1 تنبع أهمية الجانب السياسي في الجامعات من كونه دوراً تمارسه الجامعة وطلابها مساهمة في قضايا الوطن ، وتكويناً أساسياً للطلاب ليرفدوا المجتمع بقياداته ونخبه ومواطنيه الصالحين ، ولا شك أن ذلك من صميم الرسالة التي تحملها الجامعة. إلا أن الاختلالات الكبرى التي نشهدها اليوم ، والمسافة الشاسعة بين هذه الأهداف والواقع تنبئ بمقدار التردي الذي آلت إليه أحوال الممارسة السياسية داخل الجامعة . واقع لم يولد اليوم ، ولكن تشكل عبر عقود من الزمن. وتتأتى الدواعي العملية لهذا القول في هذا الوقت بالذات ، مما آل إليه الوضع السياسي في الجامعة من تأزم ، ووصوله حداً لا يمنع الجامعة تأدية مهامها ورسالتها فحسب ، بل إن الأمر يصل لتبديد حياة منسوبيها وأمنهم كما كان في الأحداث الأخيرة. ونحاول في هذه المداخلة أن نقدم حصيلة تفكير مطوّل في الموضوع ونقاشات مع بعض المهتمين ، توصيفاً للأزمة في جذرها ، يعقب ذلك أفكاراً حول ما نراه مناسباً لإخراجنا من المأزق من إجراءات عملية مباشرة. 2 إننا نزعم أن جذر الأزمة في الجامعة اليوم هو نشاط سياسي غير راشد ، فالتنظيمات اليوم هي الفاعل الرئيس بل الأوحد ، في غياب كل تمثيل وانحسار أي نشاط آخر . وهي المتسببة مباشرة في كل أحداث عنف حدثت أو ستحدث ، وهي التي بيدها استقرار الجامعة من عدمه. وأما فقدان الرشد فنعني به الوضعية بكاملها ؛ فالأطراف جميعها طرف فيما يحدث بنسب متفاوتة ، وليس منها من ينكر العنف إلا بمقدار ما يخدم مصالحه و أجندته ، وللجميع سوابقهم . يضاف إلى ذلك أنها تفتقر لأي إضافة تقدمها ، وتعاني إثر ذلك شرخاً في المصداقية وانعزالاً عن قواعد الطلاب أزهدهم حتى في منبرهم (اتحاد الطلاب). ثم هي من بعد ذلك فاقدة للاستقلال ومرتبطة بأحزاب وحركات خارج أسوار الجامعة تستمد منها خطوطها. والنظم الاجتماعية إنما تتشكل بالتراكم الطويل ، وتنتج أنماطاً محددة من النشاط يمارسها الفاعلون ، وبيئة حاضنة تحفز على إعادة إنتاج هذا النشاط باستمرار. يتم هنا التعارف على هذا النشاط باعتباره الطريقة التي تسير بها الأمور ، أما البيئة الحاضنة فهي مجموعة الأعراف والمعتقدات ، والبنية المؤسساتية وشبكة العلاقات ، أي كل ما يتعامل معه الفاعل وهو يمارس نشاطه . وتقف هذه البيئة الحاضنة عقبة أمام كل عملية تغييرية تستهدف تغيير النظام السائد. وبناء عليه فإن تغيير هذه الوضعية يتم بإحدى طريقين : (1) توفر الإرادة الحقّة لدى الفاعلين الرئيسيين (السياسيون ههنا) للتغيير وإقرار قواعد جديدة ، وهذه تحدث إثر تحولات عميقة في البنية الداخلية لهؤلاء الفاعلين ، لكنها تبقى مرهونة عليهم رغم كل شيء . أو (2) بإعادة ترتيب البيئة الحاضنة من الخارج (خارج أطراف الصراع) ، بحيث تهيئ لنشوء طريقة جديدة تجري بها الأمور ، وتوضع العقبات والحروز أمام الشكل القديم من الممارسة. ونحن نتوقف هنا لنقول بأن الرهان على الطريق الأول ليس بذي طائل ، لأنه أولاً تكاسل عن الفعل ، وارتكان لاحتمال ضئيل لن يحدث ، لأن الأطراف الرئيسة هنا –كما بينا سابقاً- هي الإشكال ذاته ! أما الطريق الثاني فهو ما نزعم أنه قد يمثل طريق الخروج من المأزق ، لكن ذاك لا يكون إلا بتكاتف من أسرة الجامعة سوية لصياغة المقاربات اللازمة لذلك وإنفاذها . 