بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    عام على الحرب فى السودان.. لا غالب ولا مغلوب    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    الخطوة التالية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلى غابرييل غارسيا ماركيز في عليائه .. بقلم: آرثر غابرييل ياك
نشر في سودانيل يوم 25 - 04 - 2014


غابو يرقص التانغو في سوق كنجوكنجو
هذه ليست قصة نسجتها العناكب الموجودة، فقط، في مخيّلة الكاتب، تلك العناكب المسئولة عن حياكة خزعبلاتٍ نسميها بالإبداعية، لكنها — والحق لا بد أن يقال— قصة واقعية، واقعية جداً لا علاقة لها بالواقعية السحرية إلى درجة يصعب معها فك خيوط الحقيقة المتشابكة مع تفاصيل الخيال المنغمسة فيها! قصة حدثت للكاتب فأصيب بحيّرة كادت أن تفقده تماسكه و أوشكت أن "تلخبط" سلوك عقله في غفلةٍ منه أو بالأحرى، في غفلة مني!
نعم أن أرى أنا، شخصياً، الكاتب الكولومبي، غابرييل غارسيا ماركيز، قبل وفاته بأيامٍ، يمشي، مُسرعاً الخطى، بطوله القصير وحجمه الذي دنا من الترهل إلا قليلاً، وبشاربه الأبيض المفتول، وممسكاً، بتعجرف، بيده اليسرى سيكاراً كوبياً ضخما لا يُستبعد أن يكون مغشوشاً؛ أو قد يكون مُهرباً على متن أحدى الشاحنات القادمة من تلك المدينة التي تعشق نسائم المحيط الهادي الملفحة لوجوه القراصنة. نعم أن أراه في رابعة النهار، بعد أن تأكدت بأنني لا أعاني من هلاوس مرض التيفويد الذي يوّزع مجاناً في الأطعمة الملوّثة، فهذا أمر لا يُحتمل أبداً ولا يُصدق البتةّ! أنها صدمة شبيهة بارتطام رأس على الإسفلت بعد ان يكون قد دهسته دراجة بخارية تطير بسرعة 150 ميل في الساعة.. أو ربما، كظهور شخص عزيزُ لك مات قبل سنين بعد أن تكون أنت نفسك ضمن الذين واروه الثرى، فجأةً أمامك، بعد أن تكون أنت قد غسلت يديك في الماسورة التي تتسول حولها الذباب والشحاذين ورزازات المياه المتناثرة، لتجده جالساً في الكرسي المقابل لك، وقد بدأ هو يأكل من الوجبة التي طلبتها لتوك! هكذا ألفته يأكل بنهم من لم يأكل لمدة سنين، فتقدح زناد فكرك بسؤالاً غير منطقياً: هل يأكل الموتى أيضاً؟ او ربما أغمي عليك!
"غابو. غابو!"
ناديته، كما ينادي أهل كولومبيا غابرييل غارسيا ماركيز، بصوتٍ عالٍ شبيه بصافرة قطارٍ يدخل ماكوندو لأول مرة؛ صوت أزعج القصاب الذي كان يقطع اللحم بمديته الحادة فحدجني كأني أخرجت خاصتي وأخذت أتبول على مرأى من المتبضعين في السوق. توقف "غابو"، التفت إلي فترقرقت عينيه بالدموع، فأطفأ تلك السيكارة الكوبية الضخمة وأشعل سيجارة وأخذ يشفط دخانها بينما يده ترتعش وشفتيه تنقبضان وتنفرجان، وما لبث أن ركض نحوي بأقصى سرعة.. سرعة جعلت شرطي المرور الواقف عند منتصف الشارع القادم من قسم الملكية والمؤدي إلى شارع طمبرة، يفغر فاه بلاهةً، فأسقط الصفارة التي ظلت مُعلّقة بين شفتيه، وما كان من سائقي البصات الصغيرة إلا إهتبال سانحة ولوج ذلك الشرطي المروري في عالم ذهوله الغريب، فأخذوا يسوقون بسرعةٍ جنونية كأنما أشباحٍ تطاردهم!
