أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية "دينق أكوي" ... بقلم: ناجي شريف
نشر في سودانيل يوم 15 - 07 - 2014

في الطابق الرابع من بناية عالية متعددة الطوابق كانت نافذة مكتبه تطل علي أحد أكثر شوارع الخرطوم إزدحاماً بالمارة والحافلات، وكان الجو الملبد بالغيوم في ذلك الصباح يعطي إنطباعا خاطئا بأن الوقت ما زال مبكرا.. مما جعل معظم زملائه بالعمل يتأخرون عن الدوام علي غير ما أعتادوا، في ذلك اليوم..
كان يرأس أحد الأقسام الفنية في مكتب هيئة توفير المياه، تتلخص مهامهم هو وإثنان من زملائه، في متابعة شبكات الأبار الجوفية التابعة للهيئة وإدارة أعمال الصيانة والأنتاج بها.. شاءت الأقدار أن جمّعت ثلاثتهم بهذا القسم في وقت واحد.. أحدهم قد درس مراحله الجامعية في المملكة المتحدة، لكن الثاني كان قد زامله بجامعة الخرطوم وتشاركا سويا، غرفة السكن الجامعي وطاولات الطعام، وخاضا سويا قصص الغرام وويلاته، وخسرا وكسبا سويا كذلك، داخل الحرم الجامعي، مغامراتٍ وحروباً عاطفية لا هوادة فيها، ولا حصر لخسائرها الجسيمة. حيث ألتقيا لأول مرة قبل أحد عشر عاماً، وهم ينتظمون في صف الطلاب الجدد لمتابعة أجراءات التسجيل الراتبة المملة لدي العمادة بكلية الهندسة.. إلتحقا وظلا يعملان سويا بعد التخرج برئاسة الهيئة بكيلو عشرة جنوب الخرطوم. إضافة لفارق السن بينهما، والذي كان يميزه بحكمة ظاهرة إذ كان يكبر صديقه بما يقارب العامين، فقد كان متفوقاً كذلك وبقارق كبير علي "عبد المحسن"، وعلي الدفعة كلها بالكلية، في التقييم الأكاديمي عند التخرج. ثم تصادف بعد ذلك أن إنتقلا سويا قبل عام تقريبا لهذا المكتب الفني الذي تم إلحاقه للهيئة في ذاك العام نفسه.
(02)
وقف أمام النافذة المطلة علي شارع الأسفلت وأبصاره معلقةٌ بالأفق اللامتناهي أمامه، كان كأنما يحدق في المجهول بعيني نسر حادتين لا تعبآن بفواصل المسافة والزمان.. لم تعد تبدو علي محيَّاه، في الأيام الأخيرة، علامات السعادة والرضا التي تعود زملاؤه عليها طوال عهدهم به.. فقد كان محبوبا لديهم، وكانوا يكثرون من مداعبته ويعشقون الجدال معه، بالأخص فيما يتعلق بالتباينات الثقافية والعرقية وسط المجتمعات المكونة لأقاليم البلاد المختلفة.. فقد كان رغم رجاحة عقله وسعة الصدر التي طالما تميز بها، شديد الإنحياز للمجتمعات الإثنية التي تغلب عليها الدماء الأفريقية، كما أنه لا يتردد في أن يدافع عن خيارات تلك المجتمعات في تبني خيار العنف كملجأ أخير للدفاع عن نفسها وثقافاتها، وذلك لما تعانيه من تحامل وإستضعاف متعمد، وسط مجتمعات الشمال السائدة التي يغلب عليها الحنين والإنتماء للدماء العربية. فإنه لمن المفارقة والسخرية أن يتهيأ للناس مظنة أن للمعتدي الحق في تحديد مقدار وكيفية خيارات الضحية في رد العدوان.
ففي رأيه أن قطاعات من الطوائف العربية بالوسط والأقاليم تحاول جاهدة في سعي حثيث وبمساندة سافرة من السلطة المركزية، علي فرض الهوية والدين علي كافة أهل البلاد الذين يغلب عليهم التنوع الثقافي والعرقي والديني، معتمدين في سعيهم ذاك علي مبدأ السحق الثقافي، وحرق المراحل، بدلاً من الجنوح للصبر علي بلوغ مبتغاها عبر منظومة سلمية من التلاقح الثقافي السلمي بين الأعراق والثقافات علي إختلافها وتباينها. فمن المنطقي ألا يتخلي الناس طوعا عن تاريخهم وثقافتهم، هكذا دون قتال.
