولعنة الدولة-الأمة" (1992) حلل مأزق أفريقيا ما بعد الاستعمار. ووجد أن تلك الصفوة معيبة جداً وعليها وزر محنة القارة. فهذه الفئة المتعلمة تعليماً غربياً سيئة الظن بثقافة أهلها حتى قبلت صاغرة أن تخلع نفسها عن تلك الثقافة طمعاً منها في النهضة بالوصفة الغربية حذوك النعل بالنعل. فقد قر في وعيها بإلحاح استعماري معروف أن تقاليدها صنو للجمود. ووجب عليها لكي تصبح في عداد المتحضرين أن تكف أن تكون أفريقية. ولضمان أن يخلع أفراد هذه الفئة أنفسهم عن أفريقيتهم حرص الاستعمار أن لا يصبحوا أوربيين أبدا. فهم في المنزلة بين المنزلتين حتى قيام الساعة. فلا هم بقوا على أفريقيتهم ولا هم ترقوا فأصبحوا أوربيين: لا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا. أي أنهم بلسان عربي مبين لم يبلغوا حيث أرادوا ولم يريحوا رواحلهم عن هذا السفر الضال. وتلك حال شبهها علماء ما بعد الاستعمار بحال القرد مع الإنسان. يتشبه به ولن يبلغه حتى بشق الأنفس. وسموها ب "المقردة الاستعمارية" (بهابا 1994).
ووصف ديفدسون شقاء هذه الفئة الأفريقية المميزة الأزلي بما يذكر بحالنا مع ثقافتنا بما فيها المسرح. فقال إنه من فرط ترملهم الثقافي بقي عليهم أن يجوبوا في خلاء خاص بهم حتى يصيح منادي القدر فيشرع لهم أبواب الحضارة على مصراعيها ويأذن لهم بالدخول في وقت لا معين ولا معلوم. وهذا الجهد الضائع النازف قريب من معنى أسطورة إغريقية قديمة أكثر كتابنا من الإشارة إليها. وهي أسطورة سيزيف. فقد سرق هذا البطل الأغريقي النار من عرين الآلهة وهبط بها للناس على الأرض يستضئون بها ولهم فيها مآرب أخرى. فغضبت عليه الآلهة وحكمت عليه بشغل شاق سرمدي. فقد قضت أن يحمل صخرة من أسفل جبل ما فيصعد بها إلى قمته ثم يرميها إلى السفح مرة ثانية ثم يعود ويحملها إلى القمة وهكذا دواليك حتى قيام الساعة. وصارت عبارة "الجهد السيزيفي" مجازاً في ديمومة الشقاء والإعادة المملة بغير حصائل. وهذا حالنا لا يخفى عليك مع المسرح نحمله كرهاً حتى يصيح منادي القدر فيأذن لنا بإحلال المسرح في مجتمعنا ولم يقع لنا هذا الحدث السعيد بعد أكثر من قرن.
لقد افتتنا بمعارف الغرب الغراء بمزية البرهان. ولذلك لم نبلغ نقطة التشبع منها لنخرج من الإتباع إلى الإبداع الذي هو صنو النهضة. لم نصل إلى تلك النقطة في الاستهلاك الثقافي لا يعود المزيد منه بمزية فنقلل من شرائه حتى نكف عن ذلك مرة واحدة. وهذا هو قانون الغلة المتناقصة. ولكنه لا يعمل في الثقافة عمله في الاقتصاد. فالذي يعمل في التثاقف هو قانون مزية البرهان كما تقدم. فخلافاً لقانون الغلة المتناقصة فبقانون مزية البرهان لا نبلغ من تثاقفنا حد الإشباع إلا بقرار تحرري نهضوي واع. وقد نوه بوجوب مثل هذا القرار باتريك سميث في معرض تساؤله عن لماذا كان للاحتكاك العظيم للغرب الصناعي بغيره سبباً لزعزعة أهله عن كينونتهم وماضيهم. ووجد الإجابة في فشل آخَر الغرب (أي نحن في العالم العربي وسائر غير الغربيين) في توقيت متى يفطم نفسه منه. وهنا روى قصة المصور الهندي المذكورة آنفاً.
ليس أشبه بنا في دوراننا حول أنفسنا في أخذنا بمعارف الغرب من جهة سعينا الأزلي له بغير سداد بكلب الفرنجة الذي يقال إنه يطارد ذنبه فلا يبلغه ولا يكف عن المحاولة. كان مأمولنا أن نبلغ هذا المسرح الأصيل بالتأثر البليغ بالغرب ولكن ذهننا الأخيذ بهم بمزية البرهان كما تقدم لم يتشبع من الترجمة منهم فنبلغ الفطام لنخرج بالمسرح بهمة للنهضة لا نلوي على شيء. وانطبق علينا من فرط الترجمة وإدمانها قول ولتر بنجامين إن الترجمة تستحيل إذا كان جوهر غايتها القصوى أن تطابق الأصل.