كان الجميع يفسحون له الطريق وهو يركض نحوي بسرعةٍ إلى أن التصق بي وحضنني طويلاً . بين الحين والآخر، كان ينظر إلى وجهي ويتفحصني بيديه المعروقتين المرتعشتين وعينيه تسكبان الدمع بدون توقف. "أوه كولونيل أورليانو بوينديا. كم افتقدتك يا أورليانو!" قال ذلك بلغةٍ اسبانيةٍ لا تخلو من لكنة فرنسيي مدينة مارسيليا. أردت أن أقول له أنا لست الكولونيل أورليانو بوينديا الذي إخترعته في (مائة عامٍ من العزلة)، لكنه قاطعني قائلاً: "أين أنت يا كولونيل أورليانو بوينديا؟ لقد أوشكت على الإنتهاء من الجزء الثاني ل (مائة عام من العزلة)، لكنك اختفيت فجأة!" أطلقت نصف ضحكة، ثم تصنعت الجدية حتى لا أنرفزه بعد أن لمحت سحابة غضبٍ أخذت تتجمع حول حدقات عينيه. علمت أن ذلك الغضب المتكدس حول عينيه لم يكن إلا عطفاً نحوي حين أخذ يبكي فجأةً، قائلاً: "ما كان قصدي وضعك أمام كتيبة الإعدام. لكن الحبكة الروائية أرغمتني على ذلك يا أورليانو!"
ضَحِكْتَ، وضَحِكَتْ الجمهرة التي التفت حولنا وهم ينظرون إلينا كأننا كائنات مثيرة للذهول خرجت من باطن الأرض في غفلةٍ من الناس.. حاولت أن أقنع غابو بأنني لست الكولونيل أورليانو بوينديا بل وحتى لم أرى ماكوندو، تلك القرية المعلقة في مخيّلته وأصبحت واقعية في صفحات "مائة عام من العزلة" بل وحاولت أن أقول له بأنني لم أعبر المحيط الأطلنطي ناهيك عن الذهاب إلى كولومبيا! قاطعني غابو قائلاً: "أعرف كل ذلك!" ثم أستطرد قائلاً بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيجارته التي أوشكت على الانطفاء: أعرف أنك لست كولومبياً، لكنك الكولونيل أوريليانو بوينديا، نعم أوريليانو بوينديا تلك الشخصية التي اخترعتها وهربت من أسر مخيّلتي لتأتي وتستقر في ذلك الحي المُندس في جُعبة سوق كنجوكنجو بمدينة جوبا التي ترضع من ثدي بحر الجبل منذ ذلك الزمن البعيد الذي زار فيها ملكياديس ماكوندو. نعم أخيراً قابلتك يا أوريليانو. أسأل زوجتي مرثيدس كيف بكيت في تلك الليلة التي قتلتك فيها روائياً! نعم لقد عشتك شهور وأنت لم تغادرني إلا في تلك الأمسية الكولومبية بشمسها الخُلاسية المتسربلة بسموم البحر الكاريبي الحارقة.. في تلك الهنيهة كان زعيم كارتل المُخدرات قد أتصل بي وطرح لي فكرة أن أكون رئيساً لكولومبيا. تخيّل يا أورليانو! تخيّل، غابو رئيساً لدولة كولومبيا! شئ مُضحك ومُثير للتقيؤ أن أصبح دكتاتوراً وربما انتهى بي الأمر إلى الجنائية الدولية أو منفياً ومتسكعاً في دولةٍ ما وحينها سأصبح "الكولونيل الذي لم يكاتبه أحد".