(03)
الظرف ذو اللون الأصفر القاتم القابع خلفه علي طاولة المكتب، والذي ناوله له الساعي منذ ساعات الصباح الأولي كان هو بداية الفراق بينه وبين "عبد المحسن"، فقد حمل الخطاب إضافة إلي إسمه المسوّد بأخطاء إملائية ظاهرة، قرار نقله للإدارة الإقليمية لهيئة توفير المياه بالإقليم الأوسط، وكانت تعليمات الخطاب تحتم عليه، خلال خمسة عشر يوما من تاريخه، أن يحزم حقائبه وأغراضه ويتوجه لمراجعة الإدارة الإقليمية في مدينة ودمدني، التي تبعد ما يقارب المائتي كيلومتر إلي الجنوب الشرقي من الخرطوم، حتي يتم من هناك إخطاره بالمحطة التالية التي تقرر أن يعمل بالإشراف عليها..
دمعتان حرتان أخذتا طريقهما عبر وجنتيه ثم سافرتا إلي الأسفل لتعبران الفراغ الشاسع الذي يفصل ما بين الطابق الرابع والرصيف الأسمنتي علي قارعة الطريق، الممتد من مدخل المبني الأرضي حتي حافة الأسفلت.. فقد حملته الذكريات خمسة وعشرون عاما إلي الوراء، حينما كان يافعا غض الإهاب، وهو يهرول ويتقافز فرحا في الصباح الباكر وسط مجموعة من أبناء قريتهم الإستوائية، خلف قطيع من الأبقار تملكها القبيلة. كانت السماء زرقاء صافية، وعلي الأرض كانت سحب الدخان المنطلقة من أكوام مخلفات الأبقار المحترقة، والتي كان قد أضرمها الرعاة لطرد الحشرات من القطيع، أثناء ليل البارحة، تكاد تحجب الرؤيا وتشيد فواصل وهمية فيما بين الصبية المنتشرين بحبور حول القطيع..
(04)
كان "دينق أكوي" إبن الثمان سنوات وقتها، قد فارق والدته قبيل لحظات وهي بصحبة أخته الصغري في الصريف المحيط بدارهم المرفوعة علي عيدان التيك والمشيدة من اللبن وغصون الأشجار الشوكية. فارقها دون أن ينتبه لوداعها أو أن يطبع قبلة علي وجنتيها، ودون أن تلقي هي الأخري له بالا، فقد كانت منهمكة بأخته الرضيعة علي صدرها من جانب، ومن جانب آخر كانت مستغرقة تطحن بالصوان حبات الذرة الرطبة كي تعد لهم طعام الأفطار في ذلك اليوم الشتائي البارد.. أما والده فقد كان دائم العراك مع أمه وإخوانه، وقد حدث أن إنقطعت أخباره عن الدار منذ أن كانت أمه في بواكير حملها بشقيقتهم الصغيرة ، كان قد شوهد يتسكع عدة مرات مخموراً في الحانات والمقاصف الليلية بالأحياء المجاورة، بصحبة فتاة في ما دون عمر بناته.
كان ذلك آخر عهد له بوالدته التي طالما أحبها وأدمن العيش في حضنها وخبائها الدافئ.. فقد كان هو وفتاتان من بنات عمومته، الضحايا الوحيدين لتلك الغارة الصباحية الخاطفة، التي نفذها خمسة فرسان من المراحيل علي القرية.. كانت أمه قد حذرته هو وإخوته من مصير كهذا مرارا.. فهو قد إنتبه لوقع حوافر الخيل، فأفاق كأنما كان في حلم ثقيل، لكن كل شئ قد حدث كلمح البصر، فقبل أن يرخي أذنيه للتحقق من مصدر الصوت كان قد وجد نفسه لحظةً طائحا في الهواء كالعصفور وظهره يشتعل من وقع السياط، والأخري وهو يهوي علي ظهر الفرس وقد قيد بالكامل. لكن ثلاثتهم رغم وقوعهم في الأسر، ربما كانوا الأوفر حظاً بين الضحايا، حيث تسني له من بين ألسنة الدخان المتصاعد وسحب الغبار التى أثارتها حوافر الخيل، أن يتبين، وهو عاجزٌ كالمشلول، إثنين علي الأقل من أبناء القبيلة هامدين علي الأرض بلا حراك، والدماء غزيرة تنبعث من جراح غائرة كان واضحاً أنهم قد أصيبوا بها للتو..