خاتمة: ما لا تنتطح فيه العنز الأبيض والعنز الأسود
إن تبعة المسرح، والثقافة بعامة، أن تؤمن وعياً للحراك الاجتماعي الذي يجري أمام أعيننا فيؤمنه لا من النزاع، الذي لا يكون نزاع بدونه، بل من بعض الأزياء المستعارة التي نخوض بها هذا الصراع الضروري. فأشد ما يؤذينا ليس أننا نختلف كسائر البشر (ونفشل) بل وقوع ذلك الخلاف بمصطلح لا نملك له رداً. فالحداثة والتقليد، التي نتقاتل عند مواقعها كما رأينا في الربيع العربي، مصطلحان مرجعيتهما الغرب واستعماره لنا. وظللنا في براثن هذه الثنائية الاستعمارية لم نتشبع منها فنتجاوزها إلى تركيب نهضوي جديد.
وصف فرانز فانون، المارتنيكي الثوري، هذه الثنائية منذ الستينات بأنها بنت الجغرافيا الاستعمارية انقسم بها البلد المستعمَر إلى فضاء استعماري له المعيارية وآخر أهلي منحرف عنه ومرذول (فانون 1968). فتواجه الفضاءان خلال الاستعمار وما بعده كما نرى في أعقاب الربيع العربي بصورة إقصائية استحال معها توحيد المستعمرة التي استقلت في وطن رحب. وقال فانون إن هذه الثنائية تستفحل فتصيب أهل المستعمرة السابقة ب"الهذيان المانوي" (مانوي من اسم الحَبر الزرادشتي مان الذي إعتقد في صدام النقائض من ضوء وظلام مثلاً ونسب له حركة العالم) ويصيب هذا الهذيان المانوي كل مشروع تحرري في مقتل.
اكتنفت ثنائية الأصالة والمعاصرة مشروعنا لمسرح عربي حقيق فأذهلتنا عنه. وهي ثنائية وصفها زكي نجيب محمود بالمرض والعقم بقوله إنها ثمرة "غيظ مكتوم من (الآخر)" (المقالح 2011، 44). وعرض عزالدين المقالح لبوار هذه الثنائية بقوله إنه"لما يثير العجب أن نبذل جهدنا لنثبت أن في تراثنا الشعبي مسرحاً، وبذلك فلا نكون مدينين للغرب بشيء في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه ترانا لا نقيم مسرحاً له قيمة في عالم الأدب والفن إلا إذا جربناه على سنن الفن المسرحي كما عرفه الغرب وكا نقلناه عنه" (المقالح 2011، 44).
وممن أمسك بقوة بعقم هذه الثنائية ومصارع مشروعنا لمسرح عربي مستحق بسيوفها عبد الرحمن بن زيدون. فمن رأيه أن مسرحنا العربي تفاعل مع الطليعية الغربية "بالدعوة إلى المعاصرة تارة والدعوة إلى التغريب (من الغرب) تارة أخرى" (2011،11). والتغريب ليس عنده بالتبعية بل هي طلب لخير الغرب (2011، 12). ووصف تأسيس المسرح العربي بين شد وجذب هذه الرهانات، التأصيل والتغريب، خلال المائة سنة الماضية ب"هلع اللحظة التاريخية" (2011، 13) تعيش فيه الثقافة ب"أفق مؤجل" في عالم قبيح (2011، 18).والبادي أن بن زيدون شقي بهذه التضادة بين الأصالة والمعاصرة فتساءل إن كان المسرح سيظل فضاءً مستباحاً لهما (2011، 19).