أخذت أحملق في المارة والمتطفلين الذين أخذوا يتهافتون وينصتون إلى حديث "غابو" معي. أومأ لي أحدهم برأسه وغمز بعينه في إشارة بأن من يحدثني ليس إلا معتوه. أشعل غابرييل غارسيا ماركيز سيجارة بعُقب أخرى وكح كحةً أرغمته على إخراج بلغماً نيكوتياً ممزوج بشميم الجعة الهولندية وأخذ يحدثني بلغةٍ أجهلها تماماً لكني لا أعرف كيف فهمتها رغم السرعة التي كان يتحدث بها وغموض كلماتها! قال لي: لماذا الناس هنا في بوغوتا أصبحوا لا يهتمون بالأدب؟ لم أرد له. لا بد أن أعراض الزهايمر قد سيطرت على ذاكرته وطريقة تفكيره وخلطه للمدن؟ وإلا، فكيف يصبح مدينة جوبا، بوغوتا الكولومبية أو حتى أراكاتاكا مسقط رأسه؟ ظننت أول الأمر بأننا في العاصمة الكولومبية، بوغوتا. نظرت حولي باستغراب فعرفت بأننا في سوق كنجو كنجو حين رأيت اليوغنديات بائعات الفواكه وسائقي الدراجات النارية مترابطون عند حافة السوق بجوار الجزارة. أخذت أقلب النظر في عينيه الزرقاوين وشعر حواجبه الكثيف كثافة دغل على حافة قريةٍ افريقية لأتأكد من أن الذي يقف الآن، وسط السوق ليس إلا الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، وليس ذاك الكولونيل الذي لا يكاتبه أحد! أو ربما يكون مجرد متسوّل كولومبي تقطعت به سبل العيش في تضاريس احدى الدول الاستوائية فانتهى به الحال فقيراً متقمصاً شخصية الكاتب الكولومبي، أو ربما أجرى عملية تجميل مشوّهاً وجهه الوسيم ليشبه "غابو" أو قد يكون قد حشا عقله بذاكرة ماركيز الذي فقد ذاكرته في أخريات عمره! لكني أبعدت ذلك الافتراض عن خيالي عندما الفت كرشه المنتفخة شبيهة بكرش "أجمل غريق في العالم". وبينما كنت أعصف ذهني في محاولة مني لتذكر أين رأيت هذا الاسباني للوهلة الأولي قبل خمسة وعشرين عاما في شارع دولة متوسطية قد تكون شارع "الشانزليزيه" في القاهرة أو ربما لمحته على حين غرة تحت برج "ايفل" وزوجته تأخذ له صورة تذكارية بطريقة كأنها تسرق تلك اللقطة سرقة! وأنا اقلب الأفكار في رأسي، رأيت غابو يدخل يده في كيس كان معلق على كتفه اليسرى، ويخرج رواية ثم أخذ يقرأ الباب الثالث فعرفت أنها مقتطفات من رواية " الحب في زمن الكوليرا".. أطلق احدهم، كان يمشي بالقرب منا ووقف فجأةً، ضحكة ساخرة تقضب لها جبين "غابو" كأنه تلقى صفعة على وجهه..
غصت مرة أخرى في دهاليز ذاكرة منبعجة كادت أن تنمحي بفعل تهالك السقوف المثبتة للزمن فتهت وتاهت أفكاري وكدت أنسى غابو لولا أن الشرطي قد تدخل، فجأة، في الوقت الذي شرع "غابو" في لكم ذلك الرجل الذي أطلق ضحكة ساخرة في وجهه المحتقن بدم الغضب. فصرخ "غابو" محتجاً لأنه لم يتمكن من التعبير عن غضبه بالأسلوب البدني كطريقة مثلى في تلقين أمثاله من رعاع الناس الذين لا يكنون احتراماً لقامة أدبية مثله، كما قال غابرييل غارسيا ماركيز عن نفسه.
- ارفعوا هذا الوقح في العربية!
صاح أحدهم عالياً وهو يشير بماسورة سلاحه في وجه "غابو" الذي اخذ يتوسل والدموع تجري على خديه ليس لأمرٍ بل لأنه لم يتمكن من تلقين ذلك المهزار درساً قاسياً، كما قال باسبانية ملطخة بلكنة أهل "ماكوندو" قبل أن تبزغ نجم "مائة عام من العزلة" في فضاء الرواية العالمية! لا، لا، يا كومرد! أنا آسف يا زول كبير! هكذا نطق "غابو" بلغةٍ عربية مهشمة خرجت من فيّه الذي بدا كمدخل كهفٍ نسجت فيها العناكب خيوطها الرقيقة.. سألته كيف وأين تعلم العربية؟ قال، بعد أن أخرج عملات البيزو ودسها كمخدر ممنوع في جيب سائق التاتشر الذي رسم على شفتيه المحمرتين ابتسامة شريرة ثم داس على دواسة البنزين فزمت الماكينة وتحركت العجلات الخلفية بسرعةٍ محدثة صريراً وغباراً كثيفاً غطى أنحاء السوق ووجهي وشعر رأس "غابو" الذي تسمر في مكانه كتمثال، وأخذ يتأمل الغبار الكثيف المتصاعد كأنه على وشك أن يكتب قصة واقعسحرية جديدة، ثم كح وأخرج بلغماً اسودا بنياً من قعر رئته اليسرى وتف بقية السيجارة التي تعلقت، بزهوٍ، في ركن فيه الأيسر وأخذ يتمتم بكلماتٍ مجاوباً على سؤالي عن كيفية تعلمه للغة العربية: كان جدي، جد جدي الخامس بستاني في قصر الحمراء و جنة العريف في غرناطة عندما كانت أندلسيا متآلقة ومذدهرة. لا أعلم كيف سمعت ما قاله "غابو" بالاسبانية، لكن يبدو أن الساعات الست التي قضيتها معه داخل تلك الحانة المطلة على شارعٍ ضيقٍ مظلم كأنه يؤدي إلى ماخور يضج بالحراك العاطفي، جعلت الأفكار تتشابك في مخيّلتي.
