سيلُ البشر المضطربِ، شمسُ الأصيل في يونيو وهي تكسبُ الأفقَ لونها القرمزي المبهرج، كلها تجعل المشهد أشبه بالفنتازيا. الحافلاتُ أشبه ما تكون بمخلوق الهيدرا، تتقيّأ جموعاً من البشر ثم تملأ جوفها منْ ذات المخرج بآخرين. البشر تبدو هيئاتهم في فوضى عارمة، ظلّت ذاكرته تتأرجّحُ بين اللحظة الحاضرة وآخر مرة وقف فيها في ذات المكان، بين الوقفتين ربعُ قرنٍ من الزمان، جال البصر مستكشفاً جيوبشرية الزمكان، الثوب، الذي كان امبراطوريةً قائمة بذاتها، تراجعَ في انكسارٍ مهزوماً. النساءُ؛ إمّا متلفّعات بالسواد بفعل الهجرة من وإلى بلاد البترودولار، أو البلوزة ذات الألوان النزقة والتفصيلات الجريئة التي تُغري العينين بالتلصُّصِ في ما ورائيّة الما وراء. الجلابية كانت سيدة الرؤية، الآن تبين بين الفينة والأخري كطفلٍ يتيمٍ في حفل عرس أهله لئام . البشرُ... يسيرون وأجسادهم تكاد تتلاصق، وهو يعجب كيف خفّت حدة المشاحنات والمخاشنة رغم الزحام. صبيةُ الحافلات تعلو أصواتهم وكأنهم في مسابقة للغناء الأوبرالي، همَّ بالصعود الى الحافلة التي توقّفت أمامه على بُعد خطوات، خطا خطوتين ثم تسمّرت قدماه، صدمته كلمتان مكتوبتان على زجاج الحافلة الخلفي بخطٍ ردئ... نشرةُ تمانية... قفزت ذاكرته ثلاثين عاماً للوراء، نشرة تمانية كانت الوسيلة الوحيدة لإبلاغ أنباء الوفيات والموتى مجهولي الهُوية والهاربين والهاربات من الصبايا والصبيان، ومن يضلُّ طريقه من الشيوخ والعجائز، وكيف أنّه شخصياً عرف نبأ وفاة والدته ثم والده في نشرة تمانية قبل ما يزيد على العقدين من الزمان، رُغم الفارق المكاني لموتهما ووجوده. تراجع قليلاً للوراء. أكملتْ الشمسُ ضجعتها وراء الأفق الغربي، سار ببطءٍ وعيونه تلتقطُ ما خطَّه الخطّاطون على زُجاج الحافلات، أصبحتْ تلك هواية لحظيّة: نيفاشا، إشْرِنْكَيل، خال فاطنة، زِنديّة، ود بربر، أبو حديد، يا لطيف، الكبّاشي، ترطيب، صدّام، العُروبة، رَاحاتْ، بَقّاريّة، نْ، صقر البَرَزَّنْ، أصالة، حبيبُو، القُدس لنا، تبكي بسْ. و بكى، وبكى وبكى وبكى لكن بغيرِ بَسْ. كل كلمةٍ تعني عالماً قائماً بذاته مستقلاً عمّا سواه، حين توقّف نزيفُ الحافلات أمامه أدرك أنّه قد ابتعد عن موقف الحافلات كثيراً، ساعةُ معصمه أنبأته أنها قد تجاوزت التاسعة. قرّر العودة ليستقل الحافلة. مرةً أخرى تزايد الزحام من حوله، الوجوهُ كثيرةٌ لا يكاد يُميِّز بينها، فيها المخبول المجهول والمسلول والمسطول والمذهول والمعلول والمفعول، استغرب كيف يتحرّكون بمثل هذه السلاسة والانسجام رغم اتجاهاتهم المتعاكسة والتفاوت في الأحجام والأشكال. تفادياً للزحام، قرر السير بمُحاذاة