القوة المشتركة تكشف عن مشاركة مرتزقة من عدة دول في هجوم الفاشر    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. حسناء أثيوبية تشعل حفل غنائي بأحد النوادي الليلية بفواصل من الرقص و"الزغاريد" السودانية    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اللجنة العليا لطوارئ الخريف بكسلا تؤكد أهمية الاستعداد لمواجهة الطوارئ    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حنتوب الجميلة .. بقلم: الأستاذ الطيب السلاوي
نشر في سودانيل يوم 14 - 07 - 2014

الأستاذ عبد الحليم على طه: يا قمم الجبال يا في الكهوف إضارو
فى العاشرة إلا ربعا من صباح الخميس الثالث من فبراير 1949 كان لقاؤنا ألأول بالأستاذ عيد الحليم على طه فى داخل قاعة الأجتماعات الكبرى التي أدينا فيها قبل ثلاثة أشهر امتحانات الدخول للمدارس الثانويه. وأصبح الجزء لشرقى منها مقرا لفصلنا (اولى كولمبس).
عبد الحليم أقرب إلى قصر فى القامة فى ترابط وتماسك بدنى جلى. جاءنا يلبس الرداء القصير ولكنه طويل اذ يتدلى الى تحت ركبتيه ويكاد يلتصق بالجوارب الطويله ذات اللون الكاكى التى كانت تغطى منه الساقين. وينتعل حذاءا جلدياً بنى لونه ذى رباط. كان لقميصه الابيض اللون باكمامه القصيرة- والجزء الاسفل منه بطبيعة الحال محشوا داخل الرداء- تكامل مع ما كان قد علا رأسه من بياض شعر تناثر هنا وتجمع هناك فى تناسق وتوازن مع لون بشرته الأسمر. وما كان علي خديه من شلوخ "مطارق"زانته وزادته هيبة وهو يخطو فى تؤدة ووقار نحو تربيزة المعلم. وما أن حيانا مرحبا بنا سألنا : منو فيكم وانتو داخلين: القال :أهو دا "اهات"جايى عليكم .عجبنا كيف أنه تمكن من سماع تلك العباره الى وردت عن أحد الزملاء لم نتبين من كان قائلها، ولم نعرها انتباها، أو ندرى ماذا كان يعنى الزميل بكلمة"أهات". وران منا صمت لثوان قلائل ولكن الأمر تبين لنا .حالما اوضحا الأستاذ ان ال "اهات" كانت هى عبارة عن الأحرف الأنجليزية ألاولى من اسمه "عبد الحليم على طه". وسرعان ما بادر زميل آخرمن الصفوف الخلفية متسائلاً: "يعنى اخو الوزير عبد الرحمن على طه ؟ ابتسم ألأستاذ ورد قائلا "لا هو أخوى انا"!!
من تعليق الأستاذ وما تبعه من احاديث تبادلها مع الغالبية العظمى من رفاق دربنا في تلك الحصة، وبمرور الأيام بدأت تتضح لنا معالم شخصية الأستاذ الجليل. وتبين لنا صدق وصحة كثير مما سجله الدكتور موسى عبدالله حامدعنه فى ثلاثية ذكرياته عن خورطقت التى انتقل اليها الأستاذ فى مطلع 1950عند افتتاحها نائبا للناظرالنصرى حمزه. من بين ما وصفه به الدكتور موسى أن أستاذنا عبد الحليم "واقع من السما سبع مرات"(بدون ما يتعوّر على حد قول أبناء بمبه وبلغة شباب السودان فى هذا الزمان فهو"ناقش وتفتيحه") وعلى قدر وفيرمن الذكاء وقوة الملاحظه والاستشعارمن البعد فى دهاء ومكر وقدرة فائقة على التلاعب بالالفاظ. فيما تبقى من حصة ذلك الصباح ألأغر ظل الأستاذ يتجول بين الصفوف يتفحص الوجوه. وكلما أفصح كل منا عن اسمه، ومن أى الفيافى والقفار جاء، كان هو فى سعى لربط الوجوه بالأسماء حسب خريطة جلوسنا. واثناء سرد كل طالب معرفا بنفسه واهله كان الأستاذ يسائله هنا وهناك إن كان لاسم الوالد او الجد بريق أو شهرة فى المجتمع. ويتواصل "الانترفيو" على الهواء مباشرة حينما يلقى الأستاذ على مسمعنا مما عرفه عن أهل الطالب رافعا من قدرهم مشيدا بما عرفوا به من جميل الخصال والشمايل، مختتما أحاديثه بأمله ان يكون الطالب قد ورث من صفات اهله ما يجعله عنوانا لهم ومثلا يحتذى به بين زملائه. ربما كان ذلك النهج هو ما سار عليه أهل السودان عامة، ومعلمو ذلك الزمان خاصه الذين حرص أغلبهم على معرفة خلفيات طلابهم الأسرية والثقافيه من بدايات لقائهم بهم .وقد لمسنا ذلك النهج عند الأستاذ عبد المنعم فهمى الذى كان يتولى مهام أمين المدرسه (البيرسر) مع تدريس حصص الجمباز الصباحى واللغة الأنجليزيه لطلاب السنتين ألأولى والثانيه. فقد أكمل الأستاذان عبد الحليم وعبد المنعم فهمى ورفاق دربهما: الأساتذة احمد المرضى جباره و حسن على كرار و عبد الباقى الخضر وبشرى عبد الرحمن المقبول دراستهما فى قسم المعلمين بكلية غردون فى ديسمبر . 1928وتم ابتعاث ألأستاذ عبد الحليم فى لاحق من الزمان الى الجامعة الأمريكية فى بيروت حيث حصل على شهادة البكلاريوس. وعاد معلما للجغرافيا فى كلية غردون لتحظى به حنتوب لما انبرت من عرينها عام ،1946 ومن ثم خورطقت فى عام 1950 نائبا للناظر فيها.