(5)
ظل متخفيا لخمسة أيام متتابعات داخل دار عتيقة متهالكة بالقرب من السوق، في مدينة "الضعين" بعد أن هرب ليلا متسللا من بين قطعان الماشية التي كان يلازمها ويرعاها خادما لأحد المراحيل لأكثر من عام مضي، مستغلاً الهلع الذي أحدثه إندلاع عاصفة ترابية مفاجئة حجبت ضوء القمر الخافت كما حجبت عنه أنظار الرعاة المتحلقين حول عين الماء، ذلك بينما كان سيده مستغرقا في نوم عميق في إحدي خيام الصوف المضروبة عير بعيد عن المرعي. طوال إقامته العابرة بالضعين كان نافرا كغزال بري، حريصا علي أن يتحاشي أنظار السابلة والمتسكعين مخافة أن تقع عليه عين أحد التابعين القادمين من ديار سيده في نواحي "قريضة"، فقد كان يسهل عليه التعرف علي هيئتهم وسحناتهم، ما أن تجمعه بهم السبل حتي يفر منهم كما يفر من الجزام.
بقي خلال تلك الأيام كالخفاش ساكنا لا يتحرك إلا تحت جنح الظلام، يكابد الجوع طوال ساعات النهار القائظ، ثم ينسل في الليل ليقتات الفضلات كالكلاب الضالة في ردهات صالات بيع الأطعمة، ويجمّع قطع الخبز الجاف من حول المخابز البلدية بالسوق حتي يحتفظ لنفسه بمؤونة تكفيه لنهار طويل آخر. عمل مضطراً في الأيام الأخيرة في مساعدة الجزارين بالسلخانة، وأدخر مقابل ذلك القليل من النقود ظن أنها كانت كافية لحمله علي متن إحدي الناقلات التجارية لأبعد مكان عن هذه الأرض حتي يتحاشي عودته للأسر من جديد.
(6)
تلقي علقة ساخنة من الحمالين عند الوصول، حينما لم يكن ما بحوزته من النقود ما يكفي لمقابلة أجرة النقل زائدا تكلفة الوجبات التي تناولها علي طول الطريق، أوجعوه ضربا وركلا، وكالوا له من الإساءة ما شاءوا، فقد كانوا قساة كالحجارة.. أدهشته غلظتهم المباغتة عليه ، رغما عن أن أجواءً من المطايبة والأنس علي ظهر الناقلة كانت قد سادت بينه وبين الحمالين والركاب علي السواء،خلال أيام الرحلة الطويلة، حتي توّهم أن ذلك ربما كان كافيا رغم فارق السن، لتمتين أواصر الود والصداقة.. لكن بالمقابل فقد كان ذلك التنكر الطارئ، علي فداحته، ثمنا عادلا بالنسبة إليه، إذ أن الرحلة طوال الطريق من "الضعين" إلي "كادوقلي" في نهاية مؤسم الأمطار قد كانت حقا متعة لا يمكن تصورها، فقد ظل الجو ربيعياً غائما بصفة دائمة تقريبا، وهبات النسائم الباردة العليلة جعلت تلفح وجوههم ببرد كبرد الجنة، والأشجار الفارعة الطول حول الطريق البري يانعةٌ تضج بخضرة زاهية، كوشاح سندسي ممدود إلي حيث تتلاشي المقاصد والأبصار. كانت سعادته لا تحد حينما تبين له أنهم قد أصبحوا الآن آمنين علي بعد مئات الأميال من الأرض التي إنطوت علي ذكريات أسره المرة ومأساته الطويلة، "برام"، "تولوس"، "قريضة".. بدا له، ولوهلة، أن معاناته قد ذهبت إلي غير رجعة.
