منذ وقت بعيد ، وحتّى الأمس القريب جدّاً ، كان الشعار الأثير للنفوس المحبّة للحريّة والعدالة (( أطلقوا سراح المعتقلين ))، هو الشعار السائد فى وطننا السودان ، كما فى بلدان أُخرى ، تُعانى أنظمة حُكمها من " متلازمة " الدكتاتوريّة والحكم الشمولى وقهر الشعوب والفساد والإفساد ، ويُعنى بالشعار المعتقلين السياسيين ، وقد ظللنا فى حركة حقوق الإنسان السودانيّة، نرفع هذا الشعار، ونُلحق به جُملةً شديدة الوضوح ، تُكمّل المعنى المُراد تحقيقه ، بصورة لا تقبل اللبس و" الدغمسة "، وهى ( أو تقديمهم لمحاكمة عادلة) أو ( أو تقديمهم لمحاكمة تتوفّر فيها معايير المحاكمة العادلة )، وهى حزمة مُتكاملة من الحقوق وفق المعايير الدوليّة ، يتوجّب مُراعاتها والإلتزام التام بتحقيقها فى مرحلتى ( ما قبل المُحاكمة ) و( أثناء المُحاكمة )، بغرض تحقيق العدالة فى أسمى معانيها ، لأنّ " الظُلم ظُلمات والعدل نور" !. بالأمس ، حملت الاخبار قصّة أقرب للخيال ، مُلخّصها أنّ إحدى لجان التحقيق الإنقاذيّة ، وهى (( لجنة التحقيق العدلية المُكلّفة بالتحقيق فى تجاوزات بمكتب والى الخرطوم )) " أطلقت سراح " مُتّهمين مُتورِّطين فى قضيّة إستغلال النفوذ بمكتب الوالى ، بحصولهما على مبلغ (17,835,000) سبعة عشر مليون وثمانمائة وخمسة وثلاثين ألف جنيهاً ، و برّرت لجنة التحقيق ، قرارها ، بانّ المتورطين قبلا مبدأ ( التحلُّل ) من المال الحرام ، حسب قانون ( مُكافحة الثراء الحرام والمشبوه ) المادّة 13 ، بدفعهما المبلغ المنهوب !. ويا دار ما دخلك شر !. والغريب فى القانون ، أنّه يكفل للسارقين قُبول " التحلُّل " من الأموال التى يتحصّلون عليها بغير وجه حق ، وفى حال رفضهم " إعادة " المال المنهوب ، تتم إحاتهم للمحاكمة !. وهكذا ، تستطيع اللجان أن تُغلق - وبالقانون - ملفّات جرائم نهب المال العام ، وكانّ القانون يقول للسارق ، وهو " القوىّ الأمين " فى الدولة الإنقاذيّة : " إسرق " و " خلّيك حريف " ، أمّا إن أُكتشفت جريمتك ، فما عليك ، سوى " التحلُّل " من المال المسروق ، بإعادته لخزينة الدولة ، ولو بعد سنوات أو عُقود ، وإن لم تُكتشف ، فهو " حلالٌ عليك " وسيكون بمثابة " رزقٌ ساقه الله لك " ... وقبل ايّام من هذه المهزلة ، قرأنا من فصول كتاب عدالة الإنقاذ ، تفاصيل جريمة وفضيحة ملف أموال شركة الاقطان ، التى يُراد منها فى نهاية المطاف ، تبرئة مفسدين ، و" إطلاق سراحهما " عبر بوّابة قانون " التحكيم " ، وما أدراكما التحكيم !. واضح للعيان ، أنّ هذه اللجان ، وتلك القوانين ، تعمل فى مصلحة وحماية سدنة النظام ، بينما ، تحمل الذاكرة الشعبيّة قصص ومواجع يندى لها جبين العدالة ، عن تجارب المُعسرين من المزارعين ، فى القطاعين المروى والمطرى ، التى أدخلت الآلاف السجن ، وخلّفت وراءها مىسى إجتماعيّة وإقتصاديّة وسياسيّة ، وهناك آلاف الحكاوى عن ضحايا " الشيكات المرتدّة ، وظاهرة " الجوكيّة " الذين يبقون فى السجن لحين السداد ، بينما يهنا المُجرمون الأصيلون ، بتراكم الأموال !. هاهى الإنقاذ تُدخِل لقاموس الفساد والإفساد و " الدغمسة " شعاراً جديداً وهو ( أطلقوا سراح المُختلسين ) ..وعلى هذا المنوال يصبح من الممكن جدّاً ، صياغة شعارات " إنقاذيّة " تُعبّر عن المرحلة الحالية و القادمة ، على شاكلة ( أطلقوا سراح المُفسدين والفاسدين ) أو ( أطلقوا سراح المجرمين )، طالما انقلبت المعاييروتبدّلت القيم وتغيّرت المفاهيم .. ولكن ، هيهات !. ويبقى أنّ دولة الظلم ساعة ، ودولة العدل إلى قيام الساعة. فيصل الباقر