كان الغيوم تلبّد سماها الواعدة بمطر هطّال ، وفي طريقنا من مطار كادوقلي العريق الى وسط المدينة ، راينا الارض تكتسي خضرة وجمالا ، والاجواء الخريفية تدخل البهجة والسرور في النفس ، فقد غادرنا الخرطوم العاصمة المكتظة بمواطني الولايات في اجواء طارة ، سخانتها – تطرد الكافر – كما يقولون ، غير ان الضوضاء يمحق كل إنجاز يحققه الفرد اثناء النهار ! كادوقلي .. حاضرة ولاية جنوب كردفان ، وجدناها تنعم بالامن والاستقرار ، حركة المواطنين تكشف عن إطمئنان كبير يتمتع به الاهالي رغم اصوات المدافع هنا وهنا في اواخر المساء ، ومنذ اندلاع المواجهات المسلحة بين الجيش السودانى ومتمردى الحركة الشعبية لتحرير السودان، قطاع الشمال ، بالولاية ظلت مدينة كادوقلى تحت نيران "الكاتيوشا " التى تنطلق من نواحي الجبال حول المدينة. جئنا وزملاء لنا من الصحفيين ، وفضائيات عربية واجنبية لتفقد الاوضاع الامنية والانسانية بعد نبأ الى علمنا تحرير قوات الدعم السريع منطقة " دلدكو " 17 كلم شرق المدينة ، وتمثل قاعدة رئيسة لإنطلاق صواريخ التمرد على المدينة ، استقبلنا نفر كريم من ابناء المنطقة الذي يحمل همها ويحلم بإعادة سيرتها الاولى ، استقبلونا بحفاوة كبيرة ، والظلام هنا مختلفا تماما عن – ظلمات – المدن ، تكشف تحركات مركبات الشرطة والجيش ذات الدفع الرباعي وهى تحمل " دوشكا " ومدافع على ظهرها ان حكومة الولاية تتحسب لأى طارئ ، حتى ان العسكريين بكامل زيهم وعتادتهم داخل شوارع المدينة والاسواق ، كل شئ يشير الى معالم معركة ما تزال باقية على الارض، واثار الحرائق التى اصابت بعض المبانى تؤشر إلى أن معركة دارت فى تلك الاطراف . خلدنا الى النوم بعد جولة قصيرة في " سوقها المتواضع " بعدها تلقينا بعض المعلومات حول معركة طرد جيش الحركة الشعبية من المنطقة – عصراً – فقد بدأت المعركة منذ التاسعة صباحا يوم 18 مايو ، وعند دخول العصر كانت بشريات النصر قد وصلت الى المدينة التي أطلقت نساؤها الزغاريد فرحا بهذا الإنجاز العسكري المستحق ! وفي الصباح الباكر .. عند تمام التاسعة .. ذهبنا لمؤتمر صحفي اقامه والي الولاية ، المهندس آدم الفكى ، بمباني حكومته ، قال فيه " إن تحرير منطقة " دلدكو "يجعل مدينة كادوقلى آمنة من قصف متمردى "قطاع الشمال ، واضاف الفكي بانه تم تأمين نحو 95 بالمائة من المنطقة الشرقية للولاية وزاد بان نحو 95 بالمائة من المنطقة الشرقية خالية تماما من المتمردين الذين باتوا الأن فى جيوب محددة، وتابع " نحن نعمل على توسيع الدائرة الأمنية " إن تحرير منطقة " دلدكو يشكل اهمية استراتيجية لانها تمثل قاعدة عسكرية للمتمردين لقصف المدنيين داخل كادوقلى . مسيرة شعبية كبرى .. صوت " النقارة " ينافس صوت المدافع هذه المرة ، خرجت جماهير الولاية من كل صوب ( النساء ، الرجال ، الاطفال ، الشيوخ ) وجميع منظمات المجتمع المدني ، خرجوا فرحين .. لمساندة انتصارات قوات الدعم السريع ! خط السير بدأ من حجر المك مروراً بحى الكوز والفقراء ومنطقة تلو التي تحتضن اول مدرسة ثانوية " تلو الثانوية " التي تخرج منها " ابن النوبة "تلفون