(07)
لكن القلق علي مصير بنات عمه الإثنتين ما زال يسكن بين جوانحه ويؤرق منامه، ظلت عالقة بخياله تلك اللحظات في نواحي "برام" بعد أيام من حادثة الأسر، حينما كانتا تستغيثان وهما تغادران خيمة سيده التي كانت تضم ثلاثتهم لتلحقان بصحبة تاجر عربي، من عيال بحر، يبدو أنهما قد آلتا إليه كسبايا. كانت تتبعه من ضمن متعلقاته بخلاف الفتاتين، قافلة من ثلاث ناقلات محملة بشحنات من الفول السوداني متجهة إلي نواحي المناقل.. وكيف أن أحد الصبية قد حاول مداعبة إحداهن بعناد وصفاقة ظاهرة، ثم ما لبث أن لطمها بقسوة شديدة حتي همدت حركتها، حينما كادت أظافرها أن تفقأ إحدي عينيه.. كانت تلك هي آخر مرة رآهما فيها قبل ثلاث سنوات ولا يدري الآن أي البلاد وأي المصائر صارتا إليها.. لكنه ربما كان لديه مايكفي من القلق علي مصيره هو في هذه الأرض الجديدة التي لا يعرف له فيها صاحبا ولا رفيقا.
قضي خمسة أيام يمضي فيها الليل في بهو مدرسة بالمدينة إنهارت أجزاء من جدرانها لتتيح له الدخول للحصول فيها علي ركن يأويه. ثم عمل بعدها صبيا بأحد المخابز بالمدينة مقابل أجر كان يكفيه للحصول علي الطعام، كان النهار بكامله يعمل بالفأس علي تشريح عيدان الوقود، يجمعها ثم يحشرها دفعة واحدة، في أتون المخبز، ثم يأوي إلي الفراش عند حلول الظلام في أرضية الواجهة كحارس ليلي.
(08)
إنقضت عليه أكثر من ثلاثة أسابيع، حتي أتي يوم إقتادته فيه الشرطة للمخفر الرئيسي بالمدينة وكان طوال الطريق يرتجف كالمقرور من الرعب.. حتي أفاده ضابط التحري لاحقا أنه وإثنين آخرين تحوم حولهم الشبهات في تورطهم في جُنحة سطوٍ ليلي جرت أحداثها قبل ثلاث ليالٍ في بيت خبير أقطان إيرلندي الجنسية، يقطن الحي الجنوبي من المدينة.. لبث في الحبس بالمخفر لخمس ليال متتالية عاني فيها من قسوة مفرطة مع محققين لا يعرفون الرحمة، كالوا له الشتائم وأوسعوه بإساءات عنصرية بالغة. كانوا حريصين أن يحملوه علي الإقرار بإرتكاب السرقة، رغم ما أتاهم به من الدلائل والبراهين التي تنفي ضلوعه في تلك الحادثة، لكنهم لا يسمعون، فصار لا يخلو ظهره وسائر الجسم منه من الجروح والكدمات.. لكنه لم يكن ليعبأ بذلك كله مادام له البقاء خلف جدر المخفر الأسمنتية الباردة الصلبة، علي بعد آمنٍ من أن تناله أيدي آسريه.
قضي فوق ذلك قرابة الأربعين يوما بعد أن تم تحويله للإنتظار بالسجن الكبير بالمدينة.. رغم إنكاره الكامل، لكنهم ظلوا بصبرٍ، يحسدون عليه، يداومون علي إقتياده بصحبة المتهمين الآخرين، والأصفاد في أيديهم، لحضور دورات المحاكمة التي إنعقدت لأكثر من سبع جلسات.. إلي أن تم بعدها إخلاء سبيله عندما قررت المحكمة في إحداها إسقاط التهم في مواجهته لعدم بلوغه سن التكليف القانوني ولعدم كفاية الإدلة في مواجهته.. هكذا، دون مقدمات، كأنما حدث ذلك فجأة، رغم أنه ظل طوال مدة حبسه يصرخ بالحقيقة في آذانهم الصماء دون أن يلقوا لها بالا..
(09)
عاد إلي المخبز متعجلاً بعد إطلاق سراحه وتبرئة ساحته، لكنه وجد أن صاحب المخبز قد ألقي بمتعلقاته إلي قارعة الطريق. كما وجد وجوه أصحابه بالمخبز كالحة لا تحمل تلك المشاعر الجياشة التي تركها فيها ليلة رحيله إلي المخفر. هكذا هو الزمن حينما يكُرُّ يجرف المشاعر والأحاسيس، كما يجرف الفيضان أكواخ المحبين وباقاتهم الملونة. كان عليه أن يبدأ من جديد رحلة أخري طويلة مع سوء الطالع، عاد فيها لمأواه القديم خلف حائط المدرسة المنهار أثناء ساعات الليل، بينما ينهض باكرا ليعمل صبياً للجزارين بالسلخانة الكبيرة منذ ساعات الصباح الأولي وحتي الفجر ثم بعد ذلك حمالا للبضائع الواردة إلي السوق بعد شروق الشمس وحتي منتصف النهار.
