اليوم كان الأحد ، الأول من يوليو 1990 . مسحة من السعادة المؤقتة تغير من ملامح ابراهيم الطاهر أثناء خروجه من محل عمله ، فهناك عرجة سريعة محببة إلى البنك لقبض مرتب الشهر . الصهد يرتد من أسفلت الطريق في اهتزازات بالكاد مرئية. العربات تسب بعضها البعض في ضيق أشد من ضيق البشر . حركة الماشة لاهثة متعجلة ، هاربة من لعنة الحر و شبه الجنون . من البنك يخرج ، و مسحة السعادة المؤقتة تبدو ملامحها أكثر وضوحا. سوق الفاكهة في طريقه . ألوان فواكه الصيف محببة لديه ، يتابعها بفضول طفل . يقف أمام بائع البطيخ ، بائع فاكهته المفضلة صيفا ، يرغب في التأكد من حمار البطيخة . يساوم البائع . يغرز البائع سكينته في طول البطيخة ، و يضغط على جانبيها لتتسع فتحة الرؤية . يتأكد ابراهيم من حمارها ، و يدفع مقابل شق السكين . الحر يشتد ، و حركة السوق صاخبة . إبراهيم الطاهر يمتع نظره بألوان آخر محل للفواكه ? قبل أن يخرج من السوق ، راحة يده تنثني على البطيخة من الأمام تمنعها من الحركة . ساعده تحتها . خصره يكمل ثباتها . يتمنى أن يكون في البيت بأسرع ما يمكن ؛ أن يضع البطيخة في الثلاجة حتى تصل برودتها إلى أقصى ما يمكن ، ثم يبرد بها النار التي امتصها جسده طول الطريق . إبراهيم الطاهر يحدق الآن في مزيج الألوان في لا وعي و دهشة . لون شديد الحمرة . بذور شديدة السواد . قشور شديدة الخضرة . أسفلت شديد السواد . منظر البطيخة المهمشة على الأرض يصبح مثيرا للمارة . يتوقفون ، بينما السيارة السوداء الأنيقة الطويلة ذات الأرقام الدبلوماسية تختفي . المارة يقتربون من إبراهيم الطاهر . البعض ينظر إليه في بلاهة ، و البعض الآخر ينظر إلى بطيخته المهمشة على الأرض . يتوقف جمع كثير و تكبر الدائرة . امرأة فقيرة رثة الثياب تلملم بعض قطع البطيخة المتناثرة ، تقترب منه ، تفكر في إعادتها إليه . تراه ينظر في الفراغ غير مكترث . تمشي و في يدها ثلاث قطع مهمشة .إبراهيم الطاهر يخرج منديله في يأس و يمسح عرقه . لا يتكلم . ينظر فقط إلى الأرض ، و لغط كثير يتردد حوله في المكان : ماذا يحدث ؟ هل هناك مصاب ؟ ابتعد .... دعني أرى يبدو أنه رجل مجنون أنظر ... هذا الذي هناك ابراهيم الطاهر يكاد يختنق بطوق الفضوليين ، يخترق الزحام هارباً ينظر هذه المرة جيداً قبل عبور الطريق ، يخشى أن يتكرر على مسامعه ما سمع ، مسحة الغم تكسو وجهه ، غصة في حلقه تمنعه من الكلام ، طرفا ثغره يهتزان بلا إرادة ، يزم شفتيه ، ويشعر بالعرق الغزير يحرق عينيه ، يبحث عن منديله المبتل ويمسح عينيه ، شعور أليم يسرع من نبض قلبه ، يجاهد في رفع رأسه ، تسقط دائماً ، ينظر الى الأرض ، وتختفي الألوان تدريجياً ، رأس ابراهيم الطاهر منكوس الى الأرض كمن يبحث عن ضائع له ، في تلك اللحظة الحزينة يتذكر سيرة حياته ، احترامه لنفسه واحترام الناس له ، يخرج منديله ويمسح حرقة عينيه ، شئ ما يقف أمام عينيه . الرؤية لا تعود واضحة.