من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    ((المدرسة الرومانية الأجمل والأكمل))    من يبتلع الهلال… الظل أم أحبابه؟    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    كامل إدريس يصدر توجيهًا بشأن الجامعات.. تعرّف على القرار    شاهد بالفيديو.. رجل سوداني في السبعين من عمره يربط "الشال" على وسطه ويدخل في وصلة رقص مع الفنان محمد بشير على أنغام الموسيقى الأثيوبية والجمهور يتفاعل: (الفرح والبهجة ما عندهم عمر محدد)    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    رئيس الوزراء يطلع على الوضع الصحي بالبلاد والموقف من وباء الكوليرا    الجيش الكويتي: الصواريخ الباليستية العابرة فوق البلاد في نطاقات جوية مرتفعة جداً ولا تشكل أي تهديد    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    خطوة مثيرة لمصابي ميليشيا الدعم السريع    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    كيف أدخلت إسرائيل المسيرات إلى قلب إيران؟    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    خلال ساعات.. مهمة منتظرة لمدرب المريخ    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معركة جديدة بين ليفربول وبايرن بسبب صلاح    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    مسؤول سوداني يطلق دعوة للتجار بشأن الأضحية    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غابرييل غارسيا ماركيز : ماركيز 'الآخر' سيكون شابا ووسيما وسعيدا حتى الدمعة الاخيرة!
نشر في الراكوبة يوم 21 - 03 - 2013

حين يكتب غابرييل غارسيا ماركيز عن بعض المفارقات والمواقف الغريبة التي تحدث في حياته اليومية، لا نملك إلا أن نتساءل: هل الرجل يتحدث بجدية؟!
لكننا سنوقن بأن حديثه يتضمن الكثير من الحقيقة الممزوجة بنكهة أدبية بارعة، وبقية تفاصيل القصة، هي حقيقة من تصوير خيال لا يقل براعة عن حقيقة ما يرويه من حقيقة. يكتب ماركيز في مقال 'أنا الآخر' من كتاب 'كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى' أنه حين استيقظ ذات يوم من نومه في مكسيكو، قرأ في إحدى الصحف مقالا يتحدث فيه صاحبه عن أن ماركيز قد ألقى محاضرة في (بالما دي غران كاناريا) جزر الكناري، أي على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي. ويقول ماركيز ان المراسل الصحافي صاحب المقال لم يكتف بإيراد رواية مفصلة للحدث فقط، بل انه قدم كذلك موجزا موحيا لمحاضرة ماركيز المزعومة.
ويعترف غابرييل غارسيا ماركيز بدهاء الكاتب المبدع، أن أكثر ما فتنه في مقال المراسل الصحفي هو أن الموضوعات المطروحة المزعومة كانت أكثر ذكاء مما يمكن أن يخطر لغابرييل غارسيا ماركيز. بل ويضيف أن الطريقة التي عرضت بها كانت أكثر جاذبية مما يستطيعه ماركيز نفسه، و أن ما كتبه المراسل الصحافي لم يجد فيه ماركيز سوى عيب واحد وحيد، فمركيز لم يكن في مدينة بالما، لا في اليوم الفائت، كما ادعى صاحب المقال، ولا خلال