3 انطلاقاً من كل ما سبق فإننا نقترح إطاراً عاماً نراه الأنسب والأجود لحل الإشكال ، ثم مقاربات ثلاث : قانونية ، هيكلية ، واجتماعية . أما الإطار العام فالأساس فيه : - أن يتم التعامل مع الأزمة الحالية باعتبارها اختلالاً في النشاط السياسي ، يراد له أن يعاد إلى نصابه . و من هنا فإن أي مقاربة للحل لا تستهدف السياسي كبنية كاملة منفلتة العيار ، وتنشغل بتجريم طرف دون آخر ، أو تعنى بتمظهرات النشاط دون جذوره ، فهي بلا شك محاولة قاصرة لحد كبير ، لا تعبر عن الواقع ، ولن تؤتي أكلاً. - أن هذا العمل مسؤولية مشتركة ؛ على الإدارة والأساتذة فيه أدوار ، كما على الطلاب ، وعلى جميع الأطراف تحمّل مسؤوليتها كاملة في حال أريد لهذا الجهد أن يكتمل. - أن يقف هذا الجهد على ذات المسافة من الجميع ؛ يتحرك في كل مساحة ممكنة لتحقيق المصلحة ، ولا يتخذ مواقف موجبة أو سالبة إلا بمقدار ما تمليه هذه الأخيرة. أما المقاربات التي نقترح فهي كما يتوالى : مقاربة قانونية: تتأسس هذه المقاربة على إعادة النظر في قوانين الجامعة ولوائحها التي تنظم النشاط ، ونقترح ما يلي : - إنشاء هيئة دائمة ومتخصصة تُعنى بتنظيم النشاط السياسي ، يتم الاعتراف من خلالها بالسياسة بما هي نشاط تديره جهات ، وليس أفراد/طلاب ، وعلى ذلك تصاغ لوائحها وآلياتها الداخلية بما يتعلق بالوضع القانوني لهذه الجهات وكيفية ضبط نشاطها. ويقترح أن تتبع هذه الهيئة لعمادة شؤون الطلاب. - تشكيل مجلس للأحزاب ، مربوط بهيئة تنظيم النشاط السياسي بحيث تُمثل فيه الأحزاب المصادقة على اللائحة ، ومن ثم يكون المجلس ضمانة التزام هذه الجهات ، كما يعطي أي قرار تتخذه الهيئة القوة اللازمة للإنفاذ. - أن تلتزم الهيئة والمجلس بأدوارها بخصوص رفع كفاءة العمل السياسي ، والإسهام في تشكيل ممارسة سياسية جيدة ، بالتنسيق مع الأقسام والمراكز المختصة التابعة للجامعة (قسم العلوم السياسية ، مركز أبحاث السلام ، ...) ، ورعاية مبادرات للحوار. مقاربة هيكلية : وتتأسس هذه المقاربة على ضرورة تفعيل آليات التمثيل النقابي للطلاب ، وهي كما يلي : - إلزام الكليات بتكوين لجان تسييرية للروابط في أقرب فرصة ممكنة. - التوصية بإدراج "استمرار مزاولة الروابط لعملها وإعادة انتخابها في حال غياب الاتحاد" ضمن البنود المستفتى عليها في قانون الإتحاد. - الالتزام بقيام الاستفتاء على قانون إتحاد طلاب جامعة الخرطوم في موعده المحدد ، ومن ثم الانتخابات ، دون تأجيل غير مبرر. مقاربة اجتماعية : وتتأسس هذه المقاربة على ضرورة إشراك جماهير الطلاب في هذا الجهد ، ورفع وعيهم به ، باعتبارهم ضمانة أساسية في اكتماله والحفاظ عليه . وهي كالتالي : - فتح قنوات التواصل مع الطلاب وإقامة فعاليات مفتوحة للحوار والنقاش ، حول الجامعة أدوارها ، رسالتها ، ومشكلاتها ، والإشكال الذي نحن بصدده الآن بالذات. - ضرورة نشوء فاعلين جدد - وهذا الدور دور طلابي صرف- فالساحة بحاجة لتشكيلات طلابية جديدة ، قادرة على التأثير وخلق الاتزان المطلوب. - إعادة تفعيل النشاط اللا صفي في شتى ضروبه ، فهو ما يكسب الطلاب الوعي العام والقانوني والنقابي المطلوب ، ومنه تفرخ قياداتهم ورموزهم الحقة. وهذا أيضاً دورٌ يقع على عاتق الطلاب. أخيراً ، فإن هذه مساهمتنا في ما نراه ملامح لطريق الخروج من الأزمة ، وما استطعنا أن نراه من ضوء في آخر هذا النفق المظلم ، نضعها ليتم الاستعانة بها ، نضعها ابتداراً منقوصاً لرؤية كاملة ، تكتمل بنا جميعاً. [email protected]