يمشي عدة خطوات يميل على بائع للمرطبات ، يشرب زجاجة كولا مثلجة . يبحث عن محفظته . لا يجدها نشلت في زحام الفضوليين ، حركته تبدو مضطربة ملهوفة ، يخبط على كل جيوبه ، يداه لا تصطدمان سوى بقماش ملابسه وجسمه ، ولا شئ بينهما ، لا شئ هناك . حتى مفاجأة الانزعاج تضيع منه يقف محرجاً لا يدري ماذا يقول . البائع مشغول بفتح الزجاجات وتسلم النقود والمناداة ، يلمح أن الرجل لا يريد أن يدفع . لا يدرك أنه لا يستطيع ، يعتقد أنه مجنون ، يطلب منه الابتعاد ليتسع المكان لغيره ، قدرة ابراهيم الطاهر على تبرير موقفه تنعدم ، ينسحب الى الخلف مذلولاً . الميدان المزدحم بكافة الألوان يراه يدور ويدور ، لا يكاد يميز لوناً يشعر بصهد داخلي ، يحس بأن قلبه يخبط في ضلوعه من الغليان ، ينظر الى ساعة الميدان ، لا يرى لها عقارب ولا أرقام ، ينظر الى ساعته ، لوهلة يعتقد أنها أيضاً بلا عقارب وبلا أرقام ، يرفعها الى مستوى أنفه ، إنها الرابعة والنصف بعد الظهر . يحس بعتمة غريبة تحل في غير موعدها . تحيل كل الألوان الى لون واحد ، ثم تحيل اللون الواحد الى أشباح لا ترى . قدم ابراهيم الطاهر ترتطم بالرصيف ، يهوى على الأرض ، بعض المارة يوقفونه ، يسألونه ، لا يرد ، يحملق في السماء والوجوه بلا تركيز ، يطلب سيارة أجرة ، يوقفون له واحدة بصعوبة . ينزل أمام بيته ، يطلب الى السائق أن ينتظر قليلا ، ليعود ويدفع له الأجرة الأصوات عالية . يسمعها بشكل لم يتعود عليه ، يتلمس طريقه على الحائط الى المدخل . بالصدفة يساعده صبي الكواء الذي كان في طريقه الى المبنى نفسه لاعادة ما كوي . زوجته سماح تستقبله بلهفة . وجه لم تتعود عليه . عبوس وعجز وغم تشوّهملامحه . يتهاوى في أول مقعد ، ويطلب اليها أن تدفع أجرة السائق المنتظر . تعود فتجده نائماً ، تخلع له حزاءه ، تجلس الى جواره تمسح جبهته بكمادات مبللة بالماء ، ورعشة قلبها تصيب يديها . إبراهيم الطاهر يصحو ، لا يعرف كم من الوقت قد مر . عن الوقت يسأل زوجته . تقول له الثامنة . تذهب لتحضر له كوبا من عصير الليمون البارد ، تقدمه له ، يرفع يدا مرتعشة في اتجاه بعيدا عن الكوب ، قلب سماح يسقط في قدميها : « ماذا حدث يا ربي ؟ إبراهيم ، هل تراني ؟ « إبراهيم لا يرد ، و لا يرفع يده مرة أخرى . إبراهيم الطاهر يكرر أمام زوجته جملة ما زال صداها يؤذي سمعه . كل يوم يكررها عشرات المرات ، كأنه يبحث لها عن معنى آخر . هي لا ترد ، تبكي دون أن يسمعها . بباطن يدها تمسح خديه و تقبل جبينه ، و هو يهز رأسه غير مصدق . تعرفه على الآخرين يصبح عن طريق إصغاء السمع يشك دائما في شخصية محدثه أو محدثته ، يسأل دائما : « هل أنت كمال ؟ هل أنت سميرة ؟ الذي يتكلم أبو خالد « أربعون يوما تمر ، و يصبح أن من المؤكد أن إبراهيم الطاهر لن يرى النور مرة أخرى . كانت سيارة سوداء انيقة طويلة تحمل لوحة أرقام دبلوماسية ، زجاجها غامق ذو اتجاه واحد للرؤية . تحيط بها خمس دراجات بخارية عريضة مزودة بالحرس الخاص ، واحدة في الأمام ، اثنتان على الجانبين ، مثلهما في المؤخرة . إشارة المرور كانت خضراء تسمح بعبور المارة . المارة توقفوا حين رأوا السيارة الدبلوماسية السوداء تسرع بلا اعتبار للارشادات . إبراهيم الطاهر لم يرى ما رأوا . تجاوز الطريق . ليسمع زعقة فرامل صارخة ، ثم سقطت البطيخة من فوق ساعده ، و تهشمت على أرض الطريق ، محدثة صوتا غريبا نظام الحرس تلخبط، بعد أن فرملوا في اضطراب و ربكة ،كل وضع يده على سلاحه توقعا لأي حركة . أحاطوا بإبراهيم الطاهر ، و صدرت من أصغرهم تلك الجملة : « ألا تحترس أيها الحيوان الأعمى !»