كانت كئوس شراب ال (Tequila) المشعشع كأنما عُصرت فيه نبات الخششاش، لا تكف عن تقبيل شفاهنا وتخبيل عقولنا كأننا غارقون في بركة نشوة لذيذة حين ضجت الحانة، فجأة، صادحةً بموسيقى لاتينية صاخبة أحمرت لها وجنتا غابرييل غارسيا ماركيز الذي أخذ منه الحماس كل مأخذ وهو يصرخ عالياً: ماكوندو، ماكوندو! ولما لم يعد يقاوم تناغيم تلك الأغنية الساحرة الآتية التي حركت مشاعره وزجت به، على ما يبدو، في نوستالجيا أيام صباه حين كان يعشق الصبايا في مزارع الموز الكولومبية المحجبة للآفاق، هب من مكانه وأخذ يرقص رقصة التانغو بعد أن أخرج، من شنطة كتف قديمة مهترئة، قبعة فيولتياو الكولومبية المكونة من شرائط مصنوعة من النخل المجفف ذي اللون الأسود والمنقوش عليها رسوم شعبية، وأشعل سيكارة كوبية تبدو من رائحتها، أنها من النوع الرخيص الذي يدخنه الفلاحين في ليالي الريف الكوبي الباردة.. بدأ أولاً برقصة الفلامنكو مطقطقاً كعب حذاءه على أرضية الحانة المتآكلة، وما أن وجدها طينية لطخت حذاءه حتى تحول إلى رقصة التانغو الأرجنتيني وهو يحرك يداه كأنه يمسك بأنثى تتلوى بين يديه اللتين تتحركان بخفة ورشاقة، إلى أن أعلن الكون عن مولد يوم جديد بنشر خيوط الفجر في الأفق الشرقي الضاحك، وما أن أخذت صاحبة الحانة التي كانت تسب وتلعن بعربي جوبا مخللة بلكنة أثيوبية في إخطارنا بأنها على وشك النوم، حتى ارتمى غابو على الأرض وأخذ يشخر كثور ماتادور مطعون في حلقه، وراح في سباتٍ صيفي عميق، لم يستيقظ منه إلا عند السادسة صباحاً، حين أخذ النشاط يدب في روح سوق كنجو كنجو، وأطلق سائقي سيارات الأجرة العنان لماكينات سياراتهم التي أخذت تكركر كمرضى الدرن، وشرعن النسوة في افتراش ثمار المانجو والباباي والموز اليوغندي حلو المذاق على الطاولات الخشبية القديمة.
"غابو، غابو!"
ناديته بصوت عالٍ كأنني أحاول إيقاظ كل سكان مدينة جوبا التي استيقظت على أصوات تناكر المياه القذرة التي تجعل المرء يحرش جلده كأنما قد أصابه الجرب.