السنوات الاثنتين والعشرين الماضية. كما أنه لم يلق في حياته، حتى ذلك الحين، محاضرة واحدة حول أي موضوع في أي مكان من العالم. ورغم كل شيء لا يبدو على ماركيز أنه تبرم من هذا التصرف غير المسؤول من مراسل صحافي ادعى حقيقة مختلقة. في كتابه 'كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى'، وبالضبط في مقال 'أنا الآخر' وهذا العنوان له أكثر من دلالة، لأن ماركيز في هذا المقال يصبح محل استنساخ إذا صح التعبير، وتدبج باسمه العديد من الأحداث والمواقف، وفي هذا الصدد يكتب ماركيز: كثيرا ما يجري الإعلان عن حضوري في أماكن لا أكون فيها، وتقودني الصدف وحدها لأن أقرأ في صحف لا تخطر على بال، مقابلات معي لم أقدمها على الإطلاق، لكنني لا أستطيع إنكارها لأنها تعبر بنزاهة، وسطرا سطرا، عن أفكاري. بل ان أفضل مقابلة معي نشرت حتى اليوم، وكانت تعبر خير تعبير وبأكثر الأساليب وضوحا عن أشد منعطفات حياتي تعقيدا، ليس في مجال الأدب وحسب وإنما كذلك في السياسة، وفي ذوقي الشخصي، وفي أفراح قلبي وأتراحه، هي تلك المقابلة التي نشرت منذ سنتين في صحيفة مغمورة تصدر في كاراكاس، وكانت مختلقة حتى النفس الأخير منها، وبالتوقيع الكامل لامرأة لا يعرفها غارسيا ماركيز، ولكنه يؤكد 'لاشك في أنها تحبني كثيرا كي تعرفني إلى هذا الحد، حتى ولو كان ذلك من خلال أنا الآخر فقط '. ثم أن ماركيز لم يعلق صدفة حول الصحيفة بأنها صحيفة مغمورة، وانها نشرت المقال قبل سنتين، وفي مدينة كاراكاس بالذات. هناك دائما بسط أرضية مقبولة ومنطقية لسرد واقعة يحشرها الكاتب في أذهاننا لنقتنع بها من خلال روعة السرد، وغرابة الأحداث، والأسلوب المتميز الذي ينهجه الكاتب لإرغامنا على تقبل تلك المواقف بكل المتعة والحب أيضا. ولكي يؤكد صدقية تلك الأحداث بتفاصيلها المدهشة، يكتب ماركيز 'رغم أني قلت مرارا في جميع الوسائط المتاحة اني لا أشارك في الاحتفالات العامة ولا أرتدي زي الأستاذ الجامعي ولا أظهر في التلفزيون ولا أشارك في الدعاية لبيع كتبي ولا أساهم في أية مبادرة يمكن لها أن تحولني إلى استعراض. وإحجامي عن ذلك ليس تواضعا، وإنما لسبب أسوأ: انه الخجل'.
اعتراف جميل من كاتب كبير، اعتراف محفوف بالكثير مما يمكننا تسميته بألعبانية الكاتب الحاذق الذي يفرض وجوده من خلال التلاعب الممتع بالحكي، ويستطيع تحقيق الدعاية لشخصه 'بغض النظر عن جودة منتوجه الأدبي المبهر الذي لا أحد يجادل فيه' من خلال ترك الآخرين يلعبون دورا بدلا عنه، ودائما يتوفقون في لعب هذا الدور لأنهم يمتلكون أدوات وملكة اختلاق وقائع وأحداث تتعلق بالكاتب غابرييل غارسيا ماركيز. ويعلل صاحب مائة عام من العزلة سبب تواريه عن الأنظار وعدم اندماجه في الأماكن العامة بسبب الخجل. هل حقا إلى هذه الدرجة يكون غابرييل غارسيا ماركيز خجولا؟!! يجب أن نضيف العبارة الموالية التي تلت عبارة ماركيز حول خجله: .. وهذا لا يكلفني أية مشقة، لأن أهم ما تعلمت عمله بعد أربعين سنة هو أن أقول لا، حين يجب علي أن أقول لا.