إن الخروج من هذيان الثنائية المانوي يتأسس في تكاثف وعينا بالمنشأ الغربي لها في جغرافيا الاستعمار التي وصفها فانون. وهو وعي بالعالم، واستضعافنا فيه، يضريه استشراق داخلي يصمنا بالهوان على أنفسنا، والتشبه بالغرب حتى إذا دخل جحر ضب تبعناه فيه. وأعتقد أن بن زيدون وفق كثيراً في لفت نظرنا بقوة إلى منزلتنا في العالم وضرورة نقده لنسلم من التوهان فيه. فنعى علينا توزعنا بين قطبي الرحي، أصالة وتغريب، منشغلين عن مجابهة السؤال الأنطلوجي الوجودي: "أي تاريخ لإي وجود يُؤسس عليه المسرحيون العرب أوعاءهم لفهم العالم درامياً، أو ملحمياً، أو عبثياً، أو طليعياً؟" وعلى أرضية هذا السؤال الوجودي رغب بن زيدون في مسرح آخر "يحمل مشروعاً آخر للتفكير في الذات والتفكير في العالم": مسرح للتفكير في العالم "يسير بمتخيله نحو تغيير ما يمكن تغييره للوصول إلى فهم للعالم، والوصول إلى جوهره المفقود" في زمن خضع العالم بالعولمة لضبط حاسوبي شديد (بن زيدون 2011، 18).
بنقد العالم نقترب من اتخاذ القرار بالتشبع من ثقافة الأقوياء ونمتنع على سريان قانون المزية، ونستصوب مشروعية السؤال: أن ماذا لو خلت حياتنا قديماً وحديثاً من المسرح؟ ماذا لو كنا أمة بلا مسرح؟ هل نتراضى عند استحقاقنا للمسرح ببينة "الأشكال الفرجوية أو الاحتفالية او الما قبل- مسرحية" (يوسفي 2009: 37 و 39). هل خَلعٌ المسرح عنا عيب؟ هل سنصبح به أمة خاسرة لا نستحق عالمنا الحديث؟ ولنروض هذه الفكرة التي تبدو مجازفة و"رجعية" أو "هدّامة" أحيل القاريء إلى الخمسينات حين اكتشفنا، لعارنا، أننا خلو من الأدب الملحمي كمثل الإلياذة. وأذكر كاتباً لبنانياً راح علي اسمه اصطنع ملحمة عربية خصيصاً لتعويض نقصنا، وسد الفرج، وستر العار. وتعذر عليّ قراءة النص كأي شيء سائغ ناهيك عن ملحمة. وقبلنا بآخرة من سكات أننا بلا ملاحم مثل الإلياذة وكفى الله المؤمنين شر القتال. ونقول استطراداً: ما ضر الغرب أنه لم يعرف شعر المعلقات أو المقامة؟ إن للأمم خصائصاً في الثقافة. فمتى تفردت بواحدة أو أخرى صار تشبه الأخريات بها تكففاً تريد أن تتجمل به في حضرة الشوكة لا طلباً حثيثاً حفياً للثقافة.
لقد لبد علينا المسرح الغربي سماء فكرنا وصحوه فبدا هو الغاية والمنتهى وجواز المرور إلى الحداثة وما بعدها إلى قيام الساعة. فعلي عقلة عرسان "رفع الحرج عنا بقوله إن العرب لن يضيرها نقص في المسرح نخلق له المعاذير ونصطنع الحيل. فلنا بغير غلاط ظواهر مسرحية لم تصير مسرحاً بالمعنى المعروف. ولو طورناها في زمننا الخاص لربما صنعت شيئاً غير هذا المسرح المعروف عن الغرب بيننا. وبرباطة الجاش الحضارية هذه ربما كففنا عن الأسئلة التبكيتية مثل ما الذي حال دوننا بينا وبين اكتشاف المسرح على سنته الغربية. فنتذرع جزافاً بأن بدواتنا هي التي وقفت بيننا والمسرح ورمتنا "أسارى القصيدة الغنائية سهلة التداول والرواية" (المقالح 2011، 46). ومنهم من رد الحيلولة بيننا والمسرح المعروف أن الأخير ارتبط بالأساطير في تنشئيته بما يدور فيها من صراع بين الناس والآلهة على مذهب الوثنية الذي يرفضه الاسلام. ويضيف بعضهم أن حرمة "تشخيص" الأنبياء والصحابة وغيرهم حالت بيننا وبين المسرح (2011، 47). وربما صدقت هذه التعليلات ولكن برهانها عسير إلا ما جاء حدساً، أو ما أنطوى على تخطئة للطرائق التي عاش عليها السلف منا وبها، أو عاب علينا سبلنا في الولاء للسلف وتوقيرهم بالنظر إلى قوم آخرين.