ناديت بصوتٍ أعلى من المرة الأولى وأنا أحاول إيقاظه، لأنني، والحقيقة التي لا بد أن تقال حتى لا يظن القارئ بأني أمارس معه بعض من تخاريج مخيلتي التي أبوح بها في قوالب قصصية، كنت أظن أن غابرييل غارسيا ماركيز الممدد والمنتفخ هناك على أرضية الحانة قد أخذ يلعب لعبته السحرية التي خدع بها العالم بأن ذاكرته قد أصبحت كسبورة نظيفة خالية من أي حرفٍ؛ تلك الذاكرة التي أبدعت "مائة عام من العزلة"، أو ربما أنه قد أسلم الروح ويدعي بأنه ما زال حياً وذلك بتحريك شاربه الكثيفة الخاضعة لبوخ أنفاسه التي ملأت المكان سخونة ممزوجة برائحة الخمر المكسيكي المعتق، أو ربما أسلاك ذاكرتي قد تشابكت والتمست بأسلاك ذاكرته ففقدنا نحن الاثنين خزانات ذاكرتنا فأصبحت تائهاً في معرفة إن كان الذي يرقد أمامي الآن، على أرضية الحانة في ركنٍ قاتمٍ من أركان سوق كنجو كنجو، هو غابرييل غارسيا ماركيز، أم ذاتي التي ربما تقمصت شخصيته الأسطورية، وأن غابو لم يظهر إلا في مخيلتي أنا؟
لا شك أنه هو نفسه؛ غابو كما يناديه أهل القيتو في بوغوتا و زعماء كارتلات المخدرات المنتشرين في شوارع مادلين والمثقفون في صالونات نيويورك ورواد مسرح البرودواي ومقاهي باريس المطلة على الشوارع المكتظة بشقراوات يدخن السجائر ويتحدثن الفرنسية بغنج أنثوي جامح. حاولت إيقاظه بركله ثلاث مرات فلم يستجيب، أخذ يتنفس هذه المرة بصوتٍ عالٍ ويمضغ اللعاب كأنه يلعك شيئاً، فاقترحت صاحبة الحانة أن أسكب على رأسه ماءً مثلجاً قد يفيقه من غيبوبة السكر التي ولج فيها عندما أخذ الفجر تنشر خيوط ضوئية في سماء السوق، وانفض الزبائن من حول الموائد الصغيرة المليئة بزجاجات فارغة وكئوس تعبق بروائح الخمور المختلفة، وامتنع الاسباني الذي كان يملأ المكان بأغاني ال "سالسا" عن الغناء، ولم يبقى في هذا العالم الذي كان، قبل سويعات، مسرحاً للسكر والغناء والرقص والصخب إلا الهدوء وبعض الذباب المتهافتة وشخير غابرييل غارسيا ماركيز المزعج بعد إنتهاءه من كتابة مخطوطة (الحب في زمن الكوليرا)!
علمت أن الحياة قد دبت في شرايين المدينة وأخذ قلب سوق كنجوكنجو ينبض نبضاتٍ متسارعة الإيقاع كأنه ماراثوني مُجهد، قلت في نفسي لا بد أن أتركه (غابرييل غارسيا ماركيز) وذلك عندما أخفقت في إيقاظه، لعله الآن يحلم برواية أخرى. خرجت من الحانة، متسللاً تاركاً غابو خلفي يشخر ويغط في نومٍ عميق ويمضغ فمه، وما أن وطأت قدماي أسفلت شارع سوق كنجوكنجو المترب حتى شعرت بدوخة جعلتني أرى السيارات والدراجات النارية مقلوبة وتسير بسرعة مُذهلة، فجأة تذكرت بأنني لم أتخلص من السوائل التي تراكمت في كيسي جراء كميات الجعة التي شربتها بالأمس، فوقفت في زقاق ضيقٍ لأريّح عن نفسي، فتذكرت بأنني لم أفتح زمام بنطالي المنزلق لأكمل سعادتي بإفراغ محتويات كيسي، لكن لسوء حظي لم أجد الهدف المقصود والذي من أجله فتحت الزمام المنزلق. صرخة قوية أطلقتها وأخذت أجري سائلاً كل من أراه عن شيئي الذي اختفى فجأةً.. الآن رأيت غابرييل غارسيا ماركيز يركض خلفي بجسده المترهل وهو يشير إلي بأن أتوقف وهو يصيح قائلاً: "حرامي. امسكوا حرامي!" ذُهلت عندما رأيت الناس تطاردني وتحاول الإمساك بي، وعلى الرغم من أني كنت أنبح، كذاك الكلب الضال الذي كان يقتات شظايا عظمٍ معتقداً أنها قطعات لحمٍ، منبهاً الناس بأني لست لصاً وأن ذاك الكولومبي الذي أطلق علي هذه الكلمة المثيرة للضرب والشتم و إطلاق المفردات النابية، ليس إلا صديق قديم قابلته في ثمانينات القرن الماضي عبر خزعبلات واقعيته السحرية، ولم التق به وجهاً لوجه إلا بالأمس، هنا في سوق كنجوكنجو!