ليس المهم أخذ ما يقوله الكاتب بالواقعية المفترضة كما قلت في مقال نشر سابقا، المبدع حتى وهو يكتب مقالات تبدو جادة أكثر من الجدية نفسها، إلا أنه لا يتخلى في نفسه عن شخصية الكاتب الذي يترك لخياله العنان ليسرح ويشطح شطحات ممتعة مفعمة بالجاذبية. غابرييل غارسيا ماركيز حين يكتب، لا يكتب ليتقمص شخصية المؤرخ أو الصحفي أو المحقق، بل يكتب دائما وأبدا من منطلق كونه كاتبا مبدعا لا يحصر شساعة خياله في نطاق ضيق لا يخدمه هو شخصيا، ولا يخدم القارئ الذي يحظى دائما بوجبة لن تكون إلا مخللة بتوابل منتقاة بدقة كاتب يحمل قلما وخيالا لا نظير له. ولهذا أبهر ماركيز كل قراء العالم من خلال رواياته الخالدة، وهذه الروايات هي جزء من شخصية الكاتب صاحب الخيال الخلاق الذي لا يمكنه أن يتحدث عن واقعة كتابة مراسل صحفي واختلاقه لقصة إلقاء ماركيز لمحاضرة في جزر الكناري، لا يمكنه أن يكتب عن الحادثة بنمطية تقليدية وسطحية جدا لطالما ألفناها لدى العديد من محترفي الكتابة التي تبقى كتاباتهم في كل الأحوال لا تتجاوز قدراتهم الإبداعية.
ويستمر ماركيز في إبهارنا بحديثه الشيق في مقال 'أنا الآخر' من كتابه 'كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى' إذ يحدثنا هذه المرة بأن واقعة محاضرة جزر الكناري الملفقة لم تكن هي الحدث الأكثر غرابة، وإنما هناك حادثة ينعتها ماركيز بدهاء وعن قصد بالمشؤومة. الحادثة التي وقعت له منذ سنوات مع شركة الخطوط الفرنسية بمناسبة رسالة لم يكتبها ماركيز مطلقا، وكانت شركة الخطوط الفرنسية قد تلقت احتجاجا رنانا وحانقا، يحمل توقيع غابرييل غارسيا ماركيز، وفيه يشكو من سوء المعاملة التي كان ضحية لها في الرحلة العادية التي تقوم بها الشركة بين مدريد وباريس، في يوم محدد (لماذا أضاف ماركيز عبارة 'في يوم محدد' ؟! ) وبعد تحقيق صارم، يكتب ماركيز، أنزلت الشركة بالمضيفة العقوبات المتعلقة بالقضية، وبعثت له إدارة العلاقات العامة رسالة اعتذار شديدة التهذيب والأسف. هنا أتساءل، وسيتساءل معي القارئ: كيف يستعصي على شركة طيران عالمية معروفة، ما إذا كان الكاتب ذائع الصيت غابرييل غارسيا ماركيز قد سافر في تلك الرحلة العادية، وفي ذلك اليوم المحدد الذي أصر ماركيز ليؤكده لنا؟ وكيف تمت معاقبة مضيفة بدون أسباب واضحة ومعطيات منطقية، وعلى أي أساس؟ رسالة الشركة تركت ماركيز في حيرة من أمره، فهو لم يسافر في الواقع أبدا في تلك الرحلة، كما يكتب في المقال. بل وأكثر من ذلك، يخبرنا ماركيز في مقاله 'أطير دوما وأنا خائف، حتى انني لا أنتبه إلى كيفية معاملتهم لي (يقصد موظفو الطائرة) وأكرس كل طاقتي لتثبيت مقعدي بيدي كي أساعد الطائرة على البقاء محلقة في الجو، أو أحاول منع الأطفال من الركض في الممرات خشية أن يثقبوا أرضية الطائرة'.
