لا تسألوني عن المقدمات لأن الحلم لا يعرف المقدمات فبينما أنت نائم فجأة تجد نفسك على مقعد إحدى الحافلات على طريق الخرطوم مدني وعلى يمينك "مدينة الباقير الصناعية" التي تضم مجموعة من كبريات الشركات التابعة ل "مجموعة شركات الجزيرة" وبرواية أخرى (El Jezzera Group of Company)، مثل شركات حلج الأقطان، ومصانع الغزل والنسيج، ومصانع للزيوت والصابون والدقيق، ... وهناك لوحات إعلانية (فيديو) تعلن ، مكرونة الجزيرة الأصلية، وزيت السوداني النقي، وزيت فارس حلو المذاق، وترى أيضا زبدة الفول السوداني من إنتاج "معامل الدكوة السوادنية" ... وتتبدل الصور لترى قمصان ""Baqair Design ومنطلونات "JezJinz" من "شركة الجزيرة جينز للملابس"، وهناك الكثير من اللوحات التي لم أتمكن من رؤيتها، فالحافلة مسرعة ومسارها سالك بعد أن أصبح الطريق ثلاثة مسارات في كل اتجاه. قال لي الجالس بجواري في الحافلة، بعد أن رأي ما بي من حيرة: "شنو يا أخينا إنت طولت من البلد؟)، فأجبته أن نعم والله لي قرابة العشرين عاما ... فقال: لا تستغرب يا أخي إنت ما شفت "المدينة الصناعية بالمناقل" ولا صناعية كوستي، ومدني وجنوب الجزيرة، بالإضافة إلى العديد من المصانع والشركات الخاصة المنتشرة في مدن وقرى الجزيرة مثل "كاسركو للصناعات الغذائية"، "دكين العالمية للتصدير", "مجموعة كنان الصناعية", "وداعة للنقل والسياحة"، "النيل للاستشارات العلمية والإدارية"، وغيرها وفجأة تقع عيني على إعلان في "صحيفة الجزيرة" بيد الجالس على يميني، يدعو الموطنين للمسارعة للاكتتاب ب"مصرف الجزيرة" الذي قرر زيادة رأسماله إلى عشرة مليارات جنيه سوداني، بعد النجاح الذي حققه في السنوات القليلة الماضية. لاحقا علمت أن الغرض من زيادة رأس مال المصرف هو دعم المشاريع الطموحة التي تقوم بتنفيذها "مجموعة الجزيرة" بصفتها شريكا استراتيجيا في"مصرف الجزيرة"، وذلك ضمن إطار خططها التوسعية الرامية لمقابلة الطلب العالمي المتزايد لمنتجاتها المميزة التي لاقت قبولا منقطع النظير في السوق العالمي، والتي أسهمت إسهاما كبيرا في سد الفجوة الغذائية على مستوى الوطن العربي وعلى المستوى العالمي أيضا. ودار الحوار بين جيراني من ركاب الحافلة فعرفت من الحوار أنه بموجب قانون مشروع الجزيرة لسنة 2010 أعيدت صياغة سياسة وإدارة وهيكلة مشروع الجزيرة ومن ثم أنشئت "مجموعة شركات الجزيرة" "Al Jezzira Group of Company" وهي شركات مساهمة عامة، تضم عدد من شركات متخصصة مثل شركة "المحراث الأخضر"، والنيل الأزرق لتحضير الأراضي، والمناقل لتطهير القنوات، وغيرها بالإضافة إلى عدد معتبر من شركات للمواد الغذائية والنقل ومطاحن ومعاصر زيوت وحلويات وصابون وشركات سياحية منتشرة جميع مناطق وسط السودان "محافظة النيل الأزرق سابقا كما قال أحد الذين يديرون الحوار"، هذا بالإضافة إلى شبكة من الطرق الإسفلتية التي ربطت كل المنطقة فيما بينها وبين جميع أنحاء السودان مما شجع دول