أواصل حديثي عن المستر ب إم هولت الذي درسنا عليه التاريخ في سنواتي بحنتوب ما بين 1949 و1952. ومعروف أن هولت صار بعد ذلك استاذاً مشهوراً في التاريخ الوسيط للشرق الأوسط بإنجلترا. وهو معروف بيننا بكتابه عن دولة المهدية والتاريخ الموجر للسودان. ووقعت لي معه طرفة كادت تأخذني ورفاقي إلى غرفة النوم لولا تدراكتنا رحمة من الرب. كانت غرفة الجلد المر لطلاب في مكتب صغير الذى يفصل بين مكتب اللغة الإنجليزية وبين مكتب أمين المدرسة (البيرسر). وقد عُرف ذلك المكان أنه غرفة "النوم" على البطون وعلى كنبة كانت هى قطعة الأثاث الوحيدة بداخلها رضوخاً للجلد.كان بيني وبين تلك الغرفة قاب قوسين أو أدني. فقد كدت وزملاء لي أن نقع في قبضة مستر هولت بتهمة الضحك الذي ظنه بلا عجب. ولكنه كانت له بواعثه العجيبة. في صباح باكر كانت حصتنا الأولى للتربية البدنية "جمباظ" في ميدان الحرازة الشهير. وكان يدربنا على حركاته أستاذنا الراحل (السفير لاحقا) حامد محمد الأمين ( عليه فيض من رحمة الله). بعد انتهاء زمن الحصة في السابعة وأربعين دقيقة عدنا إلى الداخليات لتغيير ملابسنا والانطلاق إلى المدرسة قبل بداية الحصة التانية ( في الثامنة). كنا أربعة من طلاب سنة تانية غزالي (كم أتمنى أن أعلم شيئاً من أخبار اثنين منهم فقد انتقل رابعنا إلى رحاب ربه إثر حادث مروري في بريطانيا في 1954) وهو في بعثة دراسية من قبل مصلحة الأشغال بعد أن كان قد أكمل دراسة الهندسة في المعهد الفني بالخرطوم هو المرحوم "م. ع. م." عرفناه من أنقى رفاق الدرب صدراً. والأصل في ذلك نشأته في بيئة كرام أهلها في إحدى قرى الجزيرة الفيحاء يحترمون الصغير ويوقرون الكبير. فضلاً عما كان يبدو عليه من تقدم في العمر فزاده وقاراً ظفر به باحترام وإجلال وفير من زملائه ومعلميه حتى أن الكثيرين من زملائه كانوا يتحرّجون من التفوه بفاحش قول أو بما يخدش الحياء في حضرته. ولكن شاءت له الأقدار أن يسمع قولاً اصطكت له أذناه. ولم نصدق أننا قد سمعنا ما جاء على لسان ذلك الطفل "ديفيد" في طريق العودة للفصول في ذلك الصباح. وديفيد ابن الأربع سنوات ابوه المستر" بارت" رئيس شعبة اللغة الإنجليزىة. وجدنا ديفيد جالساً يتلاعب بقارب ورقي على مياه حوض ري ميدان منزل والده. ترددنا هل نقف لدقائق نحادثه بالعربي. فقد عرفه طلاب حنتوب بفصاحته وفحش ألفاظه التى التقطها من خدم المنازل الذين كانوا يعملون مع المعلمين الأجانب ويزودونهم بذخيرة من تلك الألفاظ (التابو) الخادشة للحياء، وهم يدربونهم لمخطابة السودانيين. وبعد السلام على ديفيد وتبادل بعض الكلمات الدارجة (أكلت شنو؟ بتقرا وين وفي سنة كم؟ أمك اسمها شنو؟) ومن هذا القبيل. و"للتعترو" اخونا الله يرحمو م. خاطب ديفيد في لهجة أبوية:" يا ديفيد، المركب حقّتك دي الشّراع حقها وينو؟ كم كانت المفجأة أن رفع ديفيد رأسه وأجاب عن السؤال بفاحش القول. وقف الأخ (الله يرحمه ) للحظات وقد أُرتج عليه جاحظاً ينظر في الأفق البعيد وعلى وجهه خليط من التعابير، دهشة، خُلعة، في محاولة لإخفاء آثار الرد البذئ. أما ثلاثتنا فلم نتمالك أنفسنا فانفجرنا ضاحكين. ووجدنا رفيقنا قد اطلق ساقيه للريح راكضا أمامنا. وعجزنا في اللحاق به رغم أسراعنا من فرط هستيريا الضحك التى أصابتنا. فقد آثر الرجل الذهاب مباشرة إلى المدرسة فتبعناه والضحك قد أخذ منا كل مأخذ. وصلنا الفصل ونحن نغالب الضحك ونسعى لاستعادة حالنا ولكن دون جدوى. وليس منا من كان قادراً على التقاط أنفاسه إلى أن رنّ جرس بداية الحصة ودلف المستر هولت واعتلى منصة الفصل وبدا يتفقد الغياب على السجل. أما نحن فقد ظلت ضحكاتنا المكتومة تتواصل كلما تلاقت أنظارنا نحن الأربعة، مما لفت انظارمستر هولت. فبدأ وجهه يزداد صرامة على ما عليه أصلاً. وبدا الدم يفيض الى وجهه، والشرر يتطاير من عينيه .