ألا يذكرنا مثل هذا الكلام بحوادث تراكمت فيها المبالغة الباهرة الممتعة في رواية مائة عام من العزلة مثلا؟! بحيث يصور لنا ماركيز جوزيه أوركاديو بوينديا بالوصف التالي: (وفي أحد الأيام خرج من غرفته والجميع نيام، وعمد إلى عضادة الباب فانتزعها، وبقوته الهرقلية أخذ يهشم أدوات المعمل الكيميائي وأدوات المسبك وهو يصرخ ويهذي بكلام غير مفهوم..وكاد ينتقل إلى باقي غرف البيت يعمل فيها تهشيما لولا أن استنجد أورليانو بالجيران..فاحتاج الأمر إلى عشرة رجال لطرحه أرضا، والى أربعة عشر لتقييده، وعشرين لجره إلى شجرة الكستناء في الفناء حيث تركوه مربوطا بها..) ( 1 )
ويصف في موقف آخر، وفي ذات الرواية وبالمبالغة ذاتها أيضا:
(وعند منتصف الليل، بعد أن فاضت روح أوريليانو- جوزيه، تقاطر أكثر من أربعين شخص أمام المسرح وأفرغوا مسدساتهم في جسد الكابتن اكويل ريكاردو الطريح في الشارع..واضطرت إحدى الدوريات إلى نقل جثمانه فوق عربة يد لشدة ثقلها بما استقر فيها من رصاص..) ( 2 )
إنها ليست مبالغة على الطريقة المألوفة التي غالبا ما تشعرنا بالتأفف والضيق، بل هو فن لحكي راق يمزجه غارسيا ماركيز بطعم الإبداع الممتع، ليجعل من كلامه أدبا فيه من المتخيل كل شيء، قبل أن يؤخذ من قبل القراء مأخذ الجد.
لم تتوقف قصة الرسالة المزيفة المرسلة إلى الخطوط الجوية الفرنسية عند ذلك الحد، فبعد أن يؤكد لنا الكاتب بأنه توجه إلى أقرب مكتب للشركة بسبب إحساسه بالخجل، ولأنه يريد توضيح الأمور. وهناك عرضوا عليه رسالة الاحتجاج، ولم يكن بإمكان ماركيز إنكارها، ليس لأسلوبها فقط، وإنما كذلك لأن اكتشاف زيف التوقيع كان سيكلف ماركيز جهدا.
براعة ماركيز في رواية الأحداث جد مثيرة للإعجاب، حتى أنه ينسي القارئ ما إذا كان يقرأ مجرد مقال فيه القليل من الحقيقة، والكثير من الخيال الواسع، بل أكثر من ذلك هو خيال لا يخلو من فكاهة مهذبة وفي قالب نظيف ومحكم البناء ليس بمقدور أحد محاكاته، رغم شكوى غابرييل غارسيا من 'أنا الآخر'، هذه الشكوى التي يبررها (وكلمة يبررها أجدها الأنسب في هذا المقام) من خلال ما يورده في آخر مقاله 'أنا الآخر' من كتابه الأنيق 'كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى ' يكتب ماركيز حول أنا الآخر:
لا شك أن من كتب تلك الرسالة هو نفسه الذي ألقى المحاضرة في جزر الكناري، وهو الذي يفعل أمورا كثيرة لا أكاد أعلم بها إلا مصادفة، ففي معظم الأحيان، وحين أذهب إلى بيت أصدقاء لي، أبحث عن كتبي في مكتبتهم متظاهرا بالتسلي، وأكتب لهم إهداء عليها دون أن ينتبهوا إلى ذلك. لكنني وفي أكثر من مناسبتين، وجدت أن الكتب مهداة، بخطي ذاته، وبتوقيع لا ينقصه ليكون توقيعي إلا أن أكون أنا من كتبه.
إنها عبارة جميلة جدا 'وبتوقيع لا ينقصه ليكون توقيعي إلا أن أكون أنا من كتبه' وبهذه العبارة الجميلة جدا يفهمنا غابرييل غارسيا ماركيز أن البعض من أصدقائه الذين يزورهم، والذين يبحث عن كتبه في مكتباتهم متظاهرا بالتسلي، هم وحدهم من يستطيع محاكاة توقيعاته بدقة لا ينقصها إلا أن يكون هو من كتبها. ويكرس هذا المفهوم بإيحاء لا تخطئه البديهة، بقوله: حدث على الأقل أكثر من مناسبتين. بمعنى آخر أن الحالة ليست كثيرة الحدوث، وهو أمر يزكي مصداقيتها طبعا.