كوكو .. ومن الحلة الجديدة توجهت المسيرة نحو ميدان الفرقة 14 مشاة حيث مكان الاحتفال ، الذي رقص فيه الجميع على – أزيز – النقارة وتراث النوبة الاصيل ! لوحة شعبية تنم عن تاريخ ضارب في الجذور تحتكره هذه المنطقة خلف جبالها ال" 99 " التي تمثل حضارة ممتدة من اقصى شمال السودان ، فقد ذكر المؤرخون ان النوبيون في الشمال ونوبة الجبال بينهما علاقة لحم ودم ، فهم شعب واحد يرجع تاريخه الى 4 الف سنة ! تحدث معتمد كادوقلي ورئيس المجلس التشريعي وقائد قوات الدعم السريع بالمنطقة وقائد الفرقة 14 مشاة ، كما تحدث نائب قائد هيئة العمليات الفريق احمد ابو شنب وسط هتافات ( كل القوة .. أم سردبّة جوّة ) طريق " دلدكو " .. حقبنا أمتعتنا وتوجهنا الى حيث – إرتكاز – قوات الدعم السريع في منطقة دلدكو ، اخبرونا بأنها مسيرة 17 كيلو متر من كادوقلي ، ولكننا نعتقد غير ذلك ، فهى لا تقل عن 23 كيلو ، الطريق المؤدي اليها " وعر " تكثر فيه الخيران والاشجار المترامية ، تميزه التربة السوداء الخصبة ، حيث الحشائش على إمتداد البصر ، يذكرني افلام الكاوبوى ! لا تستطيع مركبة هالكة على إختراقه ، لكن ( الكروزر ) أو قاهر الصحراء ، وحده من يستطيع تطويع تعرجاته ، وأفادنا من إستصحبنا الى هذا المكان ان الامطار تغلق هذه الطرقات بشكل كامل ، مما اعاد الى اذهاننا حديث حكومة الخرطوم بأن هذا الصيف سيكون – حاسماً – للتمرد ، لذا سميت احدى متحركات الجيش بأسم " الصيف الحاسم " ونحن نتجه " شرقاً " أطلقت زخات المطر بشرياتها بإقتراب وصولنا الى " دلدكو " ولم تمر دقائق معدودة حتى سمعنا أزيز المدافع والرصاص ، ظننا ان الحرب إندلعت مرة اخرى ، وعلمنا أنه – كرم لإستقبال الضيوف – فقد زفرت كل الاسلحة ، حتى انك لا تستطيع التحقق منها ! دخلنا " الصندوق القتالي " لإجراء اعمال صحفية متكاملة ، كان الجيش كله فرحاً بنصره وإسترداد هذه المنطقة الاستراتيجية ، كشف لنا ضابط برتبة عقيد انهم في الطريق الى تحرير منطقة " ام سردبّة " ومنها الى " كاودا " طفنا على مخلفات جيش الحركة الشعبية – المندحر – متحركات وذخائر وملابس عسكرية تحمل ديباجة الحركة الشعبية ، وعلمنا ان هناك جثث لم يتم إجلاؤها من ارض المعركة بعد ان فروا – بجلدهم – حذر الموت ، جرياً على الاقدام ، وبعضهم تم اسره وفق المعاهدات الدولية بشأن اسرى الحروب . وقال العميد حسن جبر الدار قائد القوات التى حررت منطقة دلدكو " نحن نعتقد ان الطريق إلى معقل المتمردين بات مفتوحا بعد السيطرة على دلدكو وقطع خطوط امداد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان، قطاع الشمال".وتبعد مدينة "كاودا" عن كادوقلى عاصمة ولاية جنوب كردفان نحو 92 كيلو مترا إلى الشرق، وتعد المدينة المعقل الرئيس للحركة الشعبية ، قطاع الشمال ، وتكمن اهميتها لقوات الجيش الشعبي لوجود قبر قائدها المتمرد يوسف كوة الذي توفى في العام 2001.وظلت من يومها تخوض مواجهات مسلحة ضد الجيش السوداني في منطقتي "جنوب كردفان" و "النيل الأزرق"، وهما منطقتان على الحدود مع دولة جنوب السودان . [email protected] ///////////