غرب ووسط وشرق أفريقيا لتسيير حملات الحج عبر السودان. هناك أيضا خطوط السكة الحديد التي تم تجديدها وتوسيعها بصورة كبيرة. كما عقب أحدهم قائلا:(ويبدو أنه على علم ودراية ببواطن الأمور) بأن هذا التحول قد أنعكس خيرا على حياة أهل الإقليم بصفة خاصة وأهل السودان قاطبة، مؤكد أن هذا التحول قد قدم حلا جذريا لمشكلة العطالة حيث استوعب عدد كبير من المواطنين، مؤديا إلى تحسن أوضاع الناس المعيشية والاجتماعية، وتحسن وضع التعليم العام كما وكيفا، وأنشئت بعض الكليات الجامعية المتخصصة في المنطقة، وانعكس الحال أيضا على الوضع الصحي والبيئي. أضاف ذلك الشاب بأن هذا التحول الكبير، أنبنى على صدق التوجه والشفافية الذين اتسمت بهما توصيات المؤتمر الذي عقد لمناقشة وتفعيل قانون مشروع الجزيرة لسنة 2010، خرجت التوصيات بخطة ناجعة تضمنت روية واضحة وهي "أن يصبح مشروع الجزيرة والمناقل دعامة قوية من دعامات الاقتصاد السوداني، ليسهم في صياغة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمواطن السوداني (كما كان) ويرقى بالوضع المعيشي والتعليمي والصحي والبيئي في المنطقة"، بالإضافة إلى رسالة صادقة ألا وهي "أن ينبني العمل على خطط علمية وعملية تتسم بالمصداقية والشفافية والواقعية واضعين مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار". ثم حددت تلك الخطة أهدافها التي تحققت بنسبة عالية، منها على سبيل المثال، وضع خطة عامة لإدارة مشروع الجزيرة، وفقا للرؤى الجديدة المطروحة، مبنية على أسس علمية واقتصادية مدروسة، فكانت خطة واقعية وعملية، أي قابلة للتنفيذ والقياس، ثم يلي ذلك تعيين مجلس إدارة للمشروع من أهل الدراية والخبرة والنزاهة والحياد عن أية ميول حزبية أو جهوية. كذلك تعيين مدير مشروع الجزيرة ومساعديه من أهل الاختصاص والخبرة وتأهيلهم للقيام بالمهام المنوطة بهم. أيضا شملت الخطة تكوين أقسام الإدارة المختلفة، مثل الإدارة المالية، الشؤون الإدارية، إدارة الجودة، إدارة الموارد البشرية، إدارة الخدمات الاجتماعية، وغيرها وإسنادها إلى أهل الاختصاص والخبرة. ومن الأهداف الهامة التي تضمنتها تلك الخطة هي تشجيع تكوين شركات متخصصة على أساس شركة المساهمة العامة، تكون حكومة السودان مؤسسا ومساهما فيها، ويكون حق المساهمة فيها مكفولا لكل شخص سوداني، طبيعيا كان أو اعتباريا، تندرج كل هذه الشركات تحت مؤسسة واحدة تسمى مثلا "مجموعات شركات الجزيرة" لتشمل على سبيل المثال لا الحصر المجالات، مثل شركة للبحوث الزراعية والوقاية وتطوير التربة، وشركة هندسية في مجال الري وحفر وصيانة وتطهير القنوات، وشركة للقيام بأعمال تحضير الأرض والعمليات الزراعية المصاحبة قسم المحاريث سابقا، وشركة للقيام بأعمال الحصاد، وشركات تسويق إلى غير ذلك من الشركات التي تسهم في تسيير المشروع بما يحقق الإنتاجية العالية ومن ثم كل الغايات المرجوة لهذا المشروع العملاق. وحتى يكون تنفيذ الخطة مبني على