خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    كمين في جنوب السودان    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية الحداثة والتحديث في فكر عبد الله العروي..بقلم: محمد سبيلا
نشر في حريات يوم 18 - 04 - 2013


محمد سبيلا..
لقد ظل الاختيار الحداثي اختيارا فكريا صريحا وواضحا في أعمال ذ. العروي منذ لحظاته الأولى أي منذ “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” التي هي تحليل لأفكار النهضة العربية الحديثة ولمدى ارتباطها بالتراث والتقليد ولمدى استجابتها للأفكار الحديثة.
وقد ظل هذا الاختيار هو الخيط الناظم لكل الأعمال وفي كل المراحل الفكرية التي قطعا ذ. العروي، حتى لتبدو الحداثة وكأنها الفكرة الأساسية التي يدور حولها فكره كله والتي يتم فحصها وتقليب مختلف عناصرها واوجهها بالتدرج، وقد سبق للفيلسوف الألماني هيدجر أن نبه إلى فكر المفكر يؤول في النهاية فكرة أو تيمة مركزية واحدة يدور حولها كل فكره.
غير أنه إذا ما صحت فرضية أن فكرة الحداثة هي محور فكر العروي فإن هذه الفكرة لم تولد مكتملة منذ البداية بل استكملت وطورت عبر كل مساره الفكري. وقد اعترف ذ. العروي نفسه، أكثر من مرة، وبصيغ مختلفة، بهذه الحقيقة حيث يقول “أن ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا [بالمدلولين الزمني والمكاني] من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة”.
لكن لهذه المسألة وجها آخر هو أننا أمام رؤية أو نظرية حول الحداثة مبثوثة وموزعة في كل كتاباته. وهو ما يتطلب من أي باحث في هذا الموضوع القيام بعملية تجميع لهذه العناصر ليتأتى له تركيب الصورة الكلية المكتملة لنظرية الحداثة عند ذ.ع. العروي.
المعالم أو العناصر الأساسية لنظرية الحداثة عند العروي هي: مفهوم الحداثة الحداثة والتحديث – الحداثة بين الكلمة والشيء – سمات الحداثة – آلياتها – مستوياتها – فواعل الحداثة – الحداثة والتقليد – الحداثة والدين – الإسلام والحداثة عوائق الحداثة الحداثة وما بعد الحداثة. والمغرب بين التحديث والحداثة…
وسأحاول في هذه الورقة أن أقدم خطاطة أولية لمعالم نظرية الحداثة والتحديث عند عبد الله العروي عبر انتقاء أربعة عناصر.
يقدم العروي نفسه دوما كمؤرخ ويعلن حرصه وتمسكه بهاته الصفة. وهو ينطلق في تحديد الحداثة من الحداثة كواقعة تاريخية حدثت لا راد لحدوثها وهي الحداثة الأوربية التي انطلقت ابتداء من القرن السابع عشر في أوربا.
ويربطها بمجموعة من الثورات:
- ثورة اقتصادية
- ثورة ثقافية تمثلت في إحياء التراث اليوناني القديم وبخاصة في مجالي الفلسفة والقانون.
- ثورة علمية أو منهجية قوامها الملاحظة والتجربة والاستنباط والتكميم
- ثورة دينية قوامها الإصلاح الديني نزع عن الكنيسة دورها المنفرد في تأويل معنى المقدس
- ثورة فكرية في مجال الإنسانيات والفلسفة قوامها تمجيد العقل والدعوة إلى استخدامه الأقصى
وهي ثورات متلاحقة ومتداخلة وهي تشكل أساس كل التحولات التي عرفتها أوربا والتي يطلق عليها لفظ الحداثة هذه. الثورات امتدت تدريجيا في عموم أوربا والغرب تم امتدت إلى العالم كله بالتدرج عبر وسائل ووسائط مختلفة من بينها الرحلات الاستكشافية والتبشيرية والاستعمار إلى غير ذلك من الوسائط.
