أحسبُ أنّه من الضروري الإقرار بأن مجتمع الصّحافيين في السودان، لا سيما رُؤساء تحرير الصّحف السودانية، الذين ولجتُ عالمهم مؤخراً، تجد أنّ بين بعضهم خلافات جمة، وخُلفاً محتدماً، واختلافات شتى، تحسبها في الوهلة الأولى أنّها ناجمة عن غيرة مهنية، ولكن بقليل جُهدٍ، وسبر غورٍ، تجد الأسباب والمسببات غير ذلك، فتُصاب بالحيرةِ والدّهشة، وتترحم وسط هذه الحيرة على مقولات يرددونها في مقالاتهم وأعمدتهم اليومية والأسبوعية، إذ أنها تذهب بأفعالهم وأقوالهم وأقلامهم أدراج الرياح، منها المقولة الشهيرة "اختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضية". وفي الحقيقة هذا الاختلاف من مُفسدات الودِّ وعلائق الصّداقات. والمفروضُ أن نصحح هذه المقولة ب"اختلاف الرأي يجب ألا يفسد للود قضية"، لتكون هذه المقولة صحيحة معنىً ومغزىً. واستوقفني منذ عودتي من بريطانيا إلى السودان، ولوج عالم الصّحافة والصحافيين، خاصّة عالم رؤساء التّحرير، أن أجد بين بعض الرسلاء خلافاً يصل إلى الفجور في الخصومة والتّباغض، ويكون أقرب وصف لذلك المقولة الشهيرة "أن بينهم ما صنع الحداد"، بسبب الخُلف والاختلاف. وغياب إعمار ما بينهم من ودٍّ وصداقةٍ، وكأني بهم لم يسمعوا ما قاله الشاعر العربي أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التّغلبي الوائلي: فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ فَيا لَيتَ شُربي مِن وِدادِكَ صافِياً وَشُربِيَ مِن ماءِ الفُراتِ سَرابُ كان من الضّروري عليَّ أن أبسطَ هذه التقدمة، كمدخلٍ لهذه العجالة، على هدي عبد الرحمن بن خلدون، في مقدمته الشهيرة، لا سيما وأنني اصطرعت بين سماع نصيحة أحدهم الذي نصحني بالبعد عن الصّحافيين؛ لأن البعد عنهم مغنمٌ - ما استطعت إلى ذلك سبيلاً - وبين أن أقدم نصيحة لرسلائي لتنقية الأجواء، وتعميم المحبة والصداقة، تصديقاً لقول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ"، قِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "للَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ". وفي رأيي الخاص، من الضّروري أن نغتنم سانحة الاحتفال مساء اليوم (الاثنين) ب"اليوم التالي" في يوم مولدها الثاني، بفندق كورنيثيا في الخرطوم، بتقديم خالص التّهاني، وعظيم التّبريكات للأخ الصّديق مزمل أبو القاسم، رئيس تحريرها، ولأسرة الصّحيفة كافة، متمنين لهم دوام التّوفيق والسداد والنّجاح، ونجعل من هذه المناسبة الطبية مدخلاً مهماً لإرساء فهم جديد للزمالة المهنية، والعلائق الإنسانية بين رسلاء المهنة الرّسالية، ليفرغ الجميع في أداء مهمةٍ عظيمة ٍلتنوير الرأي العام، وإنارته تجاه قضايا الوطن والمواطن، وذلك من خلال تقديم خدمة صحافية تُعنى بهموم القارئ الكريم واهتمامه، بعيداً عن الملاسنات والمشاكسات والخصومات، لأن هدف هذه المهنة سامٍ، فلا نضيعه بخُلفٍ لا طائل منه ولا جدوى. أخلصُ إلى أنني بهذه التحية ل"اليوم التالي" في يوم مولدها الثاني، أرغبُ في إرساء قواعد جديدة للودٍّ والإخاء والصفاء بين الرُّسلاء. وأكبر الظن عندي، أنه في الميسور مجادلة الرّافضين بالحُسنى، لمثل هذه الاحتفالات، بحجة أنّها من البدع "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، وأنا أذهبُ إلى أنها ابتداعٌ، وليس بدعة. فالله تعالى جعل من أسمائه العلا وصفاته الحسنى "البديع"، فلذلك هي ابتداعٌ وليس بدعة، وأذهب إلى أن الإسلام لم يجبّ كل عادات الجاهلية، ولكنّه جبَّ كلَّ عبادات الجاهلية، التي فيها مفاسد للعقائد. فالإسلام وافق وأقرَّ بعضَ عاداتٍ في الجاهلية، منها تحريم الخمر، إذ أن أول مَنْ حرَّم الخمر في الجاهلية، هو الوليد بن المغيرة، وقيس بن عاصم، وعبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك تحريم القُمار، فإن أول مَنْ حرمه، هو الأقرع بن حابس. وأقرّ حكم "الولد للفراش" الذي أول من حكم به أكثم بن صيفي، حكيم العرب.. الخ. فلذلك إذا كانت الاحتفالات والمناسبات غير مخالفة للشرع، فيجور الاشتراك فيها. ولنستذكر في هذا الخصوص قول الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". وقول أبي الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبئ: عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ بمَا مَضَى أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ أمّا الأحِبّةُ فالبَيْداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بِيداً دونَهَا بِيدُ