يسترسل ماركيز ويكتب في ذات المقال الآنف الذكر: منذ نحو ثلاث سنوات، وكنت قد انتهيت من تناول الطعام في بيتي بمكسيكو، حين طرق الباب، وجاء ابني ليقول لي وهو ينفجر ضاحكا: 'أبي، أنت جاء يبحث عنك'. قفزت من المقعد وأنا أفكر بانفعال لا يمكن كبحه: 'هاهو ذا أخيرا'. لكنه لم يكن أنا الآخر وإنما المهندس الشاب غابرييل غارسيا ماركيز، مهندس مكسيكي يصفه ماركيز بالمهذب، يحمل بالصدفة نفس الاسم الكامل للكاتب الكولومبي صاحب رائعة مائة عام من العزلة 'غابرييل غارسيا ماركيز' هذا الشاب المكسيكي تصله أعداد هائلة من الرسائل موجهة إلى الروائي والأديب غابرييل غارسيا ماركيز، لكنها تصل بالخطأ إلى عنوان المهندس المكسيكي الشاب غابرييل غارسيا ماركيز بسبب التشابه المتطابق في الاسم، وهكذا يتوصل المهندس أخيرا إلى عنوان الكاتب ليسلمه الرسائل الكثيرة. وهنا علي أن أقف لحظة لأتأمل ما إذا كان هناك حقا شخص في مكسيكو يحمل نفس اسم الكاتب ماركيز كما يخبرنا هذا الأخير، ربما لأن ماركيز يأتي بهذه القصة ليقول لنا بالحرف وفي نفس المقال الذي نحن بصدده: لا، فالمهندس الشاب لم يكن أنا الآخر، وإنما هو شخص محترم جدا: انه سميي. أما أنا الآخر فلن يجدني أبدا، لأنه لا يعرف أين أعيش، ولا كيف أنا، ولا يمكنه أن يتصور اننا مختلفان إلى هذا الحد. سيواصل التمتع بوجوده الوهمي، الباهر والغريب، في يختهه الخاص، وطائرته الخاصة، وقصوره الإمبراطورية حيث يحمم عشيقاته بالشامبانيا ويقضي على خصومه الرئيسيين بالضرب. سيواصل التغذي بأسطورتي، ثريا إلى أقصى حدود الثراء، شابا ووسيما إلى الأبد وسعيدا حتى الدمعة الأخيرة، فيما أواصل أنا الهرم دون أسف أمام آلتي الكاتبة، غير عابئ بهرائه وتعسفه، باحثا في كل ليلة عن أصدقاء حياتي لنرتشف معا الكؤوس المعتادة ولنحن دون عزاء إلى رائحة الجوافة. وهذا هو أفدح المظالم: فالآخر هو الذي ينعم بالشهرة، وأنا الذي يتخوزق بالحياة.
استسلم تماما غابرييل غارسيا ماركيز في الفقرة الأخيرة من مقال 'أنا الآخر' من كتاب 'كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى' لغواية الإبداع، وفجر اللغة والبلاغة وجمالية الوصف بشكل مدهش، وهو يفعل، لا شك أنه كان يرثي في نفسه ذلك الأنا الآخر الذي انتهى منذ أمد بعيد. الشهرة والمجد والسعادة بمدلولاتها المحسوسة، تركها غابرييل غارسيا ماركيز خلف ظهره، وأضحى يرى فقط طيف أناه الآخر يبتعد ويسير بعيدا منتصرا منتشيا بما حققه في الحياة. أما هو الكاتب الهرم، يواصل دون أسف أمام آلته الكاتبة. فالآخر (ماركيز الشاب) هو الذي ينعم بالشهرة، أما أنا (ماركيز الهرم) فانه يتخوزق بالحياة. والنتيجة، أنا الآخر هو بالضبط الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز...ربما.
1- ص 46 من رواية 'مائة عام من العزل'
2- ص 95 و 96 من رواية 'مائة عام من العزلة'
القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.