استغربَ الكثيرون من مُراقبي الشأن السياسي السوداني، داخل السودان وخارجه، من تأخر الشيخ الدكتور حسن عبد الله دفعُ الله الترابي في القيام بزيارة إلى الإمام السيد الصادق الصديق المهدي رئيس حزب الأمة القومي في محبسه بسجن كوبر، ظناً منهم – وإن بعضَ الظنِّ أثمٌ – أنه غير راغبٍ في الزيارة أو متباطئ فيها، بينما قليل من الذين يعلمون بعضاً من طرائق تفكير الشيخ، لم يستغربوا تأخر الزيارة، ولم يندهشوا من حدوثها يوم الثلاثاء الماضي. وأحسبُ أنه من الضّروري أن نبسطَ القولَ حول هذه الزيارة، ونقفُ متأملين بعض أشراطها، ومحللين شرائطها. في ظني – وليس كلُّ الظنِّ إثماً - أن الشيخ الدكتور حسن الترابي، تأخر في زيارة الإمام السيد الصادق المهدي قصداً، في غير رغبةٍ للتأخر، ولكن تحوطاً وحذراً من تفاسير تهمل القريب وتُعنى بالبعيد، وتثيرُ الكثير من الجدل، والمثيرُ من التساؤلات، حول سرعة الزيارة ومسارعة الزّائر. ومن بين هذه التفاسير الذي خشيَ الشيخُ الترابي أن يعمد عليها بعضُ المحللين وجمهرة من المعلقين، من أنّها زيارة تؤكد ظنون بعضهم من أن الدكتور الترابي عادت إليه الهيبة السلطوية، وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من سلطانٍ غاب عنه ردحاً من الزمن، وهيبة سلطوية غابت عنه حيناً من الدّهر، ولكن مع كل ذلك، حافظ الشيخ الدكتور الترابي على كاريزما طاغية، وشخصية نافذة، حتى أن بعضَ خصومه من داعمي ذي الشوكة والسلطان، كانت كلما اشتدت عليهم الخطوب، ذكروا أنّهم فقدوا ألمعيته، وجسارة قراراته، وبُعد نظره، ولا أحسبُ أن يتناطح في ذلك عنزتان. لعلَّ لهذا السبب، حرص الدكتور الترابي على التأخر في زيارة الإمام بمحبسه، على الرُّغم من أن وفداً من حزبه "المؤتمر الشعبي"، كان في تقدمة زائري الإمام في اعتقاله بكوبر. ولا يساورني أدنى ريبٍ، أنّهم حملوا في هذه الزيارة بعضاً من مواساة الشيخ للإمام، وتحريضه على الصّبر والاصطبار، بحُجية أن ما هو فيه من الابتلاءات العارضة، التي تتطلب إحداث قدرٍ من المُراجعات والمُفاهمات، أكثر من الغضب والمُغاضبة التي تزيغ الفكر عن صواب المواقف، وجادة الحق. أمّا السبب الثاني في تأخر الشّيخ عن زيارة الإمام في محبسه إلى بضعة أيام، أحسبُ أنّه لم يكن يرغب في أن تُفهم المسارعة إلى الزيارة، بأن دافعها أواصر القُربى بالمُصاهرة - ولا عيب في ذلك - فتكون زيارة أسرية اجتماعية تخلو من ظلالات سياسية، وهذا في اعتقادي لا يرغب الشيخ أن تُحسب كذلك. وفي رأيي الخاص، أنّ الدكتور حسن الترابي أراد أن يجمع بهذه الزيارة الحُسنيين، أن تكون زيارة في إطار الواجب الاجتماعي، تأكيداً لأواصر القُربى بالمُصاهرة، وإن جاءت هذه الزيارة متأخرة، فينبغي أن ندكر أنه سارع بالزيارة إلى أسرة السيد الصادق المهدي في منزلهم بحي الملازمين في أم درمان عقب توقيفه، للاطمئنان عليهم والعمل على تسكين روعهم من