أسس علمية وعملية فقد شملت الخطة تكوين لجان متخصصة من أهل الاختصاص والخبرة ونفاذ البصيرة، للقيام بعمل دراسة ميدانية تهدف إلى تقييم الوضع الراهن لكل مرافق للمشروع، كل في مجال تخصصه، ثم قيام تلك اللجان برفع توصياتهم مع الخطط اللازمة الكفيلة بتنفيذ تلك التوصيات. على أن يتم استيعاب العاملين في تلك اللجان، بعد أداء دورهم وتحقيق الأهداف المرجوة من قيام تلك اللجان، في إدارات المشروع المختلفة كل حسب تخصصه. وكان من أقوى المبادرات والأهداف التي أدت لإنجاح المشروع هي فكرة إنشاء مصرف (يسمي مصرف الجزيرة مثلا) أو ترقيه أي من المصارف العاملة بالدولة لاستقطاب رأس المال المحلي والأجنبي لتمويل التحول والتوسع في المشروع، ولتمويل الشركات المقترحة وتشجيع المستثمرين بالمنطقة والسودان عموما لعمل شركات مساهمة عامة وشركات ومؤسسات خاصة للعمل للتصنيع في مجالات الغزل والنسيج والمطاحن وصناعة الزيوت والصابون والحلويات وشركات النقل ... ألخ. كذلك لم تغفل الخطة أهمية تطوير شبكة الطرق وخطوط السكة الحديد الداخلية بالمشروع وربطها بشركة سكة حديد السودان بعد أن تم تحديثها وأصبحت مرفقا حيويا فاعلا ترقية أداء قطاع النقل. وبعد أن قرأت تلك الوريقة، عقب صديقي: ألم أقل أن كل القضية هي أزمة إدارة صاحبت المشروع منذ أمد بعيد، فالمشروع قد فقد الربان الماهر الذي يتمتع بصفات القيادي "القوي الأمين" القادر على تحديد رؤية واضحة ورسالة صادقة ووضع أهداف قوية لكنها واقعية وعملية قابلة للتنفيذ. فالآن يا أخي ينعم المشروع بإنتاجية عالية وربحية مرضية وأصول جيدة، تحقق نموا في كل المحاور. فالإضافة إلى الإسهام الكبير في اقتصاد البلد ككل.وطبيعي أن ينعكس ذلك على وجه الحياة لمواطن المنطقة وما جاورها، وتتحسن الأوضاع المعيشية والصحية البيئية، وأهم من ذلك فقد أصبح المواطن ينعم بخدمات عالية الجودة ومميزة في مجالات التعليم والصحة، وهكذا شأن كل نظام اقتصادي معافى، فلا بد أن تكون المحصلة النهائية هي إسعاد المواطن من خلال توفير الأمن بمفهومه الشامل، بما في ذلك الأمن الغذائي والبيئي، وضمان حق التعليم والعلاج والعمل. صدقوني هذا حلم كل مواطن في تلك الرقعة، وصدقوني أن هذا المشروع كان يمكن أن يكون كذلك اليوم، بل أفضل، وهذا ما يمكن أن يتحقق الآن وغدا، بل وأكثر من هذا، ولكن كيف؟ ... نعم يكون ذلك مع صدق النوايا والتوجه، ويصبح واقعا معاشا إذا أنكرنا ذواتنا ووضعنا المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وإذا طورنا مفهوم فريق العمل وتخلصنا من "الأنا"، إذا أخذنا برأي أهل الدراية ووسدنا الأمر إلى أهله، إذا تعملنا أن سيكولوجية تحقيق الأهداف تتطلب وضوح الرؤية وقوتها، وتحديد الهدف بدقة، ووضع الخطة المدروسة ثم دفع الثمن لتنفيذ تلك الخطة، لأن ما عدا ذلك لا يعدو أن يكون مجرد فكرة، والفكرة لا ترقى لأن تكون هدفا حتى تضع لها خطة وتدفع الثمن. Abdul Qadir Kasir [[email protected]]