ينظر العروي للحداثة كفترة تاريخية وكمجموعة وقائع وأحداث ومؤسسات في الدرجة الأولى، ثم كأفكار وقيم ومثل ملحا مع ذلك على المحددات الفكرية والثقافية إلى درجة اعتبارها محددا شرطيا لإمكان استنبات الحداثة فيما بعد في أية رقعة من العالم.
يبلور العروي تصورا عن الحداثة باعتبارها فترة تاريخية تتسم بالجدة والانفصال والقطيعة مع العصور الوسطى وبخاصة على مستوى الفكر.
ففكر الحداثة هو فكر الحرية، والإعمال الأقصى للعقل بمعناه النقدي، والارتباط بالطبيعة بهدف كشف قوانينها وأسرارها، وإعطاء مكانة متميزة للفرد ككائن مستقل نسبيا عن الجماعة مع ما يترتب عن ذلك من حقوق ومن حريات للفرد في إطار الدولة الحديثة كنظام عقلاني لتدبير الشأن العام استنادا على المشروعية الأرضية والتمثيلية.
وخلال تفصيله للمقومات الفكرية للحداثة يربطها بالعقلانية والليبرالية (التي يرى أنها تشكل جوهر الحداثة من حيث أنها تعبير عن منطق العصر) والنفعية والبراغماتية، كما يربطها بأقنوم الأقانيم أي التاريخانية.
يوجز العروي هذه السمات الفكرية التي تجعلها بنية تاريخية وفكرية مختلفة نوعيا وجذريا عن التقليد حيث يقول أنها “تنطلق (الحداثة) من الطبيعة معتمدة على العقل، لصالح الفرد، لتصل إلى السعادة، عن طريق الحرية” (ع. العروي: العرب والفكر التاريخي، الدار البيضاء 1998 ص108)
فالطبيعة والعقل والفرد والحرية هي عناصر هذا الأنموذج المثالي الذي يمثل الحداثة.
II سمات الحداثة ودينامياتها
يتحدث العروي عن الحداثة من حيث هي مجموعة سيرورات:
أمام القوة الكاسحة للحداثة ليس لنا إلا خياران: إما أن ندفن رؤوسنا في الرمال وتنزوي حتى تمر الموجة فوق رؤوسنا، وفي هذه الحالة نصبح أقرب ما نكون إلى حثالة التاريخ، وإما أن نعوم معها ونلقي بأنفسنا فيها بكل ما نملك من قوة فنكون من القوم الناجين (الفرقة الناجية) ولو في أية رتبة من الرتب” (عوائق ص23)
العقلنة كتنظيم أو ترتيب حسابي لعلاقة الغايات بالوسائل في التصور الفيبري يعني التأطير والضبط العقلاني لسلوك الفرد وتنظيم المؤسسات والمهن والقطاعات الاجتماعية والإنتاجية والتدبيرية من طرف الدولة.
وهنا تتعين الإشارة إلى أن العروي يكل للدولة دور الضبط العقلاني لكل المؤسسات والممارسات الاجتماعية ومن ثمة فهو يسند لها دورا أساسيا في عملية تحديث المجتمع وعقلنة نشاطاته المختلفة.
هذا هو المستوى الأول للعقلنة في تنظيرات العروي إلا أن المفكر يتحدث عن معنى آخر أو عن مستوى آخر من العقلنة عندما يتعلق الأمر بمجال الثقافة والفكر حيث يتجاوز المفهوم الأداتي أو الوظيفي أو الحسابي لفيبر للحديث عن مستوى آخر للعقلنة هو أقرب ما يكون إلى العقلانية بمعناها الفلسفي.
فإذا كانت العقلنة في منظورها الفيبري تعني التنظيم الحسابي والترتيب والتدبير والتقني والشرعنة وتنظيم العلاقات الاجتماعية (العروي: مفهوم الدولة ص168) فإن العقلنة في مجال الثقافة والفكر تعني الانتقال من منطق الفكر إلى منطق الفعل، ومن عقل النص إلى عقل الحس، ومن منطق الاسم إلى منطق الفعل، أو من عقل المطلق إلى عقل الوقائع.