فى نهاية ذلك اللقاء الأول طلب الأستاذ منا الإبقاء على خريطة جلوسنا قى قاعة الأجتماعات بأن يتخذ كل واحد منا موقعه الذي وجدنا جالسا فيه مقراً دائما ومقاما له اثناء حصص الجغرافيا الأسبوعيه الثلاث. وحجته كما قال قبل مغادرته القاعه فى بنهاية الحصه أنه "اعتاد على تثبيت ذهنه على خريطة جلوس الطلاب حسبما يلقاهم عليها من أول كل عام دراسى". وبما أن فكرة تجربة "الفلوتنق كلاسز"كانت تجربة جديدة، وكان الأستاذ عبد الحليم من غير المتحمسين لمتابعة تنقل الطلاب من فصل الى آخر. ولعل الأستاذ أراد من لقائئا به فى القاعه تقليل "المساسقه" وراء فصلين (كما قال ) طوال النهار. وجاء عنه فى احدى تجلياته ان التدريس فى القاعة الفسيحه المتعددة النوافذ يجعله يحس بالبراح والأنطلاق لاتساعها وخلوها مما كانت تزخر به غرفة الحغرافيا من "الهتش" (خرائط وكتب وأطالس) لم يكن ه وفى حاجة اليها زى مستر ماكبين وهاشم افندى ضيف الله. وقد ورد اسم الأخير فى المقامه الحنتوبيه التى القاها الأستاذ عبد الحليم، الذي عرف بالشعر الساخر في جيله، فى مساء يوم الأباء عام 1949 بقوله عنه "حت ود ضيف لملم خمامو وجانى" بحسبان أن هاشم افندى ضيف الله جاء حنتوب أساسا معلما للغه الانجليزيه. كما كان للاستاذ عبد الحليم رأي سالب في وجود المصاطب فى الفصول امام السبوره لأنها ( فى رايه) تقلل من فرصة تجوال المعلم داخل الفصل. كما انه لا يحب ان ينظر الى طلابه (وهم اولاده) من عل ويفضل القرب منهم ما امكن ذلك.
سعدنا فى ذلك العام بجلوسنا الى حلقا ت درس الأستاذ عبد الحليم وهو يحدثنا عن السودان وعن أهله وهم يمارسون شتى انماط أعمالهم اليوميه (ليس على نهج سبل كسب العيش فى السودان) بطريقة "جعلتنا كأننا نعيش بينهم بما كان يستخدمه من لغة سهلة وانسياب مفردات وتسلسل منطقى وخفة روح تتخللها تعليقاته الذكية الممراحه وهى تتبدى من وراء حزمه البيّن" دون ان يفتر منه ثغر او ابتسام. كان يتخذ الأسلوب القصصى فى قدر من التفصيل غير الممل. ويجنح أحيانا إلى التمثيل وتقليد من سبق له بهم اللقاء فى مختلف انحاء السودان دون ان يذكر اسماءهم من اجل تبيان فكرة أو على سبيل الدعابه.