السور، السورُ من الحجر الجيري سيئُ البناءِ، قبيحُ التفاصيل، يرتفعُ عن الأرض نحو المتر، يتخذه المتسوّلون والباعة المتجولون مجلساً مؤقتاً وساتراً لقضاء الحاجة العجلى، الرائحة... نَتَنٌ، عَفَنٌ، عَطَنٌ، الحرُ الذي أعقب المغيب جعل الأجساد تكاد تنصهرُ صَهْداً، العرقُ ينزُّ يرسمُ على القفا لوحات سيريالية بذيئة التصاوير، وفي وجوه الصبايا عوالم فوضوية تتزاحمُ فيها الألوان، تحملُ روائح متقيِّحة. البعضُ يجلس على الأرض يعرضُ سلعاً ما لها من مُشْتَرٍ، خضار، فاكهة، أقلام، كتب، عطور، مساحيق تجميل وغيرها. تجاوزَ آخر الحافلات فوجدَ نفسه عند منحنى السور المتجه جنوباً من الناحية الشرقية، خفتتْ أصوات الزحام شيئاً قليلاً . مجموعة من أطفال الشوارع ينامون عند حافة السور، يتوسَّدون الثرى ويلتحفون الثريا، تقيَّأتهم المدن المُتعبة، ومجَّتهم كما السُم الزُعاف، فجأة ارتدَّ إليه بصره في ألمٍ يشبه طعنة السكين بين القلب والشغاف. تحت قدميه مباشرة، صبيٌّ وصبية من هؤلاء، يُمارسان ما استعصى وصفه على حروف اللغة الثمانية والعشرين، اصطكَّ سمعه حين اقتحم أذنيه ما يدور بين مجموعة من ذات العشيرةِ جلوسٌ على مقربةٍ يتلمَّظون ما يرون، والكلُّ ينتظرُ أنْ ينالَ نصيبه من الفريسة، غامتْ الدنيا في عينيه.. لم يَعُد يرَ شيئاً، فركَ عينيه، أغمضهما، فتحهما، لم يرَ شيئا. استدار عائداً من حيث أتى، يده اليسرى على الحائط الحجري بذئ التفاصيل، اليمنى يتقي بها الاصطدام بالآخرين، تعثّرت قدماه في كومة من الكتب معروضة للبيع على الأرض مباشرة لا يفصلهما حتى ورقة سوليفان، اضطرب واحتار كيف يصل مبتغاه، الفوضى التي تضرب المدينة من أقصاها الى أقصاها تبلورت للحظة واحدة تحت قدميه فتسّمر كما جبلٍ عارٍ من النبات. انتهره بائع الكتب الصفيق: أفتح عينك يا حيوان. صفعته الكلمات كلفحةٍ من صهدِ جهنَّم. ضجيج الأصوات المتداخلة يصمُّ أذنيه: علينا جاي.. برِّد.. أُمْدُر.. المربّعات.. كل حاجة بي ألِفْ.. التفاح والعنب.. يلا، نَفَر والسفر... وووووالضجيج، الضجيج، الضجيج. من بين الفوضى الصوتية المتلاطمة اخترق سمعه صوتٌ من مذياع إحدى الحافلات المعطوبة: الغلاءُ بلغ مداه، كل شئ أغلى من كل شئ، يُقاطعه صوتٌ متحشرجٌ: لا...لا، لقد بذلنا جهوداً خلال السنين الماضية، أسهمتْ في جعل بعض الأشياء رخيصة، أرخص الأشياء في هذي البلاد، هل تعرفها؟ .... أرخى سمعه ليعرف إجابة السؤال، إلاّ أنّ صوتاً دوّى من بين ضجيج السابلة، طفا فوق نافورة الأصوات التي تهطل بذاءةً وقيحاً بكلمتين: الإنسان... والكتاب. بعدها لم يَعُد يسمعُ شيئا. من مجموعتي القصصية حواشي الغواية [email protected]