حاصرتني جمهرة كبيرة واقتحمت أنفي نتانة المرحاض الكبير، وما أن استسلمت، حتى استمتع جسدي بآلام استقبلتها لكماتٍ وركلاتٍ وصفعاتٍ أمطرتني من كل حدبٍ وصوب.. جاء عدد كبير من الرجال يرتدون أزياء عادية ويخبئون على جنباتهم تحت قمصانهم، كالعادة، آلاتٍ تُنبئ عن خطر محدق ، لكنهم، على غير توقعاتي، أنقذوني من براثن السابلة ومخالب المتشردين حتى أصابع النشالين التي تسللت إلى جيوبي وأنا منهمك في صد اللكمات وجردتني بعض الجُنيهات الممزقة.. حمدته كثيراً لأنه أرسلهم في الوقت المناسب، عاملوني بحسنةٍ ودافعوا عني مجبرين الجمهرة التي أحاطتني، كسوارٍ، على الانفضاض من حولي، ساقوني، كشاةٍ يساق إلى حيث ينتظر عنقها نصل حاد، إلى القسم الذي كانت رائحة البشر فيه لا تقل عن رائحة مرحاض عام لم ينظف لأكثر من عام.. كانت عيونهم تتفحصني وتحاول أن تخترق جيوبي التي أدمنت الفلس شهورُ وسنين! قلت لهم أنني تعرفت عليه أول مرة عندما رأيته على غلاف كتابه الذي عشقته أكثر من تلك الصبية التي طبعت على شفتي أول قبلة كادت أن تفقدني صوابي؛ رعشاتٍ جعلت شيء ينتفخ كرأس ثعبان كوبرا، وقلت لهم أن أسمي آرثر غابرييل ياك وليس الكولونيل أورليانو بونديا. كان الضابط، أو على ما يبدو، يرمقني بنظراتٍ تنبعث منها شك وريبة وعدم ثقة وبلاهة مُفرطة. وكان يبدو وهو يحملق فيّ كأني أتحدث لغة يابانية بطلاقة، ووضع قلمه دون أن يخربش حرفاً. قاطعني غابرييل غارسيا ماركيز وهو يقول بلكنة ماكوندوية أنه لا يريد مني شيئاً، فقط أن أسمح له بتكملة الجزء الثاني بعد أن يبعثني إلى الحياة لأني، كما قال، كنت قد مُت، خطأً، في ماكوندو في ستينيات القرن الماضي بعد أن أخطأ هو في الحبكة التي استخدمها في روايته تلك والتي أدت إلى قتلي. قُلت للضابط أن هذا الواقف أمامه بكرشه المنتفخة ما هو إلا روائي أصيب بمرض الزهايمر و لا يعرف عن ماذا يتحدث. وأنه يقول أني شخصية كولومبية حشرها في روايته ذائعة الصيت وأن اسمي ليس آرثر غابرييل ياك بل كولونيل أورليانو بوينديا! هل كان يعلم ذلك الضابط المُنهمك في خربشاته عماذا أتحدث ؟ وابل من الذهول أمطرني فجأة حين رأيته، أي الضابط، قد طلب فلوسكاباً آخراً بعد أن ملأ ثلاثة. إنه يكتب الإنجليزية أليس كذلك!