ظل كذلك لاكثر من ثلاثين يوما، إنتقل بعدها مع حلول الشتاء ليعمل كعامل لقيط مؤسمي في الحقول الملحقة بمشروع "أقطان جبال النوبة"، عادة ما كانت عمليات اللقيط تستمر لمدي خمسين يوما متتاليات، تقوم فيها كل مجموعة من العمال بتشكيل عصبة منفصلة لتقوم كل من تلك العصب بتشييد خيمتها وتعد ما يكفيها من الطعام الجاف وأدوات المعيشة، حيث أنهم لا يغادرون الحقول طوال موسم اللقيط. يجمعون حصادهم من القطن في أكوام كالجبال ثم يقومون علي حراستها ليلا لحين حضور المفتشين لتعبأ الأقطان في أكياس من الكتان بوزن مائة رطل لكل كيس، توزن الأكياس وتُمرّك ويقوم المفتش بتقييدها وتقييد أسماء عصبة الإنتاج وتسليم ممثلها إيصالاً بأوزان الأقطان المستلمة، لحين حضور الصرافين لسداد مستحقات العمال بموجب الأيصالات التي طرفهم.. كانت الأغاني والرقصات تتخلل عمليات اللقيط، يتغنون فيها بالحماسة والكرم ثم تنطلق قصائد الغزل للتغني بمفاتن الفتيات الجميلات اللاتي كن يشاركن جنبا إلي جنب مع الفتيان في عمليات اللقيط وفي مهرجانات الرقص الجماعي والمصارعة بإحتفالات الحصاد التي تقام ليلا بمجمعات الخيام.. وكانت الخمر ونسائم الشتاء الباردة تزيدهم نشوة وطربا علي ماهم فيه من السعادة والسكينة.. فتوطدت بينه وبين زملائه بالمخيم الصلات والصداقات وبدأ يتمتع بأمان لا باس به فيما هو بينهم، كأنما كانت تربطه بهم وشائج من القرابة والدم. حتي كاد ينسي ميراث الأحزان.
(10)
لم تغادره رغم ذلك هواجس الرعب، فقد ظلت تعاوده مرات عديدة، كانت الكوابيس بالعودة إلي الأسر لا تدع له مجالا للراحة والسكينة، فكان كلما أغمض عينيه يتراءي له غبار الخيل وتطنّ أذناه بطَرقِ الحوافرِ علي الأرض الطينية الصلدة. كان آخرها حينما دلف إلي خيمتهم ليلا ذلك الأيرلندي صاحب المنزل المسروق بصحبة المفتش وأحد العمال المؤسميين، وهو يحمل قصاصات من الورق من النوع الذي يحمله مفتشو المشروع، يبدو أن إسمه كان مقيدا بها.. جفل عن فراشه، وكاد أن يلوذ بالفرار لولا أن ساقيه قد خانتاه، فقد أصيبتا بشلل خاطف من هول المفاجأة.. يا لبؤسك يا "دينق أكوى"، حيثما حللت ينالك الحظ العاثر وتدركك هواتف السوء. لكن سرعانما تبين أن الزوار لم يكونوا يريدون به شرا.. فقد تقدم الأيرلندي بتعريف نفسه ثم شرع يعتذر له عما لحق به من الرهق والمعاناة نتيجة لإتهامه خطأ في بلاغ السرقة الذي كان قد تقدم به هو ضد مجهول، وأنه يعتبر نفسه علي أية حال مسؤولاً بصورة شخصية عن أي أضرار حدثت نتيجة إشتباه الشرطة الخاطئ فيه، ومن ثم إعتقاله كل تلك المدة الطويلة. كان الرجل يتحدث في ندامة ظاهرة وفي أدب جم.. ثم طلب منه في ختام اللقاء زيارته في داره بعد أن رق حاله لما رأي ما كان عليه الصبي من قلة الحيلة والإجهاد.
إنقلبت بتلك الزيارة حياة "دينق أكوي" رأسا علي عقب، فقد كانت زيارته الأولي لمنزل مستر جون ديفرو رحلة في إتجاه واحد، مثلت بداية الطريق لفاصل جديد في مسيرة العمر، عامرٍ بأسباب الحياة الكريمة التي أتيحت له، والنجاحات الأكاديمية التي أبدي فيها براعة إستثنائية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.