رغم خروج غانا وساحل العاج من دور المجموعات في كأس العالم بعد أداء مشرف، وخروج الجزائر ونيجيريا في دور ال16 بعد أداء بطولي، أرجح فوز الأفارقة بكأس العالم هذا العام، وربما في عام في موسكو 2018 وفي قطر عام 2022(إن هدأت الضجة حول مسالة الفساد في اختيار هاتين المدينتين)! كيف يتأتى ذلك وقد خرجت البلدان الافريقية من المنافسة قبل دور الثمانية؟ تسألني في دهشة وبعض استنكار. نعم، أقول لك، ولكن الافارقة لم يخرجوا منها. تمعن في الفرق "الناجية" – البرازيل، ألمانيا، هولنداوالأرجنتين – تجد الافارقة في ثلاثة منها: البرازيلوألمانياوهولندا. وفي حقيقة الأمر، يشكل اللاعبون من أصول افريقية 50 في المائة من معظم الفرق الأوربية واللاتينية، وربما اكثر من هذه النسبة في بعض الأحيان مثلما هو الحال في فرق فرنسا وانجلترا، في أوروبا، وكولومبيا واكوادور وبنما، في أمريكا الجنوبية والوسطى. وقد تكون قد لاحظت ازدياد عدد اللاعبين من الأصول الأفريقية في معظم الفرق حتى تلك التي تبدو عصية على اشتمال وجوه سوداء وسمراء بين لاعبيها مثل سويسرا وإيطاليا وألمانيا والسويد. وعليه ارجح فوز الافارقة بكأس العالم لعام 2014 بنسبة 75 في المائة وذلك لوجودهم في ثلاثة من البلدان التي تأهلت للدور نصف النهائي الذي بدا وانا اكتب هذا المقال! يقال ان التاريخ يعيد نفسه، وربما يعيدها اكثر من مرة. انظر إلى الهجرات (الطوعية والقسرية) للافارقة منذ فجر التاريخ تجد انها تمت في ثلاث موجات كبرى تفصل بينها أحيانا الاف السنين. يقول علماء اصل الإنسان ان البشرية نشات في سهول السافانا الأفريقية، ثم هاجر البعض (في الموجة الأولى) إلى أوروبا واسيا، ثم إلى الأمريكيتين عن طريق ألاسكا، والى أستراليا وجزر الاوقيانوس لاحقا. اما موجة الهجرة الافريقية الكبرى الثانية (والقسرية) فقد تمت اثناء تجارة (أو قل جريمة) تجارة الرق الأوربية عبر المحيط الاطلنطي عقب اكتشاف " الأراضي الجديدة" في الأمريكتين والحاجة لليد العاملة الرخيصة (أو قل المجانية) لمزارع قصب السكر والقطن في جنوبالولاياتالمتحدة وحوض الكاريبي (البرازيل وغيانا وكولومبيا وبنما والسلفادور وكوستاريكا واكوادور إلى حد ما). وقد كانت افريقيا، وخاصة ساحلها الغربي وخليج غينيا، المصدر الرئيسي لرقيق الأميركيتين منذ بدايت القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر (رغم تحريم تجارة الرق في أوروبا لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها الان). اما الموجة الثالثة الهجرات الأفريقية إلى شتى بقاع العالم، وخاصة إلى بلدان أوروبا الغربية الكبرى، فقد جاءت نتاجا للاستعمار الأوروبي لبلدان افريقيا منذ القرن التاسع عشر، وظن الامبراطوريات الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا)، والمتوسطة (بلجيكاوهولندا والبرتغال وإسبانيا) والصغرى (إيطاليا) انها خالدة لا تغيب عنها الشمس مما جعل إعطاء جنسياتها لسكان مستعمراتها امرا بدهيا . وعقب استقلال هذه المستعمرات، توالت الهجرات الأفريقية إلى بلدان أوروبا كأيادي عاملة رخيصة، وطلاب للعلم، وربما