فجأةً، قفز غابرييل غارسيا ماركيز من غيبوبته التي كان يمارسها بصوتٍ عالٍ داخل القسم فسأل الشرطي إن كان هو قد سمع أسمي بالتمام أم أنه واقعية سحرية خرجت من جُعبة روايته وتجسدّت في شخصي داخل مركز الشرطة في وسط سوق كنجوكنجو. رد الشرطي والكلمات تخرج من فمه بصعوبة كأنه كان يدفع مبلغ من المال عند كل كلمة يخرجها: نعم اسمه آرثر غابرييل ياك! لم يتمالك غابو نفسه فأنكب علي وأخذ يقبل جبهتي ورأسي و يضع رأسي بين يديه و يحملق في وجهي و زرفت عيونه دموعٍ غزيرة و بكى كأنه فقد أمه، لويسا سانتياجا ماركيث إجواران، لتوّه وصرخ بصوتٍ شبيه بنشيج ناقةٍ: إبني! إنفجر الضابط، الجالس خلف ترابيزة صغيرة يبدو أنها استعارها من بائعة الطماطم الجالسة هناك بالقرب من طاولات شحن الهواتف الجوالة، ضاحكاً وكاد أن يقع من كرسيه لولا الجندي الواقف خلفه والذي اعتقدته من شدة نحافته عندما رأيته أول وهلة، كأنه بزّة عسكرية عتيقة وممزقة معلقة على الحائط، فبحركة رشيقة وسريعة ثبت الكرسي من الخلف مانعاً الضابط من السقوط على قفاه ولكنه، في نفس الوقت، لم يتمكن من منعه من ركل التربيزة برجله اليمنى فتطايرت أوراق الفولسكاب التي كنت قد ابتعتها لتدوين محضر بلاغٍ غريب غرابة صاحبه الذي لم يأبه بالضابط المنفجر ضحكاً فأستمر في ما كان يفعله في ابنه المزعوم الذي هو أنا! وبعد أن استجمع الضابط رباطة نفسه وتماسك و ملاء كرسيه بجسده الأعجف وشميم شراب العرقي الممزوج بالعرق يفوح من إبطيه، قطب جبينه ومط شفتيه وتفرّس في وجه غابرييل غارسيا ماركيز ملياً بعد ان وضع قلم البيك جانباً وقال ملقياً بسؤاله في وجه غابو: ابنك ولا شخصية في روايتك؟
أشعل، غابو، سيكارته التي اطفأها بالأمس عندما شاهدني في وسط السوق بعد أن أخرجها من جيب صديري رمادي اللون، وسحب نفساً عميقاً كأنه لم يدخن منذ أمدٍ بعيد ثم كح مخرجاً بلغماً بلون مزارع الموز الكولومبي و تمتم بكلماتٍ اسبانيةٍ جعلت الضابط يفغر فاه كاشفاً عن أسنان سوّدتها السعوط ولسان تراكمت عليها الفطريات وبقايا طعام. اسمي غابرييل واسمه آرثر غابرييل ياك إذاً هذا ابني! بصوته الجهوري وبلغة عربية غير بليغة، قال مخاطباً الضابط، ودون أن يحره الضابط رداً، اردف غابو قائلاً: ابني أو كولونيل أوريليانو بوينديا هذا لا يهم، المهم هو أن يذهب معي إلى كولومبيا لأكمل روايتي..
أع رف، يا كولونيل أوريليانو بوينديا، أني قتلتك وأنت متكئاً على جزع شجرة الكستناء بينما كنت تسكب آخر قطرات بولك عليها.. كنت أفضل أن تموت شهيداً يا كولونيل أوريليانو بوينديا في الحروبات التي قدتها ضد حزب المحافطين أو على الأقل في تلك الغرفة الصغيرة التي كانت هي كل عالمك وأنت تصنع تلك الأسماك الذهبية الصغيرة. نعم يا كولونيل...!
استغرب الضابط، والذي بدا كأنه مقتنعاً بكلام غابو الأمر الذي جعله ( أي غابو) يكاد يطير فرحاً، لكن الضابط سرعان ما أمر احد العسكر، والذي بدا كأنه كان مجبراً على أداء الخدمة، بأن يلقي به داخل غرفة الحراسة.. يبدو أن غابو لم يفهم ما قيل إلا بعد أن أمسك ذلك الجندي بيده، والقي به داخل زنزانة أقل ما يمكن أن يقال عنها بأن كل قذارة العالم قد حُبست بها. أنها رائحة البشر الممزوجة بنتانة الجلد الوسخ والعرق المكتوم بين مسامات الجسد.. " دا لاجيء كولومبي شارب ليهو مبسوط ساكت!" ثم أردف قائلاً بعد أن أشعل سيجارة ونفث دخاناً كثيفاً في هواء الغرفة ليزيد من كتمانها ونتانتها: " بكره الصباح أطلقوا سراحه"