ولم أجد مثلاً في هذيان الثنائية كمسرحي مثل الفكاهة التي سمعتها من أيام قليلة مضت. قالوا إن باحثاً اجتماعياً أجرى مقابلة مع قروي. وكانت "حيلة" القروي معزتين أحدهما بيضاء والأخرى سوداء. فسأله الباحث كم يصرف على علوقهما. فرد القروي :على العنز البيضاء أم السوداء؟ فقال الباحث: السوداء. فأجاب القروي: خمسين قرشاً. فسأل الباحث: وعلى البيضاء؟ قال القروي: خمسين قرشاً. سأل الباحث: كم رطلاً يحصل من العنزين؟ قال القروي: من أيهما؟ قال الباحث: البيضاء. قال القروي ثلاثة أرطال. قال الباحث: وكم تحصل من السوداء؟ قال القروي: ثلاثة أرطال. وعرف الباحث أنه ركب مركباً صعباً. فسأل القروي: وكم ستحصل إذا بعت العنزين؟ قال القروي: أيهما؟ قال الباحث: السوداء. قال القروي: عشرين جنيه. سأل الباحث: وكم تحصل من البيضاء؟ قال القروي: عشرين جنيه. ولم يتمالك الباحث هنا طوره لإجابات القروي العبثية. فقال غاضباً: ما جننتنا يا زول. شابكني البيضاء والسوداء ولا فرق بينهما. قال القروي: ما تزعل يا أخينا. أنا بقول كده عشان البيضاء حقتي. فسأل الباحث: والسوداء، حقت منو؟ قال القروي: السوداء حقتي برضو والله.
ربما اقترحت المتعة التي في هذه الفكاهة للمسرحيين أن يزعزعوا بشغلهم الثنائيات مثل الحداثة والتقليد التي إرتهن بها الناس إلى تاريخ لم يصنعوه تماماً وإلى معايير كانوا هم موضوعها لا واضعيها. وبدا لي أننا بلغنا الزبى من التاثر بالغرب ومعالجاتنا التي طالت لاستدراك ما فاتنا من فنونه. وجاء الوقت لإتخاذ قرار نهضوي بفك الارتباط بالغرب لنبدأ الصدور عن أنفسنا من فوق ما تشبعنا به منه. وربما ماثلت إشكالية الأصالة والمعاصرة في المسرح إشكالية الذكوري-الأنثوي. فأمام المرأة خياران: أن تتفاعل مع النص "الذكوري النموذج الذي سيطر على تأثيث الفضاء المسرحي، وحدد أسس فن الكتابة االدرامية وفن العرض المسرحي" أو رفض ذلك والسعي إلى امتلاك نص لترسيخ بنية درامية، ويؤسس لخطاب أنثوي مميز" (حمادي 2003، 28). ولذا ذاع في الخطاب الأنثوي التحرري المجاز القائل إن أدوات السيد لا تهدم بيته.
المراجع العربية:
خالد أمين، المنعطف الفرجوي: المسرح العربي وأسئلة ما بعد الدراما. في الملتقى الفكري: المسرح العربي بين عقدين: الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2011.
عثمان جمال الدين، الفولكلور في المسرح السوداني. الخرطوم: أروقة للثقافة والعلوم، 2004
وطفاء حمادي، الخطاب المسرحي في العالم العربي 1900-2006. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن بن زيدون، المسرح العربي كمشروع للتفكر في العالم: جواب الخلفيات أم سؤال المتغيرات؟ المسرح العربي، مارس 2011، 10-19,
السر السيد، دوائر لم تكتمل: كتابات حول الدراما السودانية، مركز القاهرة لحقوق الإنسان، 2003.
عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي. بيروت، 1973.
وطفاء وجدي، الخطاب المسرحي في العالم العربي. بيروت: المركز الثقافي، 2007.
شمس الدين يونس نجم الدين، الطقوس السودانية عبر التاريخ. الخرطوم: أروقة للعلوم والثقافة، 2003.
عبد العزيز المقالح العرب والمسرح ، المسرح العربي، مارس، 2011 ، 44-49.
سعد يوسف عبيد محمد، أوراق في قضايا الدراما السودانية. الخرطوم: أروقة للعلوم والثقافة، 2002.
حسن يوسفي، المسرح والحداثة. المغرب: منشورات وزارة الثقافة، 2008.
المراجع الإنجليزية:
.
Alatas, Syed Hussein, The Captive Mind in Development Studies. International Social Science Journal, 24, 1, 1972: 9-25. .
Bhabha, Homi, The Location of Culture. London : Routledge, 1994.
Choueiri, Youssef. Islamic Fundamentalism. Boston: Twayne Publishers, 1990.
Davidson, Basil, TheBlackman's Burden. New York: Times Books, 1992.
Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. New York: Grove Press, 1968.
Ibrahim, Abdullahi A, Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary an Islamic Renewal in the Sudan. The Hague: Brill, 2008.
Smith, Patrick, Someone's Else Century: East and West in a Post-West World. New York: Pantheon, 2010.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.