وصف الدكتور موسى فى ثلاثية خور طقت أستاذنا الجليل وهو يدرس جغرافية السودان بقوله" كان الاستاذ يحملنا الى أجواف المجتمع الذى هو موضوع الدرس ولا يغادرنا إلا ونحن (ناشقون) بأخيلتنا مع الكبابيش أو قبائل البقاره أو ظاعنون مع عربان بحر أبيض او بحر أزرق نبتغى بمواشينا التى تصم الآذان خوارا ورغاء وثغاء حقول الكلأ وبيادر الغلال ومناهل السقيا ومساقط رحمات المياه.وكان لا ينفك يقص علينا من نوادر البسطاء وطرائفهم ما يشحن الأذهان ويخصب الخيال ويعين على استلهام الصبر فى مواجهة مشاق الحياة. حتى إذا أعيانا المسير غلب عليه الرفق بعقول طلابه فيحط بهم عند فريق من "فرقان العرب للراحة من رهق حثيث الظعن وطويل السفر والتجوال.ثم صعد من آخر الفصل أو من أحد جنباته الى مقدمته حيث منضدة المعلم ونفض يده مبتسما مما كان قدعلق بها من بقايا الطباشير موافيا بذلك رنات الجرس إيذانا بنهاية الحصه"..أليس فى الجلوس الى حلقات الأستاذ، وبما وصفه الدكتور موسى لتدريسه، سحر يؤثر!
ألأستاذ عبد الحليم كان تيوترا لداخلية "المك نمر"(سكانها من الطلاب كانوا يعتبرونها الداخليه "السينير" (الكبرى) لبروز شخصية تيوترها الأستاذ عبد الحليم بين "التيوترز"السودانيين وألإنجليز. عرفنا فى لاحق من الزمان ان الأستاذ عبد الحليم كان دائم الحديث فى إصرار على ضرورة وأهمية إسناد مهام "التيوتر" الى السودانيين حالما ينتقل أى من التيوترز الأجانب من حنتوب. وجدت أحاديثه النجاح إذ تواصل تكليف المعلمين السودانيين بأعباء الإشراف على الداخليات عندما أسندت المهام الى "الشيخ الخاتم" تيوترا لداخلية أبو عنجه بعد نقل مستر هوبسون الى بخت الرضا فى مايو 1949.فكان أول الشيوخ ألأكابر تسند اليه تلك المهام ليتولاها من بعده الأستاذ عبد المنعم فهمى (أمين المدرسه وبيرسرها ودفعة الأستاذ عبد الحليم عند التخرج فى كلية غردون) على داخلية ود ضيف الله خلفا للأستاذ محى الدين ابو النجا (معلم الرياضيات) المصرى الجنسيه فى نهاية1949. وكان ثالثهما الشيخ اسماعيل ابو القاسم على داخلية "دقنه" عند انتقال الأستاذ امين زيدان نائباً لناظر وادى سيدنا. ومن بعدهم كان الأستاذ احمد النمر على داخلية النجومى خلفا للخواجه أدوارد قوردون. جاءنا ممن سبقونا الدراسة فى الصرح الشامخ أن كان للاستاذ عبد الحليم تعليق فى بدايةعام 1949عندما تم اسناد مهام الأشراف على داخليتى "ابو لكيلك وعلى دينار (اللتين تم بناؤهما لأستيعاب العدد الإضافى من الطلاب المقبولين فى حنتوب فى بداية العام الدراسى 1949) للأستاذ أحمد ابوبكر ابراهيم المصرى الجنسيه(ابو لكيلك) والمستر هولت البريطانى الجنسيه (على دينار) أن قال" لمتين نحن الحكم الثنائى دا متابعنا كمان فى تربية اولادنا!
ولعل ما جاء فى قصيدته الشهيره بعنوان"أبواتى الكبار"التى القاها فى أمسية يوم الأباء عام 1949يبين مدى ثقته فى نفسه وفى المعلمين السودانيين الذين كان يرى أنهم وصلوا من المعرفه بأمورالتعليم ما يمكنهم من قيادته وتولى إدارة مؤسساته. إذ كان منهم الأستاذ النصرى حمزه زميل وابن دفعة أخيه معلم ألأجيال عبد الرحمن على طه وزير المعارف آنذاك وان لم يفصح بذلك علناً. فقد وجه حديثه بطرف خفى وفى دعابة مستترة للمستر براون مشيدا بجهده المقدر فى مجال التعليم فى السودان فأصبح من المعلمين الذين تدربوا على يديه (حيران) كثيرون بقوله:
يا التحت البرج من همتك بنقيس ... حيرانك كتار دبّر امورك وسيس
حنتوب سبحتك جر الألف يا لويس... حوّط مكتبك النصرى عندو حديس
ومن المؤكد أن كل من له صلة بحنتوب يعلم أن مكتب الناظر يقع تحت برج ساعة حنتوب. وفى الأبيات تحذير خفى للمستر براون من أن المعلمين السودانيين، وفى مقدمتهم النصرى حمزه، كانوا قد أصبحوا مؤهلين وقادرين على نظارة المدارس. فكانت خور طقت من نصيب النصرى حمزه، وانداحت وادى سيدنا الى الأستاذ عوض ساتى، لتعود حنتوب فى عام 1955 الى الأستاذ احمد بشير العبادى الذى عمل نائبا للمستر براون فى عام 1953.