كان السوق هادئاً عندما خرجت من قسم الشرطة حيث لم يكن هنالك باعة أو متبضعين، لسعات بردٍ توخز جلدي وصياح ديك اخترق أذني فعلمت أن الوقت ليس إلا الساعات التي تسبق شروق الشمس، صداع خفيف يأتي وينسحب ويختفي بين مخابئ عقلي لكنه مُزعج للغاية. إنه ذلك الصداع الذي يصاحب الآثار الصباحية المتبقية من شرب الخمر في الليل السابق.. "الكيتوك!" تسللت إلى حانة الأمس فالفتها تقف في وجهي بغتةً كأنها كانت تبحث عني لسنواتٍ ولم تجدني إلا الآن.. ولجتها لعل أجد ما يُزيل تلك الآثار المتبقية من خمر ليلة أمس فوجدتها هناك جالسة بجسدها الواهن يبدو من النعاس الذي كانت تقاومه بأنها ربما، ربما بالغت في ممارسته لل... ليلة الأمس.. ضحِكَتْ عندما سمعت صوتي أطلب جعة وكأس فودكا كأسرع طريق لإزالة تلك الآثار الكحولية.. و خاطبتني قائلةً: يا غابو.. فقاطعتها مباشرةً عندما شعرت بأن هنالك مؤامرة تحاك ضدي وقلت لها: غابو هو اللقب الذي يُنادى به غابرييل غارسيا ماركيز، اما أنا ف... ضحكت بصوتٍ عالٍ وهي تضع الجعة وكأس الفودكا التي أخذت تتماوج في قعرها وقالت بلغة أهل ماكوندو: أعرف انت اسمك غابرييل غارسيا ماركيز، وأعرف أيضاً بأن عقلك قد أصبح خاوي بفعل مرض الزهايمر إلا من صفحة بيضاء كبيرة لا تصلح لشيء.. كيف بالله لعقل مثل عقلك يا غابرييل غارسيا ماركيز أن لا يتذكر شيء، أي شيء حتى الغجر الذين كانوا يأتون بكل جديد في العالم إلى ماكوندو؟ الجم، منطق صاحبة الحانة، التي عرفت فيما بعد أنها (فيرمينا داذا)، لساني وسكبت الجعة سريعاً في معدتي و طلبت أخرى إلى أن غبت بين صفحات كتاب ضخم وأصبحت إحدى الشخصيات التي اغتيلت في تظاهرة عمال شركة الموز في ماكوندو. فحملتنا عربات القطار الطويلة بعيداً ومن ثم تم رمينا في البحر.. لم أكن ميتاً حين ألقى بنا الجنود في عربات القطار لكني مُت، اختناقا، في الطريق.. كان القطار ينأي بعيداً ويسير ببطء وبخجلٍ وهو يشق جدار الليل السميك الأسود..لم أشعر بنفسي يا غابو حين القي بي في عرض البحر فروحي كانت قد صعدت قبل ساعاتٍ من وصول القطار إلى محطته الأخيرة: مقبرة البحر!
كانت عقارب ساعتي البيولوجية تشير إلى الثانية والنصف فجراً عندما أخذت استمع إلى زخات المطر الموسيقية المتساقطة على الزنك الأحمر، وضفادع تنق للحصول على مزيد من المطر.. فجأةً خرج صوت من جهازي الصغير وهو يعلن بحزنٍ موت الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز.. لا بد أنهم قتلوه داخل تلك الزنزانة لأنه لم يستطع دفع شيء ما ليطلقوا سراحه حتى يمشي الهوينى في سوق كنجو كنجو لعله يجد شخصية ربما تُصلح لرواية ما.. خرجت إلى الباحة فالفت نفسي في منزل عتيقٍ تقف شاهداً على أجيالٍ وأجيال من أسرة بوينديا التي عاشت هناك مئات السنين. انها ماكوندو، قلت لنفسي. كانت شجرة الكستناء مازالت ترفرف كأنها تعبر عن سعادتها بموت خالق هذه القرية وذلك البيت الكبير، وكانت ريميديو الجميلة مازالت هناك واقفة تنشر الملابس وفجأة أخذت تتحلق في الفضاء بعد أن أخذتها هبوب الشيطان.. كان جميع أسرة بوينديا هناك، جالسين تحت خيمة عزاء كبير وهم يصلون بخشوع وأمامهم وضعت بإتقان شديد، جثة جميلة أنيقة لخالقهم الذي مات أخيراً: غابرييل غارسيا ماركيز. نعم كانوا جميعاً هناك، لم يمت منهم أحد كما قتلهم غابو في روايته الشهيرة مائة عام من العزلة، لم يكن لأن الله قد منحهم الحياة الأبدية دون أن يتذوقوا طعم الموت، بل لأنهم جميعاً كانوا مجرد شخوص روائية أبدعتها مخيلة رائد الواقعية السحرية؛ غابرييل غارسيا ماركيز الذي رحل بهدوء وترك خلفه عالمين: عالم خلقه الله، وعالم آخر خلقته عقليته الإبداعية السحرية الفذّة!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.