أكيد كان يخشى استشراء الضحك بين الطلاب وفقدانه قدراً من هيبته. فما كان منه إلا أن أمر ثلاثتنا بمغادرة الفصل . فخرجنا ونحن نكتكت من الضحك. التقينا نفراً من زملاء الفصل بعد انتهاء الحصة في ميدان الاجتماع وهم في شوق لمعرفة الأمر. فانبرى الأخ "ل أ ظ" وقصّ على من وقفوا حولنا القصه في اقتضاب قبل أن يعتلي المستر بروان المسرح . الغريب، وما كان مدهشا لنا فعلاً، أن الخواجة هولت لم يطلب حضورنا لمقابلته أثناء الاجتماع أو بعده. ولكن جاءنا طلب الحضور في الحصة الرابعة من الأستاذ حامد محمد الأمين (أبو الفصل) الذي كان يقيم في مكتب شعبة الجغرافيا. هدأت أعصابنا قليلا طالما الحكاية انتقلت إلى يدىّ الأستاذ حامد. عند نهاية الحصة الخامسة توجهنا إلى مكتب معلمي الجغرافيا حيث وجدنا الأستاذ ينتظرنا عند المدخل. فأمرنا بمتابعته وعلى وجهه الصبوح تعبيسة قلما عهدناها تدوم أو تبقى إلا لفترات قصار. تقدمَنا نحو مكتب "الأريكة" وتبعناه، ثم بدأ وفي حزم يرسل إلى مسامعنا الغليظ من عبارات اللوم والتأنيب. وأنه قد خاب ظنه في أشخاصنا لما جاءه تقرير شفهي مباشرة بعد انتهاء اجتماع اليوم . لم نتمالك انفسنا مرة أخرى وصرنا في محاولة كتمان الضحك من جديد. عندها أدرك الأستاذ حامد أن في الأمر سراً فتوقفت عباراته، وانفرجت أساريره بعض الشىء، مما أغرانا بالضحك الذي تزايد عندما رأينا من خلال باب النملية "رابعنا" الأخ م. يروح ويغدو على طول البرندة خارج المكتب. وفي أنفاس لاهثة بدأ الأخ ل ا ظ يقص على الأستاذ حامد تفاصيل ما حدث دون حياء أو خجل ، فانفجر الأستاذ حامد ذات نفسه ضاحكاً حتى فاضت عيناه وكاد أن يقع على الكنبة . وانتهى الأمر أن طلب الأستاذ حامد من ثلاثتنا المطرودين أن نذهب فوراً إلى المسترهولت في مكتبه وتقديم الاعتذار له عساه ألا يضمر في نفسه مما قد يضر بنا في لاحق الأيام. الأستاذ حامد كان خير من خبر شخصية المستر هولت ( صاحب الذاكرة الحديدية التى لا تنسى وتظل تحتفظ بالكثير الخطر). فقد جمعت بينهما داخلية على دينار التى كان الخواجه تيوترا لها وحامد "هاوسماسترا" فيها . عجبت أن المستر هولت ظل يحتفظ في ذاكرته بتلك الحادثة . لقيته عام 1954 في كلية الخرطوم الجامعية خلال عمله في مكتب السكرتير الإداري مشرفاً على مستودع وثائق الإدارة البريطانية. وكان حينها يقدم بعض المحاضرات لطلاب السنة النهائية في كلية الآداب عن تاريخ بريطانيا الاجتماعي والاقتصادي نيابة عن المستر "ولشر" مدير الكليه أثناء بعض فترات غيابه. ولعل المستر هولت قد التقى بالمرحوم محمد إبراهيم أبو سليم وهو في عامه الأخير في ذلك العام دارساً لتلك المادة. التقانى هولت ذات صباح باكر في ردهات الجناح الغربي من مبنى الكلية الرئيسىي ،وما كنت أتوقع أن تكون ذاكرته لاتزال تختزن اسمى ناهيك عن تذكار تلك الحادثة وطرده إيانا. ففاجأنى سائلاً إن كنت لا أزال أضحك داخل قاعات المحاضرات مع زملائي. Salawi: Are you still laughing with your colleagues inside the lecture room? Are they here the UK too? فأجبته وأنا أسارع بالابتعاد عنه أن ذلك كنا من نزق الصبا. على الرغم من أن المستر هولت كان على معرفة تامة باللغة العربية – فصحى ودارجة –إلا أنه لم يُسمع وهو يتحدثها إطلاقا. فقد كان الوحيد من معلمي حنتوب البريطانيين الذى تمكن من اجتياز امتحان اللغة العربيه الذي كان يتولى مكتب السكرتير الإداري إعداده والإشراف على تقديمه للموظفين البريطانيين. فقد كان اجتيازه بنجاح واحداً من معايير الترقي وشغل الوظائف العليا في سلك الخدمة الخاص بالبريطانيين. وقد كان إلمام المستر هولت الواسع باللغة العربية عاملاً مساعداً على اختياره مشرفًا على قسم الأرشيف في بداية عهد إنشائه في مكتب السكرتير الإداري، سير جيمس رويرتسون، الذى كان يجيد العربية الفصحى والسودانية الدارجة بلهجاتها المحلية المتعددة التي تعلمها من مصادرها في مختلف مراكز مديريات البلاد إلى عمل فيها قبل اختياره لشغل منصب السكرتير الإداري بعد وفاة سيردوقلاس نيوبولد في عام 1945.