للحرية التي لم تتوفر في المستعمرات. وحين ضاق الحال بالافارقة بعد الاستقلال نتيجة للأزمات السياسية والاقتصادية والبيئية في بلدانهم، نشطت الهجرة إلى بلدان أوروبا إلى أن ضاق أهلها بمن ظنوهم اخوتهم في المواطنة حينا من الدهر، فاوصدوا أبوابهم دون هذا المد المتزايد من المهاجرين الذين يدفعهم اليأس إلى ركوب المخاطر للوصول إلى الشواطئ الأوروبية وغيرها. كرة القدم في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وأماكن أخرى كثيرة، مثل كرة السلة في الولاياتالمتحدة، هي بوابة الفقراء والمهمشين وسكان العشوائيات والأحياء الشعبية إلى النجاح المادي والاجتماعي والخروج من مصيدة الفقر والجريمة وسوء المنقلب. لذلك نجد ان معظم مشاهير لاعبي كرة القدم قدموا من مثل هذه الخلفيات التي تعاني من الظلامات التاريخية، ومن العنصرية أو التهميش ومن الفقر أو انسداد الآفاق لغياب التعليم أو بؤس مستواه، مما يفسر تفوق أبناء المهاجرين الأفارقة في كرة القدم، أو تفوق الأمريكيين من أصول افريقية في كرة السلة، أو تفوق ذوي الأصول الأفريقية في كرة القدم في بلدان أمريكا الوسطى وحوض الكاريبي – اضافة لشباب الأحياء الفقيرة من البيض في مدن الأميركيتين وغرب أوروبا. غير ان المثير للانتباه – والعجب – في كل ذلك هو انه رغم اعتماد بعض البلدان والفرق على اللاعبين ذوي الأصول الأفريقية، لم تخفت حدة التفرقة والنظرة العنصرية لهؤلاء النجوم، مما جعل "الفيفا" تخصص يوما خاصا وجهدا مستمرا لمحاربة العنصرية بتبني شعار "لا للعنصرية" اثناء منافسات كأس العالم وخلال المنافسات الوطنية، وما زال "سوبر ماريو"، الايطالي من أصول غانية، وجوهرة الفريق الايطالي، يواجه بإلقاء الموز في ملاعب بلاده، وما زال ملاك أندية كرة السلة الكبرى من أمثال دونالد ستيرلنق، مالك نادي لوس أنجلوس كلبرز، ينظرون إلى نجوم كرة السلة السود، عماد هذة الرياضة في أمريكا، ومصدر أرباح الأندية، نظرتهم إلى أسلافهم الرقيق في حقول القطن في ولايات جنوبالولاياتالمتحدة! بخروج إخواننا في البرازيل من المنافسة، نسال الله ان يجعل الكأس من نصيب إخواننا في الفريق الهولندي (30 في المائة أفارقة)، او من نصيب فريق ألمانيا (20 في المائة أفارقة)، وألا يجعله من نصيب الأرجنتين التي هي بيضاء من غير سوء! قال وزير خارجية الأرجنتين في الثمانينيات من القرن الماضي حين سئل عن سبب امتناعهم عن الانضمام لحركة عدم الانحياز: "انهم ليسوا بيضا ولا مسيحيين! (They are neither white nor Christian)" وما جانبه الصواب فيما قال وإن افتقد الحكمة والكياسة والسياسة، إذ اضطرت الأرجنتين لخطب ود حركة عدم الانحياز بعد هزيمتها في حرب جزر الفولكلاند/مالفيناس، تستنصر بها في معاركها الدبلوماسية ضد بريطانيا. وانا اختم هذا المقال، توكزني عيني الثالثة، قاتلها الله، وتذكرني بالمثل السوداني: "الجمل لا يرى اعوجاج عنقه – الجمل ما بشوف عوجة رقبتو"! نحن، معشر السودانيين، نرى العنصرية في الآخرين، ندين مصدرها ونتعاطف مع ضحاياها، ثم لا نلبث ان نمارسها ضد اخوتنا في الوطن والدين والانسانية! /////////