اعتقال رب الأسرة. وفي الوقت نفسه، رغب أن تكون هذه الزيارة ذات مضامين سياسية، يتبادل فيها بعضَ الأفكار والرُّؤى مع السيد الصادق المهدي. فلا غَرْوَ أن حرص الشيخ الترابي على الانفراد بالسيد الصادق المهدي، حيث دار بينهما حديثٌ استغرق أكثر من ساعة. وفي يقيني أن جُلَّ هذا الحديث، تركز في بعض مطلوبات الحوار الوطني، ولا شك عندي، أن يكون الدكتور الترابي قد أمَّن في حديثه سعيه الدؤوب لإطلاق سراحه للمضي قُدماً بالتّشاور والتفاكر حول الحوار الوطني، لمُعالجة الوضع السياسي الراهن المأزوم، ومن يعرف طرائق تفكير الشيخ، يعلم أنّه في هذه الظروف والمُلابسات يميل إلى الصّراحة والوضوح، والمُعاتبة في غير خُشونةٍ، وغير حضور شهودٍ، من باب الدين النصيحة. وفي الوقت ذاته، يُحسن الاستماع، ويُجيد الإنصات، ليحمل جملة أفكار ورؤى لمعالجة الموقف الراهن. أخلصُ إلى أنني استميحُ الشيخ الترابي عُذراً في التعليق على خبايا وخفايا لقائه بالسيد الصادق المهدي اجتهاداً، كالمجتهد الذي يعمل جاهداً على بلوغ الأجرين، وذلك إذا ما أصاب في اجتهاده، ولكن هنالك جملة مؤشرات تُسهم في إصابة الاجتهاد، من ذلك أحسب أنّ الشيخ تحدث للإمام، معاتباً أنّه ما كان أن يُجاهر بما جاهر به عن قوات الدعم السريع، إذا لم يفكر في الكسب السياسي العاجل، إذ أن ما بينه وبين مؤسسة الرئاسة ودٌّ موصول، وعلائق غير منكورة، كانت تمكنه من إبداء بعض هذه الملاحيظ، دون تحمل عناء الجهر بها في التجمعات الجماهيرية، والتّصريحات الصحافية. وأعتقدُ - أيضاً - أنّه هدف عبر هذه الزيارة إلى اختبار إمكانية نجاحه في وساطة بين السيد الصادق المهدي ومؤسسة الرئاسة. ولأنّه فقيهٌ متمكنٌ في فهم القوانين والدّساتير، يعلم علم اليقين، أنّ هذا الأمر لا يمكن حسمه عن طريق فقرة في القانون الجنائي السوداني لعام 1990، تمنح حق إطلاق سراح السيد الصادق المهدي لوزير العدل، بل هو في اعتقادي يرى من مرئياته، أن إغلاق هذا الملف لن يكون إلا عبر مؤسسة الرئاسة، علناً كان أم تلميحاً. وفي خواتيم هذه العُجالة، حرصتُ على هذه الاجتهادات لفك طلاسم لقاء الشيخ بالإمام يوم الثلاثاء الماضي، لعلمي أنّ كليهما حريصان على الحوار الوطني، والعمل على تفادي وأده في مهده، وأن الضمانة الأكيدة لتسريع خُطى الحوار الوطني، تتمثل في تقارب الرُّؤى والأفكار بين الحزبين، حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي، فلذلك كان اللقاءُ يهدف إلى ذلك. وحرص الشيخ على تحصين هذا التقارب، بتسريع خطوات إطلاق سراح السيد الصادق المهدي، ومن ثم تجتهد الأحزاب والقوى السياسية، بما فيها المؤتمر الوطني في تفعيل الحوار الوطني، وجعل انعقاده وشيكاً، والأمل فيه كبيراً. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". وقول أمير الشعراء، أحمد بك شوقي: وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