حالما أعلن المستر براون فى الأجتماع المدرسى ذات صباح أغر عن سعادته لاختيار وزارة المعارف النصرى أفندي حمزه ناظرا لمدرسة خورطقت عند افتتاحها فى بداية 1950بدأت التكهنات تترى عمن سيبقى نائبا للمستر براون ومن سيصحب النصرى أفندى الى خورطقت. فكان الاستاذ السنى عباس (رئيس شعبة العلوم) والأستاذ عبدالحليم هما أطول المعلمين السودانيين العاملين فى حنتوب خدمة وأعلاهم درجة وظيفيه بين من كانوا من المرشحين للترقى لشغل منصب نائب الناظر فى حنتوب وخورطقت. وبمضى الأيام سراعا رشح نبأ اختيار الأستاذ النصرى للأستاذ عبد الحليم نائباً له من بين الذين طالتهم الترقيات. ورغم فرحة كل من كان فى حنتوب لذلك الخبر إلا أن أبناء داخلية المك نمر كانو فى نزاع نفسى عظيم بين فرحتهم لنوال الأستاذعبد الحليم الترقية الى الدرجة الاعلى المستحقة له، وبين حزنهم على بعده عنهم، الى جانب قلقهم مما تخبئه ألأيام عمن سيخلفه من المعلمين تيوترا للداخليه. و"من الأنتظار ما قتل". حزنهم كان بطبيعة الحال على سفر الأستاذ الذى خبروه معلما متمكناً وسعدوا به أباً رحيما وهاديا ومرشدا. وعرفوا عفة لسانه و"طول باله" وهدوء حديثه"الذرب المفعم بحكم أهل القرية ودقة وصفهم ونبل مقاصدهم"حسبما وصفه دكتورموسى. وزاد عنه بقوله " كان لا ينقض على الخارجين على الضوابط واللوائح المدرسيه أو المارقين عن السلوك السوى كما يفعل أغلب المعلمين وهم فى سورة غضبهم وانفعالهم بصفعة أو بكف على الوجه أو بسوط أو عصا". كانوا حزانى على إحساسهم بانقضاء أيام سعادتهم برعايته لهم وبأحاديثه الفريده وبطريقة تعامله معهم التى طالما سعدوا بها رغم ما كانوا يتلقونه منه من ساخر العتاب والتندر على كل فعل خارج عن القواعد والنظم، أو يشذعن الثوابت السلوكية. ولكن كم كان الصفاء يعود بين الأستاذ وبين مرتكبى الخطايا حالما يغادر الواحد منهم مكان المحاسبه والردع.
غادر الأستاذ عبد الحليم حنتوب الى خور طقت مواصلا عطاءه الوفير رعاية وهداية وإرشاد وشحذاً لهمم الطلاب. وقد سعد الخور الخصيب بعودته ناظرا فى عام 1954 خلفا للاستاذ النصرى بعد أن عمل مراقبا لكلية المعلمين الوسطى فى بخت الرضا لعام واحد، ليتم ترفيعه الى مساعد مدير المعارف للمديريات الجنوبية، لينتقل ( بعد ان كتبت له النجاة وهو فى جولة تفقديه لمؤسسات التعليم فى احراش الجنوب) إلى بريطانيا ملحقاً تقافيا بسفارة السودان، حيث بقى فى لندن الى عام 1958. عاد بعدها إلى السودان ليخلف الأستاذ نصر حاج على فى منصب "مدير المعارف"( منصب كان له ولمجرد ذكره على اللسان من الهيبة والمكانه قدر عظيم تناسب مكانة من تولوا مسؤولياته فى سوابق الأزمان) حينما انتقل الأستاذ نصر مديراً لجامعة الخرطوم. وواصل الأستاذ عبد الحليم قيادة العمل التعليمى فى تعاون وثيق مع صديقه الأستاذ زياده ارباب وزير المعارف الى عام 1963 حينما انتقل الأستاذ زياده الى وزارة الأشغال، وحل مكانه اللواء طلعت فريد وزيراً للمعارف، التى تم تغيير اسمها ليصبح "وزارة التربية والتعليم". ولذا كان الأستاذ زياده آخر وزير لوزارة "المعارف" والأستاذ عبد الحليم آخر من تولى وظيفة مدير "المعارف". ولكنه كان أول من شغل منصب " وكيل وزارة التربية والتعليم". وتم ترفيع درجة المدير الى درجة "وكيل" فى 1963 أسوة بوزارات المالية و الداخليه والخارجية. وما أن هل عام 1964 كان الأستاذ عبد الحليم فد بلغ السن القانونية للتقاعد بالمعاش تاركا الموقع للأستاذ التجانى على.
