غيب الموت، بالأمس، الصديق العزيز عثمان حميدة.. أحد أكثر أبناء جيله تأثيراً ونفوذاً ومبادرة. عثمان حُميدة المولود في 1960، عاش سنوات عمره الأخيرة متنقلاً بين لندن (مقر إقامته الدائم) وإفريقيا حيث ينشط عثمان في مجال حقوق الإنسان منذ تسعينيات القرن الماضي؛ وكان عثمان قد إنقطع عن زيارة السودان بعد إطلاق سراحه إثر إعتقاله بالخرطوم في نوفمبر 2008، وهو ومجموعة من رفاقه في العمل المدني من بينهم منعم الجاك وأمير محمد سليمان. عثمان حميد صاحب مبادرات واسعة الأثر المجتمع المدني السوداني ويمكن أن يُعد أباً روحياً لتيار قوي داخل هذا المجتمع، فعلى يده نشأت ونمت مجموعة من المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب في السودان وإفريقيا. للذين عاشوا بدايات الألفينيات ومنتصف عقدها الأول، أن يذكروا الضغط القوي والعمل المنهجي المحترف الذي كانت تقوم به المنظمة السودانية لمناهضة التعذيب ومركزي الخرطوم لحقوق الإنسان والأمل لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، كان عثمان حميدة المدير التنفيذي للمنظمة السودانية لمناهضة التعذيب تلك ومهندس عمليات مركز الخرطوم والأمل، كانت قدراته على التخطيط عالية ومهاراته القتالية شديدة الكفاءة، إكتسبها من إطلاعه الواسع وقراءاته المُعمقة والمتنوعة إلى جانب نموه وعمله داخل أحدى أهم المدارس التنظيمية وقتها، الحزب الشيوعي السوداني حيث عمل عثمان في قطاعات مختلفة من قطاعات الحزب وهيئاته. أكبر قدرات عثمان ظهرت في الربط والتشبيك وبناء الجبهات والتحالفات في العمل الحقوقي، بين الأفراد والمنظمات، والحق أن عثمان حميدة يعتبر نواة لمجتمع كبير من الأصدقاء والمعارف وزملاء العمل والمؤسسات قام رباطها على أكتافه، وكان هو عروتها. بعد مغادرته للحزب الشيوعي السوداني لم ينضم عثمان إلى تنظيم سياسي آخر، وإن حافظ وبنى علاقات قوية مع نسيج متنوع من قادة العمل السياسي تميزت بالندية والوضوح. بعد الضربة المخططة القاصمة التي تعرضت لها المنظمة السودانية لمناهضة التعذيب أسس عثمان حميدة المركز الإفريقي للعدالة ودراسات السلام، وهو هيئة تعمل على الرصد والمراقبة وتعليم حقوق الإنسان وتصدر مجموعة من الإصدارات من بينها التقرير الدوري لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان. عثمان شخصية قوية، قادر على العمل في أصعب الظروف، ووسط أجواء عدائية قاسية، بم يوقفه الإعتقال والتعذيب الشديد في أوائل التسعينيات عن مواصلة الأمل، ولم تكسر الهجر شوكته، ولم يفت تخليه عن الحزب الشيوعي والزملاء في عضده، وما هزمته حملات التجريح المتواصلة، ولا إستكان بإنهيار منظمة مناهضة التعذيب السودانية، إنما كان يقف بعد كل مرحلة أصلب عوداً شديد البأس، ويخرج من كل المعارك مبتسماً إبتسامته الطفولية تلك! على المستوى الإنساني فعثمان رجل حنون، له في العطف والفضل مقامات؛ وهو إنسان صاحب مروءة ونجدة، مد للكثيرين يد العون وساعد بأشكال مختلفة أن تستمر حياتهم بشكل كريم. إجتمع حول عثمان عدد كبير من الأصدقاء والصديقات، عدد مهول من العلاقات الإنسانية إنبنت حول عثمان وبسببه، كان نساجاً ماهراً وفي قلبه محبه ورغبة دائمة في الإجتماع والإلتقاء بالناس، كان حفياً بإبنه "نايل" ومحباً لزوجته ورفيقته عزة صلاح مالك.. كان يتنفس هاءاً مشبعاً بحبة الناس. الآن، مات عثمان حميدة، بعد أن توقف قلبه اللطيف، الطيب ذاك عن الخفقان. نوبة قلبية حادة حادة أصابته وهو في نيروبي، إنفجر شريان كبير في قلبه.. في جنوب إفريقيا، حاول الأطباء ترميم القلب النازف.. قلب عثمان.. لكنه غافلهم وغافل الحياة كلها ومات. [email protected]