البوليس الراقي الحق، هو الذي يعمل ليخدم الشعب. قصة حقيقية بقلم د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي - لندن يقال "الإنسان مدني بطبعه". وأساس التمدن وصقله في رأيي الخاص يبدأ منذ الصغر في البيئة والمنزل الذي يولد فيه المرء. إحترام الآخرين والرأي الآخر، وتغابي عيوب ونواقص الآخرين ، ومساعدة الضعيف والفقير، والإهتمام بالنظافة وقواعد نظام الأسرة والمدينة والدولة، وقواعد السير والمرور والعمل، وقول الصدق وتثقيف النفس لهي في رأيي عين التمدن ناهيك إن صدق الوعد فيصدق المسلمون في إسلامهم تطبيقا سليماًً من غير غلو في سماحته التي وضع قواعدها ما جاء به القرآن الكريم وما جاء في السنة النبوية. سؤال أطرحه لنفسي أولاً ولكل مسلم في بلاد المشرق والمغرب وفي وطني الأول السودان " هل ياتري نحن مدنيين ومتمدنين؟"، وهل نحن بالجد مسلمين ؟. إليك القارئ العزيز هذه القصة التي عايشت أحداثها الأسبوع الفائت "و تعال أحكم براك جرب" كما يردد هذه الحكمة الفنان محمد الأمين في إحدي أغنياته إن صدقت ذاكرتي سعدت بزيارة أسرة كريمة أستضيفها أنا وأسرتي هذه الأيام. أتتني من بلاد الشرق الأوسط، وعادة ما تكثر حركة التجوال لمثل هؤلاء الزوار في لندن وغيرها من المدن البريطانية إما للسياحة أو التسوق أو العلاج في بعض الأحيان. خرج رب الأسرة المعنية يوم السبت الماضي لمراجعة حساباته البنكية وترتيب أمور أخري ثم تسوق وزار أخيراً محل "بووتس" المعروف في كل مدن المملكة ، وبعد إقتنائه مايريد ركب إحدي البصات وعاد إلي منزلنا حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر. للأسف إكتشف بعد نزوله وفوات البص أنه قد نسي كل حمله داخل البص وأهم مكوناته كانت كل معاملات البنك الهامة والتي أيضاً تلك التي تحتوي علي معلومات شخصية وسرية. إنزعج للحدث وقد كنت أنا خارج المنزل وعندما علمت بالخبر سارعت إلي الإتصال بمكتب شركة البصات وبلّغت عن المشكلة فقالوا لي عاودنا صباح الغد إن كان لك نصيب في أن يجدها شخص ويسلمها لسائق البص. عدت إلي المنزل وتركنا الأمر لله لعل فرج قريب يأتي من السماء وكان كل إنزعاجنا هو أن معاملات البنك التي فقدت كانت تحتوي علي معلومات وعناوين شخصية بما فيها عنوان منزلي وأرقام حسابات بنكية إلخ. مع غروب شمس نفس اليوم يطرق طارق باب المنزل ولدهشتي وجدت سيارة البوليس البريطاني بألوانها الزاهية تقف أمام المنزل وضابط شرطة يقف منتصباً شاباً وسيم الطلعة طويل القامة قوي البنية مددج باللبس المميز والأجهزة المختلفة بما فيها من الإلكترونية حتي كاميرا رقمية تصور الشخص المقابل المعني. لم أنزعج للموقف لأنني أعلم جيداً أنني لم أتعدي أو أوذي أحداً ما أو أخالف أمراً ، لكن برغمي شُغِلتُ بتساؤلات سريعة و كذلك ما هي المشكلة التي تستدعي وجود البوليس عند منزلي ؟؟؟ إبتسم الضابط وحياني أحسن تحية وسألني وهو يرفع بيدة اليسري حملاً "دكتور فلان؟؟ هذا لك بعد بلاغ وصلنا من محل بووتس". تفضل. سلمني المفقودات وودعني متمنيا لي مساءاً سعيداً . شكرته وقلت له "ألا تتفضل لأكرمك بكوب قهوة أو شاي؟". شكرني وقال لي "أعود لأواصل مهام عملي". إنتهت القصة . ماذا تقول عزيزي القارئ في هذا التصرف الحضاري ؟؟؟. ماذا تقول في هذه الأمانة في بلد أغلبية أهلها لا دين لهم ولا شيخ لهم يركعون له سجدا؟؟ (وما الركوع والسجود إلا لله وحده). أنا أقول "البوليس المثالي الحق أو الإنسان الراقي المهذب هو الذي يسمو بأخلاقه السمحة وتعامله ، يؤدي عمله المناط به كما يجب فيخدم بذلك الشعب ويعينهم أيضاً عند الحاجة من غير أن يرجو عطاءاً أو شكوراً " هذه الحادثة أذكرها وأعني بها لفت نظر وتذكرة لكل حاكم وكل ملك وسلطان وفريق ولواء ونفر شرطة وكل شخص بل حتي كل شخص يتعامل مع الآخرين في الشارع أو الأسواق أو يسوق سيارة ولا يحترم الطريق، لعلنا نراجع سلوكنا وطريقة تعاملنا في الحياة اليومية سواءاً مع أنفسنا وأسرنا أو مع من هم حولنا .... إلخ. لك التحية والإحترام يا البوليس البريطاني فنحن نتعلم منك كل يوم درساً جديداً . وأختم مقالي هذا بأن التحضر والتمدن الذي نتمناه لأنفسنا وغيرنا لا يتحقق برفع العصي أو الهتافات أو أحلام اليقظة، إنما يحتاج تحقيقه إلي مراجعة كل الأمور وما تشمل مثل التربوية والتعليمية والصحية والبيئية والإقتصادية والقوانين والدساتير لتبني إصلاحاً جذراً يعم كل مناحي الحياة ومتطلباتها. السويد لم تتقدم وتصير موديل أوروبا المثالي في كل شيء إلا بعد أن تبنت إصلاحاً جذرياً طُبِق تطبيقاً صارماً وظلت المملكة السويدية تحافظ عليه وتطوره والمواطنين تتقبله طيلة الستين سنة الماضية. د. عبدالمنعم عبدالمحمود العربي