وقبل اسدال الستار على ما أوردته من قليل سيرة الأستاذ لا بد من الإشارة الى ما كان له من باع طويل فى نظم الشعر بأنواعه فى كل المقامات والمجالات. فذاع صيته وانتشر بين اهل السودان عامة وبين المعلمين بصفة خاصه. وأنشد فى حنتوب وعنها، وفى كل مناسبتها، ما أطرب وأبكى. وفى مجال السياسة، وعن مؤتمر الخريجين وأعضائه أفاض وأوفى. وفى مجال الأخوانيات اشتهر بمساجلاته مع صديقه محمود الفكى التى تولى الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه، ابن أخ الأستاذ، إلقاء الضو عليها فى كتاب فريد اطلق عليه اسم"بين شاعرين: مع إخوانيات عبد الحليم علي طه ومحمود الفكى" . أما ما عرفه المعلمون من شعر استاذنا الجليل فهو كثير وشائق وفيه قدر وفير من الأمتاع والمؤانسه خاصة المقامة الحنتوبية. وتناول من خلالها الشعب المدرسيه ومعلميها والمستر براون (التحت البرج ). كما ورد في بعض شذرات منها طرائف سباق الضاحيه وأسماء بعض العمال. وعلى سبيل المثال لا الحصر ورد عن شعبة الجغرافيا قوله:
ابواتى الكبار ان شاء الله تكونو لى فى العون.. فى لمح البصر حالا نلف الكون
أهل خطوه كل ساعه قالبين لون ...مرّن فى الفرات ومرّن بخوضو الرون (نهر في أوربا)
وفى مجال آخر يقول:
يا أبوهاشم تقيف تلحقنى يا الجيلانى ...حت ود ضيف هرب لملم خمامو وجانى
وعن سباق اختراق الضاحية، المنشط الرياضى الذى اشتهر فى حنتوب اكثر من رفيقتيها وادى سيدنا وخورطقت، فهو يقول:
ابواتى الكبار ما شفتهم يو جالو.. يوم سبق الشيوخ ورونا وقعة حالو
الوقف انقبض والجانا ناسى نعالو..والوقع انكسر أدّو الحصص لبدالو
وفى الخور الخصيب نظم الأستاذ الكثير من ألأشعار اشتهرت بين المعلمين ويحفظها الطلاب. نذكر منها بعض ما احتوته القصيدة التى القاها يوم افتتاح ثالث الصروح الشوامخ عطر الله ذكراها:
الخور الخصيب اتحركت اشجارو...فى ربوة كثيب اتجمعت سمارو
من بعد البيبس اترادفت امطارو...فاض نيلو وكسر أبكى الفرح بحارو
والوادى الخصيب ادانا من أزهارو... طقت هللت والخور كشف انوارو
كبرو للجهاد تغزو الجهل فى دارو..مهما كان حصين مهما بلغ درارو
مهزوم الجهل اتخاذلت انصارو..
وقال مِخاطبا طلاب المدرسه:
شمرو يا شباب احدى الصعاب اختارو... يا قمم الجبال يا فى الكهوف اضارو
ان درتو الصعود احيو المسيد بنارو.. يتضح الطريق أمل البلد فى مسارو
وكلنا أبهات والأب بحب لصغارو .. قدر حب أبوك واتفانى فى اظهارو
رد الجميل واحد على معشارو.. امنية ابوك فى شدتو واصرارو
انت تكون مثل أعلى المثل سيارو.
رحم الله أستاذ الأجيال عبد الحليم على طه فى أعلى عليين، وجعل الفردوس الأعلى مقراً له ومقاما، بين الشهداء والصديقين من أخيار المعلمين بقدر ما قدم وأعطى وبذل وهدى وأرشد. وستظل آثاره وبصماته باقيات خالدات عبر السنين فى أبعاد اللانهائيه وأغوار الأبدية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.