هنا بالتأكيد يوسع العروي مفهوم العقلنة ويقاربه من مفهوم أو مدلول العقلانية مما يفتح الباب أمام تحليل مفهوم العقل في الثقافة العربية الإسلامية الكلاسيكية ومظاهر قصوره وضرورة نقد “العقل” التقليدي من حيث هيمنة الأورثودوكسية والتأويل السني عليه كما قام بذلك في كتاب “السنة والإصلاح” الذي هو مساهمة العروي في تحليل ونقد العقل العربي الإسلامي.
يوسع العروي تحليله لمعالم الحداثة والتحديث من خلال إيراد سمات جزئية وتفصيلية يسميها مؤشرات التحديث ففي محاضرة ألقاها في مدريد سنة 2007 تحت عنوان: “تحديث المغرب: الكلمة والشيء” يورد العروي عدة مؤشرات أخرى للتحديث مثل:
- التحكم في وتيرة النمو السكاني
- تطوير وتنويع الاقتصاد
- التزايد المستمر للاستهلاك
- توسع دائرة الحقوق… إلخ
وبإمكان الراصد أن يتلقط العديد من المؤشرات التفصيلية الأخرى الواردة في بعض التعليقات أو الاستجوابات لتوسيع دائرة المؤشرات العملية أو الميدانية الشاهدة على الحداثة.
III عوائق التحديث
يتحدث العروي عن الحداثة بما يشبه كونها قدرا تاريخيا لا راد له، ويصورها كموجة عارمة وكقوة لا مجال للإفلات من تأثيرها ولو بمحاولة رفضها أو الاحتماء منها، لكنه مع ذلك يفكر في المقاومات والتحايلات الإرادية وغير الإرادية وفيما يسميه بالعوائق التي تواجه هذه الموجة الكاسحة.
أكبر عوائق التحديث في نظر د. العروي هو الاختيار التقليدي الواعي بذاته وبأهدافه، أي ذاك الذي ينكر الحداثة ويستنكرها ويدينها ويعتبرها نشازا ومروقا وجهالة يتوجب على روادها – الذين هم في نظر هذا الاتجاه ضحاياها- إعلان التوبة عنها والعودة إلى الجادة أو السراط المستقيم.
هذا العائق في نظر العروي هو أقوى واعتى العوائق لأنه متولد عن إعادة إنتاج الثقافة التقليدية لذاتها باستمرار وبشكل متواصل بعيدا عن أية مراجعة أو نقد ذاتي وبعيدا عن أي مجهود لاستيعاب مضمون، وهو يكل أمر هذا الاتجاه إلى دينامية وقوة الحداثة ذاتها.
المستوى الثاني من العوائق هو العوائق المرتبطة بالثقافة السياسية التقليدية القائمة على الولاء وطاعة أولي الأمر باعتبارهم ظل الله في الأرض والمؤسسات المجسدة لهذه التصورات، الصنف الثالث هو العوائق الاجتماعية المؤسسية التقليدية التي تكبل الفرد وتحول بينه وبين التحرر من أسر البنيات التقليدية كالعشيرة والقبيلة والأسرة التقليدية والشرف…
- هناك كذلك عوائق فكرية أو ابستمولوجية أو منهجية تتمثل في رفض منطق العلم ومنطق البحث العلمي ومناهجه القائمة على الملاحظة والتجربة والاستقراء والتكميم وتقديم الفرضيات والاختبار… وذلك مقابل اللجوء إلى الحلول أو التأويلات الغيبية في كافة مجالات الحياة الاجتماعية.
وهذه العوائق التي تترصدنا إما على شكل مؤسسة أو عادة أو رأي شائع أو نكتة أو حكمة، أو مثل وفي كل مجالات الحياة الاجتماعية: في الاقتصاد، في السياسة، في الإدارة، في العقيدة، في الجماعة، في المهنة أو الحرفة أو الوظيفة، في الحزب، في المدرسة، في المكتب، في المتجر، في القانون، في العادات السلوكية، في المصطلحات والكلمات المتداولة والأفكار الشائعة لتؤطر تأطير كليا تصوراتنا وتصرفاتنا.
