يأتينا شهر رمضان المعظم هذا العام في "عزّ" صيف السودان اللاهب بحرارته، و"سَمُومه"، وعواصفه الرملية، وفي ظروف سياسية واقتصاديه صعبة تجعل من الصوم فرصة لنيل الأجر والثواب المُضاغف، وربما للإستشهاد عطشا. ذكّرني صديق عزيز، ونحن على أبواب رمضان صائف، بما قاله الأدروب في أول يوم لرمضان مماثل، وقد دخل سوق كسلا جاف الحلق والشفاه من العطش، زائغ العينين، مُزلزل الكيان من "الخَرَم" للتمباك والقهوة: "الله ينعل التكارين! جابوا لينا رمضان والأذان!" – ولو قالها هذه الأيام لأضاف: "... ودخلوا السوق!" يُخيل لي أحيانا أننا من أكثر شعوب الأرض "جِرْسَة" من الصيام في الصيف (ربما بسبب الطروف المناخية القاسية والابتلاءات الأخرى). يأتي اليوم الأول ليشهد تبدلا عاما في السلوك. "يلبس" الجميع – إلا من رحم ربك – الوجوه المُكفهرّة، و"ضيق الخُلق"، وتكثر الشجارات، وتعلو الأصوات، وتخف وتيرة العمل، ويلوذ الجميع بظل ظليل، إن وُجِد، أو مسجد مُكيّف الهواء، أو يمكثون في مقار عملهم بعد ساعات العمل للاستفادة من التكييف المجاني في ظل ارتفاع أسعار الكهرباء وقلة المداخيل. ينشط سوق "المساويك"، ويكثر البصق (دون سبب)، ويحبس الجميع أنفاسهم في انتظار مغيب الشمس. آخر رمضان صائف أذكره كان في قريتي نوري قبل سنوات طويلة. وتشتهر نوري، وقُرى الشمال النيلي المماثلة، رغم غابات النخيل التي تُظللها (وربما بسبب هذه الغابات)، بحرّها الخانق، خاصة في يوليو وأغسطس وسبتمبر، شهور نُضح التمور. وحينما يُصادف رمضان هذه الفترة، يلجأ الناس إلى حيل مبتكرة لاحتمال الصيام والتغلب على العطش وفقدان السوائل المُصاحب له، على راسها السباحة في النيل والبقاء فيه لأطول مدة ممكنة خلال ساعات النهار، وبلْ الثياب القطنية (البنغالي) بالماء وتغطية الجسد بها (والتي تجفّ عادة قبل أن يرتد إليك طرفك!)، ووسائل أخرى مثل تحديد الحركة والبقاء في الظل ما أمكن. يُجاهد الجميع لإكمال اليوم دون خسائر جسيمة، وقبل مغيب الشمس بدقائق، يحمل الجميع "صوانيهم" للإنضمام للآخرين في "الدرب الوسطاني" الذي يخترق القرية. يجلسون على الحصائر "البروش" وقد هدّهم الصهد والجفاف في انتظار المغيب. كان افطار رمضان يتكون في تلك الأيام فقط من "بليلة" اللوبيا (يعلوها الشمار والبصل وبضع تميرات تبقت من الموسم السابق)، وسلطانيتين (كوريتين) من الطلس عليها أهلّة ملونة وتصاميم بدائية، و"رمضان كريم" بخط متعرج، تحتوي إحداهما على عصير ليمون فاتر (قبل اختراع الثلج)، واتحتوي الأخرى عهلى عصير "آبري" من نفس درجة الحرارة (والحلاوة). بعد صلاة المغرب، يأكل الجميع البليلة في صمت، وقد يشرب واحد أو أكثر "مرقتها" المالحة، ثم تدور سلطانية الليمون على الحاضرين، كبارا وصغارا، يرتشفون منها ما تيسر، تتلوها سلطانية "الآبري" وفق نفس التدريب، تتابعها العيون القلقة خشية القسمة "الضّيزى" في الشهر الحرام! وكانت وجبة السحور أمرا مهما في تلك الأيام (ربما لمحدودية وجبة الإفطار)، ينهض لها في حوالي الثانية صباحا أهل البيت جميعا، كبارا وصغارا، وتُشعل لها النيران. وكانت الوجبة تُصنع من دقيق القمح وتُسمى، إن لم تخنّي الذاكرة، "الصنوعية"، ولعلها كانت تُخبز بالدفن في الرماد الساخن، وتؤكل مع اللبن الحليب. وهي وجبة "ثقيلة" تشد من أزرك خلال نهار رمضان الطويل المُنهك، يتلوها الشاي بالحليب الذي كان فاكهتنا صباحا ومساء. لكم تغير السودان منذ تلك الأيام! كان الناس في السودان القديم يستقبلون شهر رمضان بفرحة حقيقية رغم شظف العيش وخشونته وعنت الصيام؛ يصومون "إيمانا واحتسابا" دون ضجة و"موائد رمصان" ومسلسلات، ويصلّون صلواتهم وتراوحيهم دون ضجة وإشهار وتخيّر بين مساجد الله. "نوستاجيا (حنين إلى الماضي)؟" تقول مستنكرا. أقول لك دون تردد: " ولمَ لا؟ الحاضر قاتم، والمستقبل مُظلم. لم يبق لنا إلا التعلق بالأيام الطيبة، ويقين لا يتزعزع بأن الأحوال غير الطبيعية (مثل حالنا منذ عام 1989)، قد تستمر، ولكنها قطعاً لا تدوم". رمضان كريم، وكل عام والجميع بخير!