يود العروي من خلال ذلك أن يشير إلى أن الانخراط تاريخيا في الحداثة لا يعني الاندراج الأوتوماتيكي الكامل فيها بل إن المرء معرض لصراع قويّ اليوم بين قوى التقليد وقوى الحداثة مركزا في تحليله على الدور القوي للبعد الثقافي في هذا الصراع.
IV الحداثة وما بعد الحداثة
يوجه العروي انتقادا لاذعا للمثقفين العرب والمغاربة الذين يتهافتون تهافتا على “ما بعد الحداثة” “دون كبير تمحيص” وذلك بسبب عدم الوعي بخصوصية وسمات الشرط التاريخي.
يعتبر العروي أن ما بعد الحداثة هي “ردة فعل ضد الحداثة” (لاحظ استعماله للفظ رِدَّة بدل رد فعل) لأنها تقوم على تصورات مناقضة لتصورات الحداثة.
- فالحداثة تعتبر التاريخ سيرورة موضوعية وصيرورة وحتمية في حين أن ما بعد الحداثة تعتبر التاريخ وهما.
- والحداثة تعتبر المجتمع نظاما معقلنا في حين تعتبر ما بعد الحداثة المجتمع قهرا أو نظاما قمعيا مدافعة عن تصور فوضوي للمجتمع.
- والحداثة تعتبر الدولة نظاما يقوم على المشروعية الديمقراطية التمثيلية وعلى احتكار العنف بغاية تنظيم وتدبير الشأن العمومي في حين تعتبر ما بعد الحداثة الدولة قمعا.
وبذلك تبدو ما بعد الحداثة وكأنها “هدم” للحداثة لأن هاته في نظر رواد ما بعد الحداثة هي السيطرة المتطرفة للعقل والعقلانية الأداتية، وهي أساس الأنظمة الشمولية.
وإذا كان للمثقفين في الغرب العذر في انتقاد الحداثة والدعوة والتنظير لما بعد الحداثة لأنهم عاشوها واستفادوا منها لمدة ثلاثة قرون وفي إطارها حققت بلدانهم الكثير من التقدم فلا عذر للمثقف العربي أو المغربي في رفض الحداثة لأننا في بداية الانخراط فيها ولأننا نحن المستفيدون منها بالدرجة الأولى ولسنا ضحاياها، ولأننا عندما نلتفت حوالينا فإننا نجد أن ما يحيط بنا هو ما قبل الحداثة.
فالحداثة هي الثورة الصناعية، وهي سيادة العلم والمنطق العلمي في طريقة التفكير، وهي الأداء الديمقراطي في مجال السياسة وتدبير الشأن العام.
والخلاصة التي ينتهي إليها العروي بحسم هي أن المناداة بما بعد الحداثة هو في نظرة رَدَّة أو رِدة عن الحداثة و”هدم” لمنجزاتها ومكاسبها. (العروي: تأصيل علوم الاجتماع: المقارنة والتأويل، مجلة مقدمات، الدار البيضاء ص6)
وهنا أيضا يتجلى العروي الذي نعرفه منذ “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” رائدا ومنافحا حداثيا صلبا لا يلين كما أعلن ذلك فيما استسمح د. العروي بتسميته مانيفيست الحداثة والذي يقول فيه:
”نودع المصطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، وأن كل تقدم إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي، وأن العلم تأويل لأقوال العارفين، وأن العمل الإنساني يعيد ما كان ولا يبدع ما لم يكن [...]
صيرورة الواقع الاجتماعي، نسبية الحقيقة المجردة، إبداع التاريخ، جدلية السياسة تلك هي معالم الفكر العصري وقوام المجتمع العصري” (العروي: الايديولوجيا العربية المعاصرة، مقدمة الطبعة العربية ص16 بيروت 1979)
يعرض العروي نظريته حول الحداثة من خلال ضوابط فكرية يظل ملتزما بها. فهو بحكم التزامه واعتزازه بكونه مؤرخا أو مؤرخا/مفكرا أو مفكرا/مؤرخا يظل متمسكا بالحدود والمصطلحات والمفاهيم التاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، ويحرص على عدم الخوض في نقاشات فلسفية هي أقرب ما تكون إلى مشاغل الفيلسوف المحترف، فهو يتحدث مثلا عن الفرد والفردانية كمقوم أو مكون أساسي من مكونات الحداثة لكنه يتجنب الخوض في النقاش الفلسفي الذي يتحدث فيه الفلاسفة عن نفس الموضوع لكن بمصطلحات وبرؤى أخرى أي بمصطلح الذات le sujet والذاتية من حيث هي أساس ومرتكز subjectum في الفكر الحديث، وعن العلاقة ذات/موضوع (sujet/objet) من حيث أن هذه العلاقة هي الأساس الإبستمولوجي والفلسفي للفكر الحديث، وكذا عن الذات كإرادة سيطرة تكرس إرادة قدرة لدى الإنسان للهيمنة على الموضوع الطبيعي والإنساني لتسخيره، وكذا عن الأساس الميتافيزيقي للعصور الحديثة والمتمثل في تصور معين للذاتية الإنسانية كعقل وإرادة، وفي تصور معين لمعنى الكينونة في علاقتها بالكائن، أو بتصور معين للحقيقة كيقين للذات إلى غير ذلك من القضايا التي يبدو أنها أقرب ما تكون إلى النقاش الفلسفي الخالص.
ونفس الأمر بالنسبة لما بعد الحداثة فهو لا يوجه نظره لخلفياتها الفلسفية من حيث أنها نقد للحداثة باعتبارها عبادة للعقلانية، ونقدا لها وباعتبار الانحياز إلى الأنوار والحداثة والعقل إلى تقليد قار وبالتالي محافظ، ومن حيث اعتبارها للحداثة ميتافيزيقا جديدة تصور الحداثة كعقلانية ظافرة وكتحرر جذري وكذاتية إنسانية شفافة في مجتمع طافح بوعود العقلانية والحرية والحقيقة، وكذا إضفاؤها لصبغة المطلقية والنهائية على ذاتها من حيث أنها قطيعة جذرية حاسمة ونهائية مع الماضي والتراث والتقليد في حين أنها هي ذاتها مروية كبرى لها أوهامها وأساطيرها الخاصة بها، وكذا اعتبارها لذاتها عصر الجدة المطلقة والاختلاف الجذري مع الماضي وأنها ليست مجرد حقبة من حقب التاريخ بل هي جوهر التاريخ ونتيجته النهائية.
قد يرد الأستاذ العروي بأن مثل هذه القضايا وغيرها تدخل في باب النقاش الفلسفي الاحترافي الذي تظل همومه هموما فكرية في حين أنه يعرض ويحلل مسألة الحداثة من خلال الواقع التاريخي العيني والحاجة التاريخية ومن منظور الحتمية التاريخية.
وختاما نحن أمام نظرية حداثوية للحداثة نظرية متكاملة ومتعددة الجوانب وتعبر بصرامة عن إرادة المفكر، ومن ثمة عن إرادة النخب العصرية العربية والمغربية في الخروج من إسار التقليد والتقليدانية والمجتمع التقليدي والفكر التقليدي إلى ثقافة الحداثة التي هي ثقافة العصر والشرط المؤطر للعصر.
———————
مراجع:
* مؤلفات العروي الفكرية بالعربية والفرنسية
- الدراسات الجادة حول فكر العروي
- د. محمد الشيخ: الحداثة في الفكر المغربي، الرباط دار الزمن 2005.
- د. محمد الشيخ: رهانات الحداثة، دار الهادي بيروت 2007.
- د. محمد الشيخ: جاذبية الحداثة ومقاومة التقليد، دار الهادي بيروت 2005.
* مقالات محمد أندلسي:
- نيتشه ونقد الحداثة (الشبكة)
